المتنبي يهجو كافوراً الإخشيدي
بقلم الدكتور : بكري شيخ أمين
مناسبة القصيدة:
كان أبو الطيب وصل إلى مرحلة اليأس والقنوط والإحباط في مصر ، ودخل في مرحلة نفسية معتمةٍ ، فلا هو في العير ولا هو في النفير .. أهمل مجالسَ كافور ، فما عاد يتردد عليها ، وحين كان يطلب منه قصيدة مادحة كان الشاعر الحزين يرفض القول والنشيد فلا ينقاد للطلب .. وهجَر عِشرةَ الناس ، ولقاءَهم ، وصار ينفرد بذاته ، ويخلو بنفسه، ويجتر آلامه ، ويرسم الخطط التي تنقذه من هذا الشَّرَك الذي أوقعه به كافور .
وبدأ المرجل النفسي يغلي شيئاً فشيئاً ، ويضطرب ويزداد اضطراباً ، ثم راح يقذف بالزبد ، ويتعالى صوت جَيَشانه .. وقبل أن يطفح الكيل ، جاء إلى كافور وسأله صراحة عن وعده بحكم ضيعة أو ولاية أو أي مكان .. وبَيَّن له أنه ما قدِم إلى مصر إلا بعد أن اطمأنّ إلى وعوده البراقة . فأجابه كافور :
" أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سَمَتْ نفسك إلى النبوة ، فإن أصبتَ ولاية صار لك أتباع ، فمن يطيقك ؟ " .
وسواء أكان رد كافور عنيفاً أم لا ، فهذا لا أهمية له ، فلن يخدع الشاعر بعد الآن لقد كانت نقمته على الرجل الملوّن المخادع ، وخيبة أمله في انهيار مشاريعه عظيمتين .
ولم يخطئ كافور في تعرف نوايا أبي الطيب ، فقد أدرك حقيقة مشاعره نحوه ، وكان يعلم أنه سيفرُّ من الفسطاط عند سنوح أول فرصة ، وأنه سيعقب فراره بشعر هجائي وسخرية لاذعة ، فنشر الجواسيس يراقبون أبا الطيب ؛ وعرف المتنبي كل هذا ، فكظم غيظه وأخفى عواطفه وخططه
ويبدو أنه أتخذ لنفسه حراساً انتقاهم من عبيده الأشداء لمقاومة كل هجوم محتمل ، وكانت خطته زيادة في إمكانية نجاحها أن يغتنم فرصة احتفالات الناس بعيد الأضحى للخروج من الفسطاط ، وكان التاسع من شهر ذي الحجة ، وهو مناسبة تجري فيها مراسم واستعراضات ، تجلب جمهوراً كبيراً من الناس ، وهي خير فرصة للهرب والتخفي .
في اليوم التاسع من الشهر المذكور ، خرج المتنبي سراً من الفسطاط ، تتقدمه الإبل المحملة بالسلاح والأمتعة والزاد لعدة أيام ، وأغذَّ السير ، فاجتاز برزخ السويس ، ثمّ أوغل في صحراء التيه شمالي سيناء .
وتنبه القوم بسرعة إلى فراره ، فلم يستطيعوا اللحاق به ؛ وكان غيظ كافور شديداً جداً ، وأراد المتنبي بعد أن أصبح بعيداً وآمناً أن يشهَد الناس مرة واحدة– على الأقل ـ على الازدراء الذي يكنّه لسيده القديم ، وتولت أيدٍ أمينةٌ إيصالَ قصيدة هجائية مقذعة إلى الخصيِّ كافور ، ولكن العملية لم تنجح ، لأن كافوراً شكّ في محتواها ، فأمر بإحراقها ، ولم يقف على ما فيها .
القصيدة
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ" = "بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ" = "فَلَيتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيدُ
لَولا العُلا لَم تَجُب بي ما أَجوبُ بِها" = "وَجناءُ حَرفٌ وَلا جَرداءُ قَيدودُ
وَكانَ أَطيَبَ مِن سَيفي مُضاجَعَةً" = "أَشباهُ رَونَقِهِ الغيدُ الأَماليدُ
لَم يَترُكِ الدَهرُ مِن قَلبي وَلا كَبِدي" = "شَيئًا تُتَيِّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ
يا ساقِيَيَّ أَخَمرٌ في كُؤوسِكُما" = "أَم في كُؤوسِكُما هَمٌّ وَتَسهيدُ
أَصَخرَةٌ أَنا مالي لا تُحَرِّكُني" = "هَذي المُدامُ وَلا هَذي الأَغاريدُ
إِذا أَرَدتُ كُمَيتَ اللَونِ صافِيَةً" = "وَجَدتُها وَحَبيبُ النَفسِ مَفقودُ
ماذا لَقيتُ مِنَ الدُنيا وَأَعجَبُهُا" = "أَنّي بِما أَنا باكٍ مِنهُ مَحسودُ
أَمسَيتُ أَروَحَ مُثرٍ خازِنًا وَيَدًا" = "أَنا الغَنِيُّ وَأَموالي المَواعيدُ
إِنّي نَزَلتُ بِكَذّابينَ ضَيفُهُمُ" = "عَنِ القِرى وَعَنِ التَرحالِ مَحدودُ
جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ" = "مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ
ما يَقبِضُ المَوتُ نَفسًا مِن نُفوسِهِمُ" = "إِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُ
مِن كُلِّ رِخوِ وِكاءِ البَطنِ مُنفَتِقٍ" = "لا في الرِجالِ وَلا النِسوانِ مَعدودُ
أَكُلَّما اغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ" = "أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ
صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها" = "فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ
نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها" = "فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ
العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ" = "لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ
لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ" = "إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ
ما كُنتُ أَحسَبُني أبقى إِلى زَمَنٍ" = "يُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُ
وَلا تَوَهَّمتُ أَنَّ الناسَ قَد فُقِدوا" = "وَأَنَّ مِثلَ أَبي البَيضاءِ مَوجودُ
وَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُهُ" = "تُطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُ
جَوعانُ يَأكُلُ مِن زادي وَيُمسِكُني" = "لِكَي يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقصودُ
إِنَّ امرأً أَمَةٌ حُبلى تُدَبِّرُهُ" = "لَمُستَضامٌ سَخينُ العَينِ مَفؤودُ
وَيلُمِّها خُطَّةً وَيلُمِّ قابِلِها" = "لِمِثلِها خُلِقَ المَهرِيَّةُ القُودُ
وَعِندَها لَذَّ طَعمَ المَوتِ شارِبُهُ" = "إِنَّ المَنِيَّةَ عِندَ الذُلِّ قِنديدُ
مَن عَلَّمَ الأَسوَدَ المَخصِيَّ مَكرُمَةً" = "أَقَومُهُ البيضُ أَم آبائُهُ الصيدُ
أَم أُذنُهُ في يَدِ النَخّاسِ دامِيَةً" = "أَم قَدرُهُ وَهوَ بِالفَلسَينِ مَردودُ
أَولى اللِئامِ كُوَيفيرٌ بِمَعذِرَةٍ" = "في كُلِّ لُؤمٍ وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ
وَذاكَ أَنَّ الفُحولَ البيضَ عاجِزَةٌ" = "عَنِ الجَميلِ فَكَيفَ الخِصيَةُ السودُ
في رأيي لو أنَّ كافوراً أعطى أبا الطيب حُكْم مصر كلها لكان خيراً له من أن تقال فيه هذه القصيدة الرائعة الخالدة ، فحكم مصر ينتهي بانتهاء حياة المتنبي أو كافور ، ثمّ يأتي بعدهما حاكم آخر ؛ أما القصيدة فلا ينتهي أثرها بانتهاء حياة هذا أو ذاك ، وإنما هي باقية خالدة ، ترددها الأجيال بعد الأجيال ، ويدرسها الطلبة في مدارسهم على اختلاف درجاتها ومستوياتها ، يحفظونها عن ظهر قلب ، ويستشهدون ببعض أبياتها في مناسبات شتى وفي مختلف أقطار الوطن العربي .
لقد أخطأ كافور في عدم تولية المتنبي حكم صيدا ، أو أيّ ضيعة أو ولاية ، وكان بإمكانه أن يتفادى النقمة الكبرى ، بل الفضيحة الخالدة على مر العصور وكرّ الدهور .
فالقصيدة لا تشبه هجاء حسان بن ثابت لقريش ، ولا هجاء جرير للفرزدق أو الأخطل ، ولا الكميت لبني أمية ، ولا هجاء جميع الشعراء لحكامهم أو لخصومهم ، وإنما هي نسيج وَحْدِه ؛ خالدة على مر الزمن ، لم تنقص الأيام والسنون حرارتها ، لم تطفئ لهبها ولم تخمد سعيرها .
ولا شكَّ أنّ سر نجاحها وروعتها في المقام الأول : صدق عاطفة صاحبها ، وشدة ثورته ، بل غليان مرجله النفسي إلى درجة الانفجار ؛ وحقاً كان ذلك الانفجار
ولو تخيلنا صورة الشاعر وتعبيرات وجهه ، وهو ينظم القصيدة هالنا المنظر ، وروّعتنا تلك التعبيرات ، وأخافتنا تلك الزمجرات ، واصطكاك أسنانه من شدّة الانفعالات .
شرح معاني الأبيات:
تَصَوَّرَ أبو الطيب رجلاً يبارك له بمَقْدم العيد ، ويهنئه بحلوله ، ويتمنى له دوام الصحة والعافية والعمر الطويل . وبرزت على وجه الشاعر إماراتُ الأسى ، وعلامات القهر والذل ، وراح يسأل نفسه ، أو يقول لصاحبه : أتهنّئني بالعيد ، وأيَّ عيد تَعني ؟ وهل نحن نعيش فرحة العيد كما يجب أن تكون الفرحة ، ونستقبل العيد كما يجب أن يُستقبل ؟؟ وبماذا نفرح ، بل لماذا ، هل نحن بخير ، هل نحن بنعمى ، هل نحن إلا مضطهدون حيارى ضائعون ، في العتمات نصحو وننام ؟
ولماذا العيد ؟ بأية حال عدْتَ يا هذا العيد ! أعدت بالذل والهوان والعَسْف والقهر والكذب وألوان البلايا كعهدي بك ، تحملها لي في كل قدوم ، أم جئت تحمل جديداً وفرحاً وبشرى ؟؟
أنا لا أظنُّك تعرف الخير ولا الفرح .. فأنت أنت.. في الماضي وفي الحاضر .. وغداً إلى نهاية الزمان ..
أين أهلي ؟ أين أصحابي ؟ أين أحبتي ؟ أين أصفيائي ؟ أين فرحي ؟ أين هناء أيامي ؟ أنت لا تعرفها يا عيد ! وأنت لا تحمِلها ! وأنت لا تبشِّرني بقدومها ! إذن !! فلْتخسأْ يا عيد ! ولْتذهبْ إلى غير عودة .. ولأبقَ أنا الضائعَ الغريبَ الباكي .. في أرض التيه وصحراء الضياع ، وضياع فرحة العيد .
عدْ أيها العيد من حيث قدمت ، أنا لا أريدك ، ولا أحبك ، ولتكن كل مسافات الدنيا ، وصحراواتها فاصلاً بيني وبينك !
سأبقى أنا رجلَ المعالي ، وطالبَ العز والمجد والشموخ . ولولا العلا لم أمتَط صهوة جواد أصيل ، أو ظهر ناقة قوية شديدة التحمل ، وأقطع المسافات ، وأجوب الأرجاء ولو حملت غير ذلك لهجرت السيف البتار ، وركنت إلى زاوية أتعاطى الحب والمُدام مع غادة غراءَ فرعاءَ مصقولٍ عوارضُها ، وعبَبْت اللذات ، ونهبت الشهوات ..
ولكن أوّاه .. ثمَّ أوّاه !!
هل أصلح أنا لتلك الأمور ، بل هل أبقى ليَ الزمان من قلبي وكبدي شيئاً تتيِّمه عين ، أو يسحره جيد ؟ لقد غدوتُ بالياً في كلّ شيء .. فلا عيدَ .. ولا فرحَ .. ولا حبَّ .. ولا عين َ .. ولا جيدَ .. تَصلُح لي ، أو أَصلحُ لها ..
وراح الشاعر يَشرَق بالدمع ، ويهزّ رأسه المطرقَ ذات اليمين وذات الشمال ، وهو يسيل بالأسى والألم ، ويغمغم سائلاً ساقييه الجالسين عن يمينٍ وشمال ، يملأان له الكأسَ بعد الكأس ، ويسقيانه خمرة صافية ، علّه يسلو أو ينسى .. يا ساقِيَيَّ ! ماذا تسقياني ؟ أخمر في كؤوسكما أم همٌّ وسهاد وعذابٌ فيهما ؟ ,, والعهد بالخمر أنها تُنْسي وتُسْلي ، ولكنْ ما بال خمرتكما ؟ هل انقلبت أو استحالت إلى شراب يزيد الهم ويكوي الفؤاد ؟
أتُرى هي الخمرة التي ما عادت تفعل شيئاً أو تؤثر في نفس شاربها أم أن الشارب هو الذي استحال وتغير ؟ أتُراني أصبحتُ صخرة ، لا تحس ، ولا تشعر ، ولا تسكر ، ولا تطرب ، ولا تسمع ، ولا تتأثر ؟
ما لي تغيرتُ كلَّ هذا التغير .. ومالي استحلت إلى هذه الطبيعة ؟ لماذا أطلب الخمرة ووسيلة اللذة فأراها ، وأصِل إليها ، وأسأل عن حبيبي ؟ عن قرّة عيني فلا أرى له وجوداً ؟؟
عذابٌ أنتِ يا هذه الحياة .. لم أعش سروركِ يوماً .. وهل تعرفين يا حياةُ معنى السرور؟ وكذلك أنا 00لم أفارق النكدَ والمصائبَ يوماً ، بل لم تفارقني هي .. والعجيبُ الغريب أنّ الناس يحسدونني على ما أنا فيه من عذابٍ وشكوى ..
إنّ المضحك في هذه الدنيا انقلابُ الأمور ، وانعكاس المفاهيم ، يظنون أني بلغت الراحة العظمى ، وامتلأت خزائني وجيوبي بالأحمر والأصفر والدينار والغوالي ..وهم على حق فيما يظنون ، ولكن خزائني وجيوبي ودنانيري وأحمري وأصفري مواعيدُ عرقوب ، وأكاذيب حاكم حقير ..
وحين وصل الشاعر إلى بيان حاله الحاضر .. غلى مرجله النفسي ، وراح يقذف باللهب والحمم ، ويحرق كل ما حواليه ..
لقد نزلتُ بأرض الكذابين ، المخادعين .. وإذا أردتَ تفصيلاً ، أو بعضَ تفصيل عن كذبهم وحقارتهم فاعلمْ أن أول صفة لهم أن ضيفهم لا هو بالمكرَّم الذي يُقدَّم له طعامٌ أو شرابٌ أو مأوى ، ولا يُسمَح له أن يضرب في الأرض يلتمس طعاماً أو شراباً أو مأوى .. إنهم لا يرحمونه ، ولا يتركون رحمة الله تنزل عليه .. هل رأيت أحقرَ من هؤلاء وأسفل وأحط وأدنـى ؟
كذابون كلهم .. وأقل ما تجد من كذبهم أنهم يدّعون الكرم والسخاء ، ويعِدون المواعيد ، ويؤمِّلون الأماني ، ويبنون لك في الخيال ألف قصر وقصر .. وتلك جميعاً ألفاظ بألفاظ ، لا حقيقة لها ولا واقع .. جودهم بألسنتهم وأقوالهم .. يقولون ما لا يفعلون ، يكذبون والله ويكذبون ..
هل رأيت أنتنَ منهم وأقذر معاملةً ونفساً وروحاً وخُبْثَ طَوِيَّة ؟ تصورْ أن مَلَك الموت حين يأتي لقبض روح أحدهم يشمئز من كريه ريحها ، ونجاسة مادتها ، فيلتقطها بملقط طويل الذراعين ، ويسد خياشيمه حين خروجها اتقاءً من كراهية رائحتها ..
ويلٌ لهذه البلاد ، وويلٌ لهؤلاء العباد .. كم يصبرون على الهوان ويركنون إلى الذل ويرضون بالخضوع والانكسار !
وكلما قفز عبد حقير على سيده واغتاله نصّب نفسه سيداً مكانه ، وأعلن للملأ هذه السيادة الجديدة ، فسمعوا له وأطاعوا ، وذلوا وخضعوا !!
يالَسخرية المقادير ! ويالَعجائب الحياة !! لقد صار العبد الخصيُّ الأسود ، الهارب من أسياده قائدَ البلد ، وحاكم المدينة ، ورئيس الناس .. استعبد الأحرار ، وسوّد العبيد .. استخف قومَه فأطاعوه . لقد جعل عاليَها سافلَها .. وقلَب الأمور ، وغيّر الموازين ، وبدّل الدنيا غير الدنيا
ويحَ مصر ! وما دهاها !! خيرها يعُمُّ الدنيا ، وزادها يُشبِع العالمين ، وقطافها يملأ السلال والغلال ، لقد تسلطت عليها الذئاب والثعالب ، وراحوا يسرقون كل خيراتها وينعمون بها ، وقد بشمْنَ من كثرة السلب والأكل ، ومصر ما تزال تعطي وتعطي ..
لقد نام حراس مصر عن حمايتها ، ورقدوا هانئين مطمئنين ، وراحت الثعالب تغتنمها فرصةً للانقضاض على كل خيراتها ، وكان لها ذلك .. وما زال حرّاس مصر في هجوعهم سادرين … واهاً لمصر .. كم هي مبتلاةٌ بثعالبها وبنواطيرها !
وتستمر ثورة البركان في الاندفاع ، فيرى العبدَ كافوراً وحده في هذه الحياة ، ويرى الأذى والشرَّ في الدنيا قد تمثلت فيه وحدَه ، ويصب جامَ غضبه على العبيد جميعاً ، ممثَّلين بشخص كافور .. ويبدأ بإرسال الحكمة تِلْوَ الحكمة في شأن العبيد .. فيقول : إياك إياك أن تغترَّ بأُخُوّة بني آدم . وإياك أن تؤمن أن الأبيض أخو الأسود ، وأن الحر أخو العبد ، وأن الإنسان أخو الإنسان ..
لا .. لا .. مُحالٌ هذا ، وليس صحيحاً ذلك أبداً ، فالعبدُ عبدٌ ، وسيبقى عبداً إلى أن يَرِث الله الأرض ومَن فيها ، ولو تزيّا العبد بزِيِّ الحر ، ولو وُلِد في بيت الأحرار ، ولو تصور بكل صوَر الأحرار .. فسيبقى عبداً ذليلاً حقيراً إلى الأبد .. لا مؤاخاة ، و لا مساواة ، ولا ما يقرب من هذا بقليل أو كثير ..
وإذا اشتريت عبداً لخدمتك ، أو لتحرث عليه ، أو تفلح ، أو تزرع ، أو تركب ، فاشتر في الوقت ذاته عصاً غليظة ، لتُلهب جسده بها ، وتسلخَ جلده عن لحمه .. فالعبيد أنجاس أينما وجدوا ، وحيثما حلّوا ، ورحلوا .. وكافور الإخشيدي على رأسهم وزعيمُهم ..
ويلتفت المتنبي إلى نفسه ، وينظر فيما آل إليه أمره بعد قدومه هذه الديار ، ويستغرب أن ترميَ به المقادير إلى هذا المصير ، إذ لم يحسب أنه سيأتي عليه زمان يسيء إليه فيه عبد ، ثم يمدحه الناس ويشكرونه على هذه الإساءة ، ولم يَدُر في خَلَده أن الرجال الكرام قد فُقدوا من هذا الوجود ، وغابوا عن الأعين ، ولم يبق في الساحة إلا ذلك الأسودُ المأفون .. ذلك العبد الذي شقَّ له أسياده شفَته ليربطوه بها ، كما يُربط البعير وكل حيوان .
لم يتوهمْ أن هذا الشفاهيَّ [15] سيسود الناس ، ويحكم الرجال والبلاد والعباد ، ويطيعونه ويأتمرون بأمره ، ويصفونه بالكريم ، وهو في الحقيقة يأكل حقوق الآخرين ، ويأبى عليهم أن يصلوا إليها ، ويتمتعوا بها وعند هذه النقطة الحرجة من وصف هؤلاء القوم راح أبو الطيب يشتم هذه السياسة ، ويسب هذه الخطةَ وراسميها والقائمين عليها ، ويدعو إلى امتطاء صهوات الخيل وإشهار السيوف ، وتقتيلِ كلِّ من يقبَلها ، أو يقول بها ، أو يرضاها لنفسه .
وإذا قُتِل المرء وهو يحارب مثل هذه الخباثات فإن ميتته مشرفة ، وإن لشهادته طعمَ العسل ولذيذَ الشراب .
ومن جديد .. يعود الشاعر إلى السؤال الكبير الذي حيّره وحيّر العالمين ، ولم يجد له جواباً شافياً .. يتلخص في رغبته أن يعرف : مَن علّم الأسودَ المخصيَّ الذي انتزع أسياده منه عنوانَ الفحولة والرجولة .. مَن علّمه طريق المكارم ، مَن دلَّه على قيادة الناس ، مَن أتاح له فرصة الظهور والتعالي ، مَن سوّده على البلاد والعباد .. مَن هم هؤلاء ؟ أتُراهم أبناءُ جِلدته السود ، أم هم العبيد ، الأرقاء ، الأذلاء ؟
لا .. لا.. ما أهلُه همُ الذين علموه هذه العزة ، بل هم النخّاسون الذين يتاجرون بالأرقاء والعبيد ، والذين يربطونهم بالحبال من أعناقهم ، أو آذانهم ، أو أنوفهم ، أو شفاههم ، والذين يفرِكون آذانهم كلّما تحرّكوا حركةً غيرَ عادية .
بلى !! هم النخاسون .. أو لعلهم المشترون الذين يساومون في أثمانهم عند تقويم أثمانهم .. والذين لا يدفعون ثمن الواحد من هؤلاء أكثر من فَلسَيْنِ قيمةً وثمناً ..
أما أنا ! فأعذرك يا كافور .. لأنّك رُبِّيتَ في المهانة ، ورضعت من مراضع الذل والقهر .. والذي يتربى في هذه المرابي يكون معذوراً إن كان من البيض ، أو كان من الفحول ذوي البشَرة البيضاء ، ويُعذر أكثر إذا كان مخصياً ، أسودَ الوجه كالليل ، أسودَ البشَرة كفعاله وأصوله .
نقد هذه المعاني:
وهنا - نقف لحظة لنقول : - إن المتنبي في هذه اللحظة ، بل في هذه القصيدة ، تخلّى عن كل ما يميز الرجلَ الحكيم العاقل ، والمسلمَ الملتزم ، والعربيَّ الكريم
لقد خالف كتابَ الله صراحة ، وخالف حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم علَناً ، وخالف الأُخوَّةَ العربية جِهاراً .. ولم يبال بهذه المخالفات ، بل لعلّه تعمّدها قصداً
خالف كتابَ الله الذي ينص على أن المؤمنين إخوة ، وعلى حُرمة السخرية والهزْء من الناس ، والحطِّ من كرامتهم ، والاستهانة بهم ؛ فالله جلّ وعلا قال : ] يا أيُّها الذين آمَنوا لا يَسْخَرْ قَومٌ من قَوْمٍ عسى أن يَكونوا خيراً منهم ، ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنَّ خيراً منهنَّ [
وهو القائل كذلك : ] يا أيُّـها الناسُ ! إنّا خلَقناكم من ذَكَرٍ وأنثى ، وجعَلناكم شعوباً وقبائلَ لِتَعارَفوا ، إنَّ أكرمَكم عند الله أَتقاكُم [.
وخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نصَّ على أنّ القويَّ الشديدَ ليس بالصُّرَعَةِ ، ولا بقوة اللسان ، أو العضلات ، ولا بالقدرة على سبِّ الناس وشتمِهم ، وهتْكِ أعراضهم ، وإنما الشديدُ هو الذي يَملِك نفسه عند الغضب ، والذي يتماسك خَلْقاً وخُلُقاً عند الصدمة الأولى ، والذي يَصون لسانه عن الغِيبة والفحشاء وسَلْقِ الناس بلسان حديد .
وخالف الخُلُقَ العربي الأصيل حين توجه إلى مصرَ العربيةِ المسلمة ، البلدِ العظيم الذي أمدّ الجيوشَ الفاتحة بعشرات الآلاف من المجاهدين ، البلدِ الذي حفظ الإسلامَ وتعاليمه وقدَّم إلى العالم الإسلامي ، قديماً وحديثاً ، عظماءَ العلماء ، والأتقياء ، والأولياء والمجتهدين ، والمجاهدين .
إن بلداً مثلَ مصر ، لا يستحق أن يوصف بأرض الكذّابين ، ولا يستحق أن يوصف أهله بالبخل والكذب والرياء وخبث الروح والذل والاستكانة لكل عبد حاكم ، أو ظالم متسلّط
مصر صفحةٌ ناصعةٌ في تاريخ الحضارات ، قبل الإسلام ، ومع الإسلام وستبقى هي وأهلوها كراماً ، عظاماً ، أعزةً ، إلى أن يَرِث اللهُ الأرض ومن عليها ..
وإذا كان المتنبي قد تلفظ بتلك الألفاظ القاسية ، وأراد بها أن يشتم كافوراً ، فلقد ضلّ الهدفَ ، فهجا كافوراً ، وهجا مصر من أولها إلى آخرها .. وأخطأَ الطريق .
إن المتنبي إنْ نجح فنياً في هذه الأبيات ، فلقد سقط دينياً وخلقياً .. ولن يشفع النجاح الفنيُّ لأيِّ فنان أو شاعر أن يتجاوز الحدود المقدسة ، رعياً للفن ، أو إكراماً للجمال
***
أسباب خلود هذه القصيدة :
ونتساءل عن السبب الذي خَلَّد هذه القصيدة ، وأشاعها بين الناس ، وحفِظها الصغير والكبير على مر السنين والأيام ..
ورب قائل يقول : إن إهانةَ كافور للشاعر جعله يحقِد عليه ، ويصُبُّ جامَ غضبه عليه في قصيدة هجائية خالدة .
ورب قائل آخر يرى أن تفرقةَ الشاعر بين الأحـرار والعبيد ، أو بين السود والبيض ، أو بين الحاكمين المغتصِبين والمحكومين المضطهَدين ، كان وراء قوة القصيدة وبقائها ..
ورب قائل ثالث يرى أن حبَّ المتنبي الكامنَ الخفيَّ لسيف الدولة العربيِّ ، وما لقيه في بلاطه على مدى تسعة أعوام من إجلالٍ وإكرام وعزٍّ ومَجْد ، وما خاضه معه من غزوات وحروب ، وما أحبَّ في جواره من أناس … ثم ما واجهه في بَلاط كافورٍ من مؤامراتٍ ودسائسَ ومواعيدَ كاذباتٍ ، وسوى ذلك من أمور ، كان أساساً دفيناً لهذه الثورة الشعرية
وأعتقد أن سبب روعة هذه القصيدة إضافةً إلى ما ذكرنا عواملُ أخرى، هي نفسيةٌ من جانب ، وأسلوبيةٌ لغويةٌ من جانبٍ آخر ..
فالمتنبي الذي استُدْعِيَ إلى مصر بدعوة رسمية من كافور ، وفيها وعدٌ منه للشاعر بولاية إقليم ، أو بلد تابع لمملكة كافور ، ومخاصمةُ أبي الطيب لابن مَلَك اليهودي ، بل احتقارُه ، ولابنِ كَيَغْلَغٍ الأعورِ حاكمِ طرابُلْس ، وهجاؤُه للرجلَيْن في سبيل إبقاءِ الشعرِ الكريمِ لكافور وحدَه ، وفي المقام الأكبر عزمُه على هجران بلاط سيف الدولة ، ومعاداةُ جميع الشعراء الذين كانوا يرتادونـه ، مع معاداة أبي فراسٍ الحمداني ابنِ عمِّ الأمير ، وفوق هذا كلِّه فراقُ خولةَ الحمدانيةَ ، أختَ سيف الدولة التي كان يُضمر لها الحبَّ المكينَ الدفينَ بعض الأسباب النفسية لثورته .
البلاغة والجمال :
فحدث عنه ولا حرج.. فأول ما تحسه وأنت تقرأ القصيدةَ بالانفجارات الهائلة ، والدوِيِّ الكبير للألفاظ ، واختيارِ تلك الألفاظ ..
يقول علماء السلاح وخبراء الحروب : إن القنابلَ التي يقذِفُها المحاربون نوعان : قنابلٌ هجوميةٌ تدميريةٌ ، وقنابل دفاعيةٌ تُقذَف حين التراجعِ والانسحاب .. وهذه القنابل تكاد تُصِمُّ الآذانَ بدَوِيِّـها ، وهي لإرهاب العدو أكثرُ مما هي لتدميرِه وسحقه
ولا نبعد عن الحقيقة إذا شبهنا هذه القصيدةَ بالقنابل الدفاعية المخيفة المرعبة بأصواتها وزمجرتها .
وفي العربية حروفٌ دفاعيةٌ ، لها دويٌّ ، وزمجرةٌ ، ورعدٌ ، وبرقٌ ، سـمَّاها العلماء بحروف القَلْقَلَة ، وجمعوها بكلمة ( قُطْبُ جَدٍ ) .
أحصيتُ هذه الحروف بالنص فوجدتها بلغت 156 حرفاً ، أخذت الدال المدوية وحدها الرقم الأكبر وكان ( 71 ) مرة .
وباعتقادي أن عظماء الشعراء يعرفون سر كل حرف ومواطن استخدامه .. فللحب حروف ، وللشكوى والأنين والحنين حروف ، وللحرب والجهاد حروف وللغناء والنشيد والفرح حروف ..
دليلنا على ذلك معجزة الأسلوب القرآني .. فلقد كان أسلوب الآيات المكية مختلفاً كل الاختلاف عن أسلوب الآيات المدنية ..
فأسلوب الوحي المكي يمتاز بكونه قوارع زاجرة ، وشهباً منذرة ، وحججاً قاطعة ، يحطم وثنية العرب في العقيدة ، ويدعوهم إلى توحيد الألوهية والربوبية ، ويهتك أستار فسادهم ، ويقيم دلائل النبوة ، ويتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله ..
لقد أفعم هذا الأسلوب بألفاظ شديدة القرع على المسامع ، تقذف حروفها شررَ الوعيد وألسنة العذاب فـ ( كلا ) الرادعة ، الزاجِرة ، والصاخَّة ، والقارِعة ، والغاشِية ، والواقِعة ، لم تأتِ إلا في أسلوب الوحيِ المكي ..
وحين تكونت الجماعةُ المؤمنة ، وامتُحِنت في عقيدتـها بأذى المشركين ، فصبرت ، وهاجرت بدينها ، مؤثرةً ما عند الله على متع الحياة ، أصبحت الآيات المدنية طويلةَ المقاطع ، تتناول أحكامَ الإسلام وحدودَه ، وتدعو إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله ، وتفصِّل أصول التشريع ، وتضع قواعدَ المجتمع ، وتحدِّد روابط الأسرة وصلات الأفراد ، وعلاقة الأمم ، كما تفضحُ المنافقين ، وتكشفُ عن دخيلتهم .. وهذا هو الطابَع العام للآيات المدنية ..
وإذا انتقلنا إلى دراسة الجملرأيناها بين اسمية وفعلية ، لكنَّ الاسمية غالبةٌ في كثرتِها على الفعلية ، فقد بلغت إحدى وخمسين جملة ، بينما الفعلية لم تتجاوز الثلاثين ، وكأن الشاعر يقصد بهذه الاسمية معانيَ الثبوت ، والاستقرار ، فالأحبة بعيدون ، وخمرٌ في كؤوسكما ، وصخرة أنا ، حبيب النفس مفقود ، أني بما أنا شاك منه محسود ، أنا الغني ، أموالي المواعيد .
وحين يريد التعبير عن الحركة والتجدد يأتي بالجمل الفعلية ،
من مثل : لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي شيئاً ، لا تحركني هذي
الـمُدام ، ماذا لَقِيتُ من الدنيا ، نزلت بكذابين ، لا تشتر العبدَ ، نامت نواطير مصر ..
وكذلك طغت الجمل الخبرية على الإنشائية بمقدار الضعف ، فكانت الأولى أربعين ، والثانية عشرين .. ومال الشاعر في الجمل الخبرية إلى التأكيد في معظمها ، فكانت الجمل الطلبية ضعف الابتدائية والإنكارية
أما الإنشائية فقد أتى الشاعر بمعظم ألوانها ، عدا الجملة الأمرية ، فاستعمل النهي مرة ، والنداء مرة ، والتمني مرة ، لكن الاستفهام بكل معانيه بلغ اثنتي عشرة مرة .. بأية حال عدت ، أخمر في كؤوسكما ، أصخرة أنا ، ما لي لا تحركني هذي المدام ، ماذا لقيت من الدنيا ، أكلما اغتال عبد السوء سيده ، من علم الأسود المخصي مكرمةً ؟
***
إن أروع ما في شعر المتنبي – بشكل عام – وفي هذه القصيدة بشكل خاص ، هو تلاعبه في رصف كلمات البيت ، لا يصوغها وفق تسلسلها اللغوي ، الفعل ثم الفاعل ثم المفعول ، أو المبتدأ ثم يتلوه الخبر ، وهكذا .. ولكنه يقدم ما حقه التأخير ، ويؤخر ما حقه التقديم ، لدواع بلاغية ، ولبناء صياغة عبقرية ، لا يقدر عليها إلا الراسخون في الشعر ، والمتمكنون من قيادة اللغة ومفرداتها ..
ونضرب على ذلك الأمثلة :
بأية حال عدت يا عيد .. لقد قدم الجار والمجرور على الفعل ، كما أخر النداء ، وكان الأصل أن يقال : يا عيد ، عدت بأي حال ؟ والفرق بين التعبيرين واضح .
أصخرة أنا .. قدَّم الخبّرَ النكرة ، وأخَّر المبتدأ المعرفة ، وكان الأصل أن يقال : أأنا صخرة ؟؟ .. وفرق كبير بين العبارتين يدركه كل من عنده أدنى ذوق .
أني بما أنا شاك منه محسود : أصل العبارة أني محسود بما أنا شاك منه .
في يده من نتنها عود الأصل : عود في يده من نتنها .
ونظرة سريعة إلى ما تتحدث به كتب البلاغة عن جماليات التقديم والتأخير تؤكد لنا أن شاعرنا عبقري في صياغته ، مدرك مواطن
الجمال والتأثير في النفس ، وسموَّ التعبير .. ولا سيما في هذا الجانب من الصياغة الرائعة .
ويلفت نظرنا في هذا النص الركام الكبير من الكنايات ، فلقد بلغت العشرين عدداً ، في الوقت الذي لم يحتل التشبيه سوى أربع عبارات ، والمجاز المرسل عبارتين اثنتين ، والاستعارة التشخيصية المكنية اثنتي
عشرة مرة ...
من أمثلة الكناية قول الشاعر : البيداء دونَهم ، ضيفهم عن القرى وعن الترحال محدود ، جودهم من اللسان ، فله في مصر تمهيد ، نامت نواطير مصر عن ثعالبها ، ما تفنى العناقيد ...
وملاحظة أخرى في مفردات النص تدلنا على أن الشاعر أكثر استعمالها منكرة وقد أكثر منها : عيد ، تجديد ، بيد ، وجناء ، جرداء ، شيئاً ، عين ، جيد ، خمر ، هم تسهيد ، صخرة ، شاك ، محسود ..
والنكرة توحي مرة بالكثرة ومرة بالتعظيم ، وقد توحي بالقلة ، أو بالتحقير ، أو بالتصغير ، أو بالجنس ، أو بالإفراد ، بحسب الموقع الذي تنزل فيه .
إنها تعطي للكلمة ظلاً ، وترسم لها أبعاداً لا ترسمها أدوات التعريف المختلفة ، وفرق كبير بين أن يقول : الصخرة أنا ، وأن يقول : أصخرة أنا ؟ وبين قوله : في كؤوسكما الهم والتسهيد ، وقوله : في كؤوسكما هم وتسهيد .. لقد كانت النكرة أبعد في المعنى و الإيحاء والظلال من المعرفة التي قيدت المعنى وربطته بسلاسل ، لا يتجاوز الأمد المحدود الذي رسمته له ..
***
ويبقى الحديث عن الديالكتيك الذي صبغ هذه القصيدة ورفعها
مقاماً عَلِـيّاً ..
إنك تستطيع أن ترى في كلّ بيت من أبياتها صورة لصراعٍ من نوع ما ، مرة يكون بين أمور خارجية ظاهرة ، تراها العين ، وتتقراها اليدان ، ومرة يكون بين أمور داخلية نفسية خفية ، تحسّ بـها ، وتشعر بوجودها ، لكنك لا تستطيع القبض عليها ..
وتجد تلك الصراعات ممثلة بين الرغبة في العيد والرغبة عنه ، بين وجود الأحبة وغيابـهم ، بين الرغبة في طلب المعالي والتقاعس عنها ، بين معانقة السيف ومعانقة الغيد الحسان ، بين الخمرة والهمّ ، بين الغنى بالمال والغنى بالمواعيد والأكاذيب ، بين القِرى والبخل ، بين الجود باليد والجود باللسان ، بين وجوب سحق القاتل المغتال سيده وبين تنصيبه أميراً وحاكماً ، بين الخصيّ العبد وحكمه البلد ، بين الحر والمستعبد ، بين الإساءة والحمد ، بين مرارة المنية وحلاوتـها ، بين الأسود والأبيض ، بين الفحولة والخصاء ...
هذه الصراعات هي في عرف علماء البديع طباق أو مقابلة ، وفي عرف علماء الاجتماع ديالتيك ، يمثل حركة الكون من أولها إلى آخرها ، ويذكرون أن كل شيء في هذه الحياة له وجهان متقابلان .. الخير يقابله الشر ، الرجل والمرأة ، الغنى والفقر ، الحرية والعبودية ، الصحة والمرض ، الإيمان والكفر ، الحياة والموت ، الجنة والنار .. إلى ما لا ينتهي من مقابلات ..
أبو الطيب ، في هذا النص ، بل في معظم شعره ، لجأ إلى هذه المقابلات في شتى صورها الخارجية والداخلية ، الملموسة والمدركة بالحس ، ولم يعمد إلى إنشاء زينة بديعية وحلية كلامية ، وإنما كانت جزءاً أصيلاً من تفكير الشاعر وتعبيره ، ولولاها ما كان قادراً على البوح بـما يحرقه أو يكويه .
إن الذي يعنينا من هذا كله هو أن الطباق أساس من أسس التفكير ، والتعبير الإنساني ، وليس زخرفاً من القول ، أو زينة يحلي بها الشعراء
أبيات قصائدهم ، ولا وجوده في شعر أو نثر مدعاة لوصف هذا الشعر أو النثر بالانحطاط ، كما زعم كثير من الباحثين غير المنصفين .
والمتنبي واحد من قافلة الشعراء العرب ، اتخذ مسارهم ،
ونـهج نـهجهم ، ولم يشذَّ عنهم ، اللهم إلا أنه أبرز هذا الطباق ،
أو هذه المقابلة ، أو قل : هذا الصراع الخارجي والنفسي بأجلى صوره ، وعبّر عنه بأناقة وبراعة وروعة تعبير ، فكان الحائز على قصب السبقْ ، وكان شعره مثار إعجاب العالمين .
(من كتاب : المتنبي ـ دراسة أسلوبية للدكتور بكري شيخ أمين )
منشورات : دار العلم للملايين ـ بيروت
[1] عيد : أي : أعيد ؟ - بما مضى : أي أبما مضى ؟
[2] جاب الموضع : قطعه – الوجناء : الناقة الشديدة – الحرف : الضامرة – الجرداء : الفرس القصيرة
القيدود : الطويلة العنق .
[3] الغيد : ج غيداء : وهي المرأة المتثنية ليناً . – الأماليد : ج أملود وأملودة : الناعمة المستوية القوام .
[5] الآبق : الهارب من سيده .
[6] بشم : أتخم من كثرة الأكل .- نواطير مصر : سادتها وأشرافها – الثعالب : العبيد والأراذل العناقيد : الأموال .
[7] المناكيد : ج منكود : قليل الخير .
[8] أبو البيضاء : كافور ، وهذه سخرية منه .
[9] المشفر : شفة الحيوان الغليظة – العضاريط : ج عضروط : الذي يخدم بطعامه – الرعاديد : الجبناء .
[10] ويلمها : كلمة تعجب أصلها : ويل لأمها – الخطة : الأمر والشأن – المهرية : المنسوية إلى مهرة بن حيدان ، وهو أبو
قبيلة تنسب إليها الإبل – القود : الطوال الظهور .
[11] قنديد : عسل قصب السكر .
[12] المخصي : الرجل الذي سحبت منه الرجولة والفحولة – الصِّـيد : ج أصيد : الملك العظيم .
[13] النخاس : تاجر العبيد .
[14] التفنيد : اللوم والتقريع .
[15] الشفاهي : العظيم الشفتين أو الشفة .