ـ 24 ـ
نقرات خفيفة على الباب. نادت الأم على ابنها القابع في غرفته بالطابق العلوي. لم يتوقع أن يزوره أحد. ارتضى العزلة عن الأهل والصحاب والتفرغ للمذاكرة. نزل مهرولا يستقبل مصطفى في زيارته المفاجئة. جلس قبالته مبتسما. قال:
ـ قارب العام على الانتصاف.. المفروض أن أعوض ما فاتني، وهو كثير..
ـ لن أعطلك. جئت أخبرك بأني قرأت الفاتحة أمس..
ـ نرجس ؟
فرح ونقل فرحته إلى أمه، فجاءت تبارك الخطوبة..
استأذن بعد دقائق، وقصد بيت أسرة الشيخ محمود. يسأل عن أحواله وظروفه. قالت زوجته :
ـ لا نعرف متى يخلون سبيله ؟
قدمت ابنته الشاي. تملكته الحيرة. ماذا يقول ليطمئنهم ؟ هو لا يعرف كيف يطمئن نفسه. كما قيل له : لا تسأل عن رجل غيبته زنازين الحكومة.
أردفت بعد صمت حائر :
ـ هناك أمل في الإفراج عن شخصية قيادية، مما يبشر بالإفراج عن مجموعة من المقبوض عليهم، كانوا يعتقدون أنهم تابعون له.
تنهدت وأكملت في حيرة :
ـ مجرد كلام نسمعه همسا، وقائلوه يوصون بعدم نقله لأحد.
قال مصطفى :
ـ فرج الله قريب.. قد أجلت الفرح لحين خروجه بالسلامة..
ـ كان الشيخ يقدرك ويحبك..
ـ إنه أستاذي، وأدين له بالفضل..
استأذن قاصدا حمزة. يريد أن يطير بخبر خطوبته في كل الأجواء، ويحدث عنه كل الناس. حبذا لو قام بإعلان الخطوبة في مكبر صوت، يسمع من يعرفهم ومن لا يعرفهم، بأنه خطب جميلة الجميلات، بأنه استجاب لخفقان قلبه..
ما إن حط قدمه عنده، وشرب الشاي معه، حتى قدم عويس.. فاتحا ذراعيه يحتضن حمزة، في عاصفة من السلامات والتحايا لم يفرغ منها بسهولة. فرح بقدومه وناوله الترانزستور الأمانة. قال عويس :
ـ يا رجل.. خليه معك..
ـ هذه أمانة..
ـ هل طارت الدنيا ؟
لم يسترح لتصرفه. أفاق على صوت مصطفى :
ـ أنا اتفقت على خطوبة نرجس.. قرأنا الفاتحة أمس..
ـ مبروك..
ما إن شرب شايه، حتى نهض مستأذنا، وقدماه تتنقلان من بيت لبيت، يشيع الخبر السعيد بين أهله وأصحابه، في فرح طفولي، وما أحس بتعب..
أتاه عويس كالقضاء المستعجل. لا بد أنه ينوي المبيت عدة ليال. وجريا على عادته، أعد بنفسه براد الشاي، وطفق يحدثه فيما جرت به المقادير. إذ لا مأوى له. بدا نخلة تطاول السماء وسط صحراء قاحلة...
قطع عليهما الحديث اثنان لم يرهما حمزة من قبل. نفى عويس معرفته بهما، أو أن يكونا من بلده. سأل أحدهما :
ـ من منكما صاحب الغرزة ؟
خبط حمزة على صدره. سأل الثاني :
ـ أين الرخصة ؟
سأله عويس :
ـ من أنتما ؟
ـ مباحث شرطة..
ولكمه لكمة قوية أطاحت به في ركن الحجرة. قال حمزة :
ـ لا توجد رخصة..
توجه إلى عويس :
ـ وأنت.. أين بطاقتك ؟
قال وهو ينكمش أكثر فأكثر :
ـ ليست معي بطاقة..
حملا أدوات الغرزة على عربة نصف نقل.. المنضدة والكراسي وأدوات إعداد الشاي والقهوة والأكواب، والسكر والشاي والبن.. لم يتركوا له شيئا.. حاول حمزة استمالتهما..
ـ ولا كلمة.. وإلا سأحمل الفرش الذي تنامان عليه. كيف تبني غرفة في ملك الحكومة ؟ من سمح لك بهذا ؟ مدخل النفق أرض ملك للحكومة..
اقشعر بدنه لسماع كلمة " النفق ".. قال بصوت جهير :
ـ النفق.. أنا حارس النفق. أنا مهموم به ليلا ونهارا..
قال الثاني متهكما :
ـ حارس ؟ من أذن لك بحراسته ؟
قال بصوت مرتعش :
ـ أنا خائف عليه.. من الأقدام التي تدنسه، من انهيار قد يحدث له في أي لحظة...
اقترب أحدهما من عويس، ممسكا بياقة جلبابه :
ـ ليست معك بطاقة ؟
قال حمزة مصححا :
ـ عويس ضيفي.. أقيم هنا من زمن..
وبكى...
ـ أنا على باب الله يا سعادة البيه.. ثم إني من أبطال المقاومة في بور سعيد..
قال عويس في مسكنة :
ـ سماح والنبي.. نحن على باب الله..
انهال الاثنان عليهما ضربا ولكما وشتما، فتكوما على الأرض مقطوعيْ الأنفاس.. لم يشفع لحمزة كبر سنه أو بطولاته أو مروءاته، ولا حراسته للنفق وقلقه عليه ليل نهار..
نظر حمزة إلى صاحبه نظرات شك. تفرس في وجهه وقال :
ـ منذ حللت، أتيت بالنكبات.. أشك أنهما من أتباعك..
ولكي يبرئ نفسه اقترح عليه أن يلجأ إلى الفتوة..
ـ لن يستطيع الفتوة الوقوف أمام الحكومة..
ـ سأحاول..
وعد الفتوة بشهامة يحسد عليها أن يحضر ما سلبوه قبل طلوع نهار يوم جديد.. ما هي إلا ساعات قليلة، إذا بالعربة نفسها تعود بما حملت، وردّ الرجلان ما كانا استوليا عليه. فحمد الله وشكر سيد سبرتو، الذي انتفخت أوداجه. كما شتم الرجلين، وطلب منهما الإسراع في إرجاع كل شيء إلى مكانه. قال أحدهما :
ـ أي خدمة يا معلم..
تسربت نظرات الشك في أن يكون الرجلان من رجال الشرطة.. المهم.. رجع كل شيء إلى مكانه، وإن شبع ضربا هو وصاحبه..
وفي شماتة، التقى ثروت فتحي في المدرسة. قال إن أخاه الكبير أوعز للفتوة بضرب حمزة نظير مبلغ سال له لعابه. انتقاما من لسع العصا التي انهال بها عليهما، هو والبنت التي ضبطها معه في وضع مشين !
هرع فتحي إليه يطمئن على حاله. رأى من واجبه أن يخبره بأنها فعلة ثروت، حتى يتقي شره. لكنه فوجئ به يحكي عن شهامة المعلم الذي أنقذه من رجال مجرمين.. احتدم جدل حول هوية الرجلين. أكد فتحي :
ـ أعتقد أنهما من أتباعه..
ثم نصح حمزة ألا يؤذي ثروت، حتى لا يتعرض لمثل هذه المواقف. ثار بشدة. أيترك النفق مكانا مستباحا لأعمال المسخرة والأفعال المشينة ؟ لم يجد مفرا من شرح ما حدث، طبقا لما قاله ثروت.. بدأ الاثنان يقتنعان بالدافع. لكنهما الآن أمام مشكلة أخلاقية، يتصدى لها الرجل مدافعا عن الفضيلة. قال حمزة :
ـ أأترك النفق مرتعا للسفلة عديمي الأخلاق ؟
استطرد بعد صمت قصير :
ـ أغرى المال الفتوة. لكني أشك في علمه سبب الانتقام. إنه مجرد أداة جندها ثروت وأخوه، لكنه لا يعرف أصل الحكاية. لم أعهده يتدخل في موضوع يمس العرض والشرف. لم يقل له أحد ما فعله ثروت. الأفضل أن نقول له، حتى لا يتورط في مثل هذه المسائل.
أطرق حمزة حزينا، ثم قال :
ـ أنا صعبان عليّ منه.. إنه دفع رجاله لإيذائي..
قال عويس :
ـ قد يكون رجاله قاموا بالضرب دون علمه..
وخيمت سحابة قاتمة من الصمت الثقيل..