رد: وفاة الدكتور طه وادي
عصر الليمون
بقلم: د.عبد المنعم عبد المجيد
جامعة المنوفية
..............................................
في عمله الروائي الجديد "عصر الليمون" (مكتبة مصر) يتجلى بوضوح إدراك الدكتور طه وادي لعناصر الرواية مثل الشخصية والمكان والزمان، كما تمتزج فيها تقنيات روائية مختلفة وبوجه خاص تقنية كتابة السيرة الذاتية مع الطرق الفنية التقليدية في كتابة القصة، حيث تتداخل في الرواية أساليب متعددة للقص والروي منها التقليدي والمعاصر والقديم والجديد والراوي شامل المعرفة وضمير الغائب وضمير المتكلم وتيار الوعي. وتتقابل فيها مفارقات عدة خاصة بالتيمات والتكنيك الجديد الذي اتبعه الكاتب، إذ يلتحم الزمان بالمكان والحياة بالموت والحاضر بالماضي واللحظة الحية الممزوجة بالتأمل في أسباب الموت؛ كل ذلك في تناسق فني يتمحور حول بناء الرواية وتصوير الواقع.
فنحن نعتقد في بادئ الأمر أن بطل الرواية هو د.حمدي الحسيني، نائب رئيس قسم الأطفال في مستشفى الجيزة أو أحد الشخصيات من أعضاء شلة الحرافيش وأصدقاء عمر البطل منذ الصبا وشرخ الشباب: حسن الشاعر (الصحفي بجريدة الأمة ـ إحدى صحف المعارضة المصرية) وأحمد حلمي (ضابط جيش متقاعد أصيب في حرب أكتوبر 1973) وأدهم بدير (يساري قديم كان يعمل مدرسا للغة الإنجليزية غير أنه أبعد عن التدريس بعد اعتقاله أكثر من مرة وحول إلى وظيفة إدارية فاستقال وتعاقد للعمل بإحدى دول الخليج، وعاد بعد حوالي عشر سنوات وأصبح صاحب كازينو سياحي بشارع الهرم)، وسميح عبد المسيح (فنان تشكيلي)، وعبد الله عاشور (الذي كان يعمل مدرس فلسفة ويهوى كتابة القصة والرواية9؛ إلا أننا بعد أن نمضي في قراءة الرواية ندرك أن بطلها هو حسن الشاعر ـ الصحفي الضال.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام عامة يتناغم الأسلوب فيها والبناء الروائي في توازن وتناسق يحسب للكاتب المبدع والناقد الروائي معا. أما القسم الأول فيحتوي على أربعة فصول معنونة كالتالي: "إخوان الصفا" و"في مهب الريح" و"أوراق رسمية" و"إنهم يطفئون النور"، ويحتوي القسم الثاني على مذكرات بطل الرواية حسن الشاعر وجاء بعنوان "ذكريات صحفي ضال". وانقسم هذا الجزء الذي يمثل إضافة إلى الفن الروائي في الأدب العربي المعاصر بعد مقدمة بعنوان "تنوير وتحذير" تلتها فصول عشرة استهلها الكاتب بالفصل الأول "فصول من كتاب الحب" وتتابعت الفصول الأخرى بعناوين "الحلم والكابوس" و"خسوف القمر" و"منازل الأموات" و"متى تطلع العذراء من خدرها؟" و"جمرة الضوء" و"شرفة الأمل" و"أحزان الصباح" و"أنشودة الشوق" و"لا يزال النهر يجري". ثم جاء القسم الثالث ليضم فصلين بعنوان "هناك سيء ما" و"من قتل الشاعر؟". ويعتبر هذا الجزء بمثابة تكملة للجزء الأول، حيث يمثل الزمن الحاضر وكذا الإطار الأساسي للرواية الذي خرج منه الجزء الأوسط الذي يمثل عملية توليد لرواية داخل رواية، ويتشابه ذلك إلى حد كبير، مع تقنية درامية اتبعها كثير من كتاب المسرح الكبار ومنهم وليم شكسبير في مسرحيته (هاملت) وهي المسرحية داخل المسرحية وكانت في حالة هاملت مسرحية (مقتا جونزالو) التي أراد منها بطل المسرحية عدة أهداف من بينها إثبات تهمة قتل أبيه على عمه الملك كلوديوس كما كان لها أهداف أخرى لدى شكسبير تتعلق بتطور ونقد الحركة المسرحية في عصره.
على أن الجزء الأول يمثل بداية تقليدية للقصة الأصلية وهي قصة حسن الشاعر التي رواها في مذكراته التي أراد ألا يطلع عليها أحد حتى بعد موته. فيروي لنا الراوي شامل المعرفة في الجزء الأول أخبار أصدقاء د.حمدي الذين يطلق عليهم شلة الحرافيش ـ وهم بالمناسبة ليسوا بحرافيش نجيب محفوظ ـ التي تجمع أعضائها صداقة عجيبة يندر وجودها في هذه الأيام التي طغت فيها المادة والقيم الدخيلة على المجتمع المصري، حيث يمهد الكاتب لمقتل حسن الشاعر واكتشاف جثته، وحيث يبث الراوي رؤيته وفلسفته في الحياة ودور الصدفة فيها. ويروي الكثير عن جذور تلك الصداقة التي جمعتهم ولقاءاتهم في شقة حسن الشاعر الواقعة في حارة من حارات الدقي القديمة. ويقول أن السبب في ذلك "ليس لأنه (أي حسن) أكبرهم سنا، لكن أكثرهم استقرارا وواقعية، بالإضافة إلى أنه أعزب يعيش في الشقة منذ تخرج في الجامعة، كان يمكن أن يغيرها بعد ذلك دون أن يدفع مليما واحدا. لا.. لن تكون رشوة. فحسن لا يقبل الرشوة أو الاستغلال، وإنما ستكون هدية أو مجاملة من بعض معارفه.. لكنه متزمت في أمور القيم والمبادئ". وسرعان ما تحدث هزة درامية وتتغير آلية السرد في الرواية بمقتل حسن الشاعر الفجائي الذي يهز كيان الشلة ويغير تقنية ومسار أحداث الرواية باكتشاف مذكرات حسن الشاعر ونشرها لتأخذ مكانا رئيسيا في بناء الرواية. ولم تجد الأوراق الرسمية (مثل تقرير ضابط المباحث وتقرير مفتش المباحث الجنائية وتقرير الطب الشرعي وتقرير وكيل نيابة الدقي) في العثور على أي دليل يقود الشرطة والنيابة إلى الجناة أو كشف سر الجريمة.
وتتلخص مأساة حسن الشاعر في سيرة حياته التي نعرف تفاصيلها من ذكرياته، فهو يقدم في مقدمتها قصة انهيار الحلم في حياته أو كيف تحول هذا الحلم إلى كابوس مزعج ينتهي بمقتله. فنرى كيف انهار الحلم الخاص في أن يصبح صحفيا وكاتبا وربا لأسرة كسائر البشر، والحلم العام في أن تصبح بلاده في مقدمة الأمم. فالعيب يكمن في أهل هذا الزمان. وتمثل عملية تسجيل ذكريات حسن الشاعر، كما يقول هو، علاجا لنفسه من أوجاع هذا الزمان الذي ضل فيه الناس طريق الحق والخير والجمال. ثم يروي لنا قصته.. فقد انفصل والداه بعد عام من ولادته وتزوج كل منهما من آخر، واحتضنته جدته لأمه التي كان لها فضل تربيته إلى أن تخرج في الجامعة. وبعد أن عمل في الصحافة (في جريدة الأمة الجريدة الناطقة بلسان أحد أحزاب المعارضة) أراد أن يتزوج ممن أحبها ـ هالة توفيق ـ صحفية تحت التمرين في الجريدة. لكن حلمه الخاص انهار بزلزال شديد تمثل في تعرض هالة للاغتصاب الغادر على يد مجموعة من الشبان المارقين، وحيث أن هالة لم تحتمل الكارثة التي نتج عنها حمل سفاح فماتت أثناء إجراء عملية الإجهاض لكي تتخلص من آثار العدوان على شرفها وآدميتها. وربما يريد المؤلف هنا أن يوحي لنا بأن هاله لم تحتمل الحياة لأنها اغتيلت على يد هذه المجموعة الضالة. ويقدم لنا الكاتب معادلا موضوعيا للمأساة على المستوى العام يتمثل في تزامن حادثة اغتصاب هالة وموتها مع حادث اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات.
يروي حسن الشاعر قصته على طريقة تيار الوعي بما فيها من أسلوب (الفلاش باك) ويعرض لأفكاره كصحفي تؤرقه هموم وطنه، وقد فادته مهنته وكتاباته إلى مكاتب وزارة الداخلية وإلى التصادم مع من يسمونأنفسهم بالجماعات الإسلامية. وحاول أن يؤلف كتابا بعنوان (مستقبل العالم العربي في ظل الانفتاح أو الإرهاب) ويطوف بنا حسن على المشكلات الشخصية التي تواجهه في علاقته بأبيه في القرية وعلاقته بجيرانه في المدينة التي هي أيضا جزء لا يتجزأ من مشكلة الوطن كله. وتنتهي مذكرات أو ذكريات الشاعر قبل مقتله مع بداية عام 1990.
والكاتب إذ يقدم لنا المنظومة الثنائية التقليدية للزمن المتمثلة في التوازي ما بين الحاضر والماضي والخاص والعام، فإنه يقدم لنا علاوة على ذلك ما يمكن أن يسمى بالزمن الشامل الذي يسجل الأحداث السياسية التي جرت إبان حاضر وماضي شخصيات الراوي. فالقاص حريص على تسجيل الأحداث السياسية التي أثرت على حياة الشخصيات أو تعادلت معها مثل حرب أكتوبر 1973 ومعاهدة السلام، وانتقال الجامعة العربية إلى تونس، وعودتها إلى القاهرة، وأحداث سبتمبر 1981 وحادثة اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات (6 أكتوبر 1981)، والحرب العراقية الإيرانية (1981 ت 1988) وغيرها. كما يقدم لنا الأزمات الاقتصادية التي حدثت في مصر مثل صعود وانهيار شركات توظيف الأموال. وتمر تداعيات تلك الأحداث خلال وعي حسن الشاعر في ذكرياته أو سجل ذاكرته، لأن الكاتب يوحي لنا بوجود توحد بين وعي حسن وهذه الأزمات، ولأن الكاتب يجعل من وعي حسن وعيا مطلقا قادرا على الفهم وتأويل ما يحدث على مستوى الوطن العربي الذي هو جزء من همه الأكبر.
تتمثل الإشارات الرمزية في الرواية في جوانب عديدة منها عنوان الرواية ذاتها. فكلمة "عصر" قد تشير إلى زمن وكلمة "الليمون" ربما تدل على الكثرة على غرار المثل العامي المصري المعبر "العدد في الليمون"؛ وربما تعني كلمة "عصر" عملية الضغط الشديد على الليمونة، وتشابه ذلك ودلالته على الضغط والأزمات التي يتعرض لها إنسان العصر الحاضر الذي يمثله في الرواية حسن الشاعر الذي عصرته تجارب الحياة المرة التي مرت به، وتشير كلمة الليمون إلى عصير الليمون التي ترد في الرواية كالمشروب المفضل لحسن الشاعر وهالة توفيق ود.حمدي الحسيني.
ولاشك أن الدكنور طه وادي ـ وهو في الأصل ناقد له باع طويل في مجال نقد الرواية ـ قد أفاد بشكل أو بآخر من وعيه بالنظريات الحديثة في السرد ومستوياته عند نقاد الرواية في الغرب. على أن ما يحسب له هنا أيضا هو الشكل المبتكر للرواية العربية وتعدد أساليب السرد في منظومة تمثل مرحلة أخرى جديدة في حياته الإبداعية، تضاف إلى رواياته الأخرى بدءا من الأفق البعيد (1984) وانتهاء بالكهف السحري (1994) ومجموعاته القصصية ابتداء بمجموعة عمار يا مصر (1980) وانتهاء بمحموعة صرخة في غرفة زرقاء (1996).
الذي لا ريب فيه هو أن "عصر الليمون" تعد إضافة جيدة وجادة في مسيرة الرواية العربية المعاصرة قدم فيها طه وادي ـ باقتدار وتمكن ـ رؤية جديدة لأحوال العالم العربي المضطربة في ظل الانفتاح والإرهاب، كما قدم ـ في الوقت نفسه ـ تشكيلا سرديا غير مألوف، يستعين بآليات سردية غير مسبوقة في كتابة الرواية العربية.
عصر الليمون
بقلم: د.عبد المنعم عبد المجيد
جامعة المنوفية
..............................................
في عمله الروائي الجديد "عصر الليمون" (مكتبة مصر) يتجلى بوضوح إدراك الدكتور طه وادي لعناصر الرواية مثل الشخصية والمكان والزمان، كما تمتزج فيها تقنيات روائية مختلفة وبوجه خاص تقنية كتابة السيرة الذاتية مع الطرق الفنية التقليدية في كتابة القصة، حيث تتداخل في الرواية أساليب متعددة للقص والروي منها التقليدي والمعاصر والقديم والجديد والراوي شامل المعرفة وضمير الغائب وضمير المتكلم وتيار الوعي. وتتقابل فيها مفارقات عدة خاصة بالتيمات والتكنيك الجديد الذي اتبعه الكاتب، إذ يلتحم الزمان بالمكان والحياة بالموت والحاضر بالماضي واللحظة الحية الممزوجة بالتأمل في أسباب الموت؛ كل ذلك في تناسق فني يتمحور حول بناء الرواية وتصوير الواقع.
فنحن نعتقد في بادئ الأمر أن بطل الرواية هو د.حمدي الحسيني، نائب رئيس قسم الأطفال في مستشفى الجيزة أو أحد الشخصيات من أعضاء شلة الحرافيش وأصدقاء عمر البطل منذ الصبا وشرخ الشباب: حسن الشاعر (الصحفي بجريدة الأمة ـ إحدى صحف المعارضة المصرية) وأحمد حلمي (ضابط جيش متقاعد أصيب في حرب أكتوبر 1973) وأدهم بدير (يساري قديم كان يعمل مدرسا للغة الإنجليزية غير أنه أبعد عن التدريس بعد اعتقاله أكثر من مرة وحول إلى وظيفة إدارية فاستقال وتعاقد للعمل بإحدى دول الخليج، وعاد بعد حوالي عشر سنوات وأصبح صاحب كازينو سياحي بشارع الهرم)، وسميح عبد المسيح (فنان تشكيلي)، وعبد الله عاشور (الذي كان يعمل مدرس فلسفة ويهوى كتابة القصة والرواية9؛ إلا أننا بعد أن نمضي في قراءة الرواية ندرك أن بطلها هو حسن الشاعر ـ الصحفي الضال.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام عامة يتناغم الأسلوب فيها والبناء الروائي في توازن وتناسق يحسب للكاتب المبدع والناقد الروائي معا. أما القسم الأول فيحتوي على أربعة فصول معنونة كالتالي: "إخوان الصفا" و"في مهب الريح" و"أوراق رسمية" و"إنهم يطفئون النور"، ويحتوي القسم الثاني على مذكرات بطل الرواية حسن الشاعر وجاء بعنوان "ذكريات صحفي ضال". وانقسم هذا الجزء الذي يمثل إضافة إلى الفن الروائي في الأدب العربي المعاصر بعد مقدمة بعنوان "تنوير وتحذير" تلتها فصول عشرة استهلها الكاتب بالفصل الأول "فصول من كتاب الحب" وتتابعت الفصول الأخرى بعناوين "الحلم والكابوس" و"خسوف القمر" و"منازل الأموات" و"متى تطلع العذراء من خدرها؟" و"جمرة الضوء" و"شرفة الأمل" و"أحزان الصباح" و"أنشودة الشوق" و"لا يزال النهر يجري". ثم جاء القسم الثالث ليضم فصلين بعنوان "هناك سيء ما" و"من قتل الشاعر؟". ويعتبر هذا الجزء بمثابة تكملة للجزء الأول، حيث يمثل الزمن الحاضر وكذا الإطار الأساسي للرواية الذي خرج منه الجزء الأوسط الذي يمثل عملية توليد لرواية داخل رواية، ويتشابه ذلك إلى حد كبير، مع تقنية درامية اتبعها كثير من كتاب المسرح الكبار ومنهم وليم شكسبير في مسرحيته (هاملت) وهي المسرحية داخل المسرحية وكانت في حالة هاملت مسرحية (مقتا جونزالو) التي أراد منها بطل المسرحية عدة أهداف من بينها إثبات تهمة قتل أبيه على عمه الملك كلوديوس كما كان لها أهداف أخرى لدى شكسبير تتعلق بتطور ونقد الحركة المسرحية في عصره.
على أن الجزء الأول يمثل بداية تقليدية للقصة الأصلية وهي قصة حسن الشاعر التي رواها في مذكراته التي أراد ألا يطلع عليها أحد حتى بعد موته. فيروي لنا الراوي شامل المعرفة في الجزء الأول أخبار أصدقاء د.حمدي الذين يطلق عليهم شلة الحرافيش ـ وهم بالمناسبة ليسوا بحرافيش نجيب محفوظ ـ التي تجمع أعضائها صداقة عجيبة يندر وجودها في هذه الأيام التي طغت فيها المادة والقيم الدخيلة على المجتمع المصري، حيث يمهد الكاتب لمقتل حسن الشاعر واكتشاف جثته، وحيث يبث الراوي رؤيته وفلسفته في الحياة ودور الصدفة فيها. ويروي الكثير عن جذور تلك الصداقة التي جمعتهم ولقاءاتهم في شقة حسن الشاعر الواقعة في حارة من حارات الدقي القديمة. ويقول أن السبب في ذلك "ليس لأنه (أي حسن) أكبرهم سنا، لكن أكثرهم استقرارا وواقعية، بالإضافة إلى أنه أعزب يعيش في الشقة منذ تخرج في الجامعة، كان يمكن أن يغيرها بعد ذلك دون أن يدفع مليما واحدا. لا.. لن تكون رشوة. فحسن لا يقبل الرشوة أو الاستغلال، وإنما ستكون هدية أو مجاملة من بعض معارفه.. لكنه متزمت في أمور القيم والمبادئ". وسرعان ما تحدث هزة درامية وتتغير آلية السرد في الرواية بمقتل حسن الشاعر الفجائي الذي يهز كيان الشلة ويغير تقنية ومسار أحداث الرواية باكتشاف مذكرات حسن الشاعر ونشرها لتأخذ مكانا رئيسيا في بناء الرواية. ولم تجد الأوراق الرسمية (مثل تقرير ضابط المباحث وتقرير مفتش المباحث الجنائية وتقرير الطب الشرعي وتقرير وكيل نيابة الدقي) في العثور على أي دليل يقود الشرطة والنيابة إلى الجناة أو كشف سر الجريمة.
وتتلخص مأساة حسن الشاعر في سيرة حياته التي نعرف تفاصيلها من ذكرياته، فهو يقدم في مقدمتها قصة انهيار الحلم في حياته أو كيف تحول هذا الحلم إلى كابوس مزعج ينتهي بمقتله. فنرى كيف انهار الحلم الخاص في أن يصبح صحفيا وكاتبا وربا لأسرة كسائر البشر، والحلم العام في أن تصبح بلاده في مقدمة الأمم. فالعيب يكمن في أهل هذا الزمان. وتمثل عملية تسجيل ذكريات حسن الشاعر، كما يقول هو، علاجا لنفسه من أوجاع هذا الزمان الذي ضل فيه الناس طريق الحق والخير والجمال. ثم يروي لنا قصته.. فقد انفصل والداه بعد عام من ولادته وتزوج كل منهما من آخر، واحتضنته جدته لأمه التي كان لها فضل تربيته إلى أن تخرج في الجامعة. وبعد أن عمل في الصحافة (في جريدة الأمة الجريدة الناطقة بلسان أحد أحزاب المعارضة) أراد أن يتزوج ممن أحبها ـ هالة توفيق ـ صحفية تحت التمرين في الجريدة. لكن حلمه الخاص انهار بزلزال شديد تمثل في تعرض هالة للاغتصاب الغادر على يد مجموعة من الشبان المارقين، وحيث أن هالة لم تحتمل الكارثة التي نتج عنها حمل سفاح فماتت أثناء إجراء عملية الإجهاض لكي تتخلص من آثار العدوان على شرفها وآدميتها. وربما يريد المؤلف هنا أن يوحي لنا بأن هاله لم تحتمل الحياة لأنها اغتيلت على يد هذه المجموعة الضالة. ويقدم لنا الكاتب معادلا موضوعيا للمأساة على المستوى العام يتمثل في تزامن حادثة اغتصاب هالة وموتها مع حادث اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات.
يروي حسن الشاعر قصته على طريقة تيار الوعي بما فيها من أسلوب (الفلاش باك) ويعرض لأفكاره كصحفي تؤرقه هموم وطنه، وقد فادته مهنته وكتاباته إلى مكاتب وزارة الداخلية وإلى التصادم مع من يسمونأنفسهم بالجماعات الإسلامية. وحاول أن يؤلف كتابا بعنوان (مستقبل العالم العربي في ظل الانفتاح أو الإرهاب) ويطوف بنا حسن على المشكلات الشخصية التي تواجهه في علاقته بأبيه في القرية وعلاقته بجيرانه في المدينة التي هي أيضا جزء لا يتجزأ من مشكلة الوطن كله. وتنتهي مذكرات أو ذكريات الشاعر قبل مقتله مع بداية عام 1990.
والكاتب إذ يقدم لنا المنظومة الثنائية التقليدية للزمن المتمثلة في التوازي ما بين الحاضر والماضي والخاص والعام، فإنه يقدم لنا علاوة على ذلك ما يمكن أن يسمى بالزمن الشامل الذي يسجل الأحداث السياسية التي جرت إبان حاضر وماضي شخصيات الراوي. فالقاص حريص على تسجيل الأحداث السياسية التي أثرت على حياة الشخصيات أو تعادلت معها مثل حرب أكتوبر 1973 ومعاهدة السلام، وانتقال الجامعة العربية إلى تونس، وعودتها إلى القاهرة، وأحداث سبتمبر 1981 وحادثة اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات (6 أكتوبر 1981)، والحرب العراقية الإيرانية (1981 ت 1988) وغيرها. كما يقدم لنا الأزمات الاقتصادية التي حدثت في مصر مثل صعود وانهيار شركات توظيف الأموال. وتمر تداعيات تلك الأحداث خلال وعي حسن الشاعر في ذكرياته أو سجل ذاكرته، لأن الكاتب يوحي لنا بوجود توحد بين وعي حسن وهذه الأزمات، ولأن الكاتب يجعل من وعي حسن وعيا مطلقا قادرا على الفهم وتأويل ما يحدث على مستوى الوطن العربي الذي هو جزء من همه الأكبر.
تتمثل الإشارات الرمزية في الرواية في جوانب عديدة منها عنوان الرواية ذاتها. فكلمة "عصر" قد تشير إلى زمن وكلمة "الليمون" ربما تدل على الكثرة على غرار المثل العامي المصري المعبر "العدد في الليمون"؛ وربما تعني كلمة "عصر" عملية الضغط الشديد على الليمونة، وتشابه ذلك ودلالته على الضغط والأزمات التي يتعرض لها إنسان العصر الحاضر الذي يمثله في الرواية حسن الشاعر الذي عصرته تجارب الحياة المرة التي مرت به، وتشير كلمة الليمون إلى عصير الليمون التي ترد في الرواية كالمشروب المفضل لحسن الشاعر وهالة توفيق ود.حمدي الحسيني.
ولاشك أن الدكنور طه وادي ـ وهو في الأصل ناقد له باع طويل في مجال نقد الرواية ـ قد أفاد بشكل أو بآخر من وعيه بالنظريات الحديثة في السرد ومستوياته عند نقاد الرواية في الغرب. على أن ما يحسب له هنا أيضا هو الشكل المبتكر للرواية العربية وتعدد أساليب السرد في منظومة تمثل مرحلة أخرى جديدة في حياته الإبداعية، تضاف إلى رواياته الأخرى بدءا من الأفق البعيد (1984) وانتهاء بالكهف السحري (1994) ومجموعاته القصصية ابتداء بمجموعة عمار يا مصر (1980) وانتهاء بمحموعة صرخة في غرفة زرقاء (1996).
الذي لا ريب فيه هو أن "عصر الليمون" تعد إضافة جيدة وجادة في مسيرة الرواية العربية المعاصرة قدم فيها طه وادي ـ باقتدار وتمكن ـ رؤية جديدة لأحوال العالم العربي المضطربة في ظل الانفتاح والإرهاب، كما قدم ـ في الوقت نفسه ـ تشكيلا سرديا غير مألوف، يستعين بآليات سردية غير مسبوقة في كتابة الرواية العربية.
تعليق