العلاقة بين الخيال و الواقع لدى الغزيّل
يُعدُّ الرمز الفني حاملاً فنياً وجمالياً في عملية الخلق الشعري ، و ذلك باعتبار الشعر
خطاباً تخييلياً بالدرجة الأولى ، أي أنه يتوجه إلى خيال القارىء و إحساسه محاولاً
تجسيد فكرة ما . ولكن هذا لا يعني أن الخيال لا صلة له بالواقع البتة ، ذلك أن الخيال
دون أن ينبثق من الواقع يصبح تهويماً يدور في الخواء ، و النص الواقعي الذي لا دور
للخيال فيه ينحدر إلى التقريرية الفجة التي تنأى به عن مساحة الفن . لا بدّ إذاً من
تمازج ما هو خيالي بما هو واقعي ، وكلّما كان عنصر الخيال نشيطاً لدى الشاعر ،
استطاع بذلك أن يحول( البصر إلى بصيرة ) على حدّ قول ابن عربي .
أردت من هذه الإشارة التوكيد على أن الرمز الفني لدى الغزيل لا ينبثق من الخواء ليحلق في الخواء ، بل ينبعث من نفس مشحونة بالشعور ، ليُوظّف في تجسيد فكرة محددة
موجودة في العالم المعاش . و لعل المتأمل في ديوان ( في ظلال الدعوة ) سيجد أن معظم القصائد هي تنويعات لمفهوم واحد هو مفهوم النور . ولا شك ان هذا المفهوم ( الرمز)
متعدد الدلالات ، يختزل البسيط و المعقد بآن معاً ، و ذلك وفقاً لتوجهات المبدع ومراميه .
فهو عند البعض يجسد معاني الخلاص و الانعتاق من الظلم , و النزوع نحو الحرية ، وهو
عند البعض الآخر ، وتحديداً لدى المتصوفة يجسد الحقيقة ، أو ذات الحق . و أياً كان الشأن
فإن دلالة النور عند الغزيل تشكل نقطة ارتكاز يتعانق فيها الخاص و العام ، و السماوي
و الارضي ، و أعني بذلك أن إيحاءات النور عند الغزيل ليست إيحاءات شعورية مجردة
أو معدومة الصلة عن واقعها الدنيوي المعاش ، بل هي ملولات تنبثق من الواقع لترتقي به
نحو ما هو سام و نبيل . ولننظر في هذين البيتين من قصيدة ( مولد النور ) :
النور يزحف بالحقيقة و الهدى عبر الحنايا
و الحق حصحص بالهداية و الفضيلة للبرايا
ففي البيت الاول تعبير استعاري جميل يجعل من النور جسراً تعبر عليه الحقيقة إلى النفوس
فالنور إضافة إلى كونه حاملاً فنياً ، فإنه لا يخفي دلالته الواقعية أيضاً ، باعتباره قريناً
للحقيقة . ولو أننا وقفنا أمام قصيدة اخرى ، كخيام الغجر مثلاً ، علماً أن هذه القصيدة
كما نوّهت بذلك سابقاً ، تحتاج إلى دراسة مستقلة ، لانها تكتظ بالدلالات و الإيحاءات المتعددة ، ولكن لا بأس من وقفة يسيرة عندها :
أيا وجدُ سحّاً على أضلـــــــــعي شآبيب ، والهفـتــــا للمطــــــر
طوى الجدب عني رؤى العنفوان و صوّح روض المنى المزدهر
شآبيب يا وجدُ إن البقـــــــــــــاع ستمرع يحنو عليها القـــــــــدر
فأعماقنا ما غزاها المتـــــــــــاع و حبّ الشوامخ فيها نـــــــــدر
و يا زيف إني أحسّ الصــــــراع يهزّ الرعاع ، يدك الحجـــــــر
- 1-
و مما لاشك فيه ، ان الشاعر يشكو في المقطوعة السابقة من الجدب و التصحر النفسي
و يتلهف للاخضرار و الارتواء ، لذلك يبدي لهفته لشآبيب المطر ، و ذلك من خلال نسيج
فني محكم و أنيق ، ولغة موحية وكثيفة بعيدة عن التعقيد و التهويم ، و إيقاع متناغم
يذكرنا بإيقاع قصيدة الشابي المشهورة :
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدَّ أن يستجيب القدر
و ما ينبغي تأكيده أ يضاًً ، هو أن القصيدة برمتها إنما تتأسس على قضية فكرية غاية في
التعقيد ، ألا وهي هذا الخليط غير المتجانس من الافكار و المذاهب التي تغزو عالمنا
الإسلامي ، متمثلةً بشعارات و مقولات عدة ، و لعل الدلالة التي يضمرها العنوان
( خيام الغجر ) تفصح عن ذلك ، ولو تتبعنا الدلالة اللغوية للعنوان لعلمنا ان الغجر هم
أقوام رحّل و غير مستقرين ، ثم إن الخيام التي يسكنونها إنم تصنع من رقع غير متجانسة
لا لوناً ولا نوعاً ، وهذا إيحاء غير مباشر على هلهلة و تذبذب هذا الخليط العجيب من
الافكار الدخيلة التي لا ينظمها ناظم . ولعل قول الشاعر في نهاية القصيدة :
( و بئست خياماً رقاع الغجر )
يؤكد ، بلا ريب ، ما ذهبنا إليه . و لعل إدانة الشاعر محمد غزيل لهذه الرقاع إنما يضمر
ثورته و رفضه لهذا المزيج الزائف من الفكر الدخيل الذي يغري النفوس الهشة .
_ 2 _
المكوِّنات الثقافية
في شعر يوسف عبيد
لعلنا نستطيع أن نستشف رؤية أو مفهوم الشاعر يوسف عبيد للشعر من خلال هذين البيتين
يا نديم الشعر ما الحسن إذا لم يكن شعرك بالحسن كساه
خُلق الشاعر و الحسن له منهلٌ ، و الله للحسن اصطفاه
فالشعر إذاً هو قرين الحسن ، و الحسن إنما يعني الجمال ، أي أن المعنى الشعري يجب أن
يكون جميلاً حتى يسمى شعراً .
يقول يوسف عبيد من قصيدة بعنوان : ( زادي ضياء الفجر)
أنا لم أكن وحدي على درب الحياة و لن أسير بلا متــــــاع
زادي ضياء الفجر يرشدني السبيل فلا عثار ولا ضيـــــاع
فإذا طغى موج العباب مزمجراً فعقيدتي أقوى شــــــــراع
ودّعت أحلام الهوى الباكي و آهات اللقاء أو الــــــــوداع
و تركتُ دنيـــــاه فلا تنهيدة تخفيه أو سرٌّ يــــــــــــــــــــذاع
و لعله من الثابت أن الشاعر في هذه المقطوعة الجميلة ، يريد أن يؤكد امتلاء عالمه
الداخلي بذخائر الإيمان الخالص ، كما يريد أن يؤكد أيضاً أن الشعور بالخواء و الضجر
و التبرم بالحياة لهي أمور بعيدة كل البعد عن نفسه ، وذلك بفضل إيمانه العميق الذي
يعصمه من الانزلاق فيما هو وضيع .
ولئن كان العديد من الشعراء يواجهون الأزمات التي تواجههم بالمزيد من التطرف العاطفي المفرط ، و بالكثير من التذمر و الشكوى من وطأة واقع يرونه أقوى مما يطيقون ، فإن الشاعر يوسف عبيد يجد خير ملجأ له ، ألا وهو شراع العقيدة ، ذلك الشراع الذي لا تقوى الأعاصير مهما عصفت ، و لا الرياح مهما عتت ، أن تنال من صموده .
ولنقف عند مقطع آخر ، من قصيدة بعنوان ( نهاية طاغية ) و فيها يخاطب شاه إيران بعد
أن خلع من العرش :
ذهب النعيم ولن يعـــــــود يا أيها الملك الطــريد
مات الــسرير وكنتَ تحســــــــب أنه كالطود باقٍ لا يميد
لا قبة الإيوان لا الشرفات لا التاج الذي يختال بالدر النضيد
أما حياتك فهي لذّات و ناب في الدماء مغمّسٌ شرس حقود
الموت في جنبيك تحمله وأنت مفزَّع الترحال كالعجل المقُود
مما لا شك فيه ، أن الفحوى التي يريد الشاعر أن يعززها في ذهن القارىء ليست جديدة
كل الجدّة ، بل لعلها سنة من سنن الحياة ، إذ إن الطغيان لا يدوم ، و نهاية الظلم هي أن
يودي بصاحبه إلى نهاية وخيمة ، ولكن الجديد في هذه الفكرة يكمن في شعريتها ، أي أن الشاعر امتلك الحوامل الفنية التي تنهض عليها هذه الأبيات ، الأمر الذي مكّنه من تقديم
_ 1 _
المعنى تقديماً جمالياً من خلال تشكيل لغوي جميل و موحٍ وبعيد عن التعقيد ، و يتجه
نحوالشمولية . فلو تأملنا عبارة ( مات السرير ) لأدركنا أن موت السرير هو تركيب
استعاري جميل يعزّز حتمية الزوال . أضف إلى ذلك نزوع الشاعر تجاه الحفر في
ذاكرة بني ساسان ، حيث تطالعنا صورة إيوان كسرى و ما تحيط بها من هالة العظمة
إلا أن هذه العظمة الغابرة ليس بوسعها البتة أن تنتشل الطاغية المخلوع مما آل إليه .
و من الواضح أن شاعرنا يتعامل مع لغته تعاملا ذكياً ، و ذلك من خلال دخول الألفاظ
في فضاءات تبعث في ذهن القارىء أو السامع تداعيات فكرية وأجواء نفسية متعددة ،
و لنا ان نتأمل عبارة ( مُفزّع الترحال ) التي تدل على الخوف الشديد و الهلع ، و الخوف
هو بلاء عظيم أشارت إليه الآية الكريمة ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص
من الأموال و الأنفس و الثمرات و بشر الصابرين ) أما التشكيل النحوي الحاضن لهذه
المعاني فإنه هو الآخر مؤسِّسٌ جمالي هام في تكوين البنية الشعرية للقصيدة ، و كم كان
الناقد عبد القاهر الجرجاني عظيما ً عندما أكد على فاعلية التشكيل النحوي في البناء
الجمالي للنص ، إذ أصبح النحو – لدى عبد القاهر – ليس عملية ميكانيكية نعرف من
خلالها الخطأ و الصواب فحسب ، بل هو حاملٌ جمالي ومؤثر في صياغة البناء الشعري.
فلو تأملنا قول الشاعر يوسف عبيد :
( لا قبة الإيوان لا الشرفات لا التاج الذي يختال بالدر النضيد )
فسوف نلاحظ شيوع الجمل الإسمية المسبوقة بالنفي ، و التي من شأنها أن تعزز معنى
الزوال والامحاء وكل مباهج الترف التي كان الطاغية يرفل بها .
تداخلات ثقافية
يقول يوسف عبيد في قصيدة ( دمعة الذل )
لو سار من مازن جيشٌ تحاذرهُ بنو اللقيـــــــطة طامي الزحف جرّارُ
ما صال ( باروخ ) و الرشاش في يده كأنه في قطيع الذبح جـــــــــزّار
وواضحٌ أن الشاعر يوسف عبيد إنما يستلهم قول الشاعر القديم :
لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا
و قد أراد الشاعر يوسف عبيد من وراء استحضاره لمعنى الشاعر القديم أن يدين حالة التشرذم و التشتت التي تعاني منها الأمة الإسلامية ، تلك الحالة التي مكنت الأعداء من اختراق الجسد الإسلامي و الفتك به من الداخل ،و هذا ما تمثَّل بدخول المجرم اليهودي باروخ إلى الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل و غدره بالمصلين المسلمين . فهذا التناصُّ بين المعنيين ( القديم و الجديد ) هو أحد المعطيات الجمالية في القصيدة .
و الواقع أن الشاعر يوسف عبيد استطاع ان يفتح أمام قريحته آفاقاً رحبة جعلته ينآى
عن القول المباشر و النثرية الفجة ، ففضلاً عن استلهامه لمعاني القرآن الكريم و التراث ،
فإنه لا يجد غضاضة في نفسه من أن يتجه نحو الأساطير ليعيد منها تشكيل ما يراه مناسبا
و الغاية التي يسعى إليها ، فهذه قصيدته ( عاشق الشمس ) التي تعيد لنا تجسيد الأسطورة اليونانية ( الخلد الذي عشق الشمس ) .
_ 2 _
ولعل صياغة الشاعر لهذه الأسطورة شعريا إنما هي دعوة لتعزيز مفهوم السموّ و الرفعة
لدى الإنسان ، وتطلعه نحو ما هو سام و رفيع ، وعشقه للنور ، وعزوفه عما هو وضيع
وكما قال أحدهم :
من آثر الشمس استلذّ لهيبــها و أخو الوضاعة يعشق الأوحالا
ونستطيع التأكيد على أن استلهام الشاعر يوسف عبيد للأسطورة ، بغض النظر عن كيفية
هذا الاستلهام ، وانفتاحه على الثقافة الإنسانية ، إنما يدل على تنوع مصادر ثقافته وانفتاحه
على الآخرين ، وعزوفه عن الانغلاق الثقافي و الحضاري .
أضف إلى ذلك قدرة شاعرنا على تنويع أساليبه الشعرية ، ففضلاً عن قدرته في استخدام المجاز ، وتوظيفه للصورة الفنية توظيفاً حسناً ‘ فإنه يعمد أحياناً إلى توظيف عناصر القصة في القصيدة ، فلو عدنا إلى قصيدة ( الطود المكبل ) لوجدنا أنها تجسد حوارية طريفة بين الجبل و الطير ، و سنجد فيها ، أيضاً ، الحوار و المنلوج و تعدد الأصوات
الأمر الذي يضفي على القصيدة مناخاً درامياً من شأنه أن ينهض بالقصيدة إلى فضاءات
جمالية خصبة .
_ 3 _
القصة الشعرية
لدىالشاعر عبد الله السلامة
يعود ظهور القصة الشعرية في الادب العربي إلى بدايات القرن المنصرم ، ولعل هذا اللون
من الشعر قد استهوى العديد من شعراء تلك المرحلة ، فقد كتب أحمد شوقي قصصاً شعرية
وجعلها تدور على ألسنة الحيوانات ، متأثراً بالكاتب الفرنسي ( لافونتين ) . كما كتب الشاعر
بشارة الخوري عدة قصص شعرية ذات مغزى إجتماعي ، مثل ( المسلول _ الريال المزيف
عروة و عفراء ) . أما شاعرنا عبد الله السلامة فقد أراد أن يكون له إسهام في هذا المضمار
وكان له ما أراد ، ففي منجزه الشعري العديد من القصائد التي نرى فيها معظم عناصرالقصة
، من حدث و شخصيات و منلوج و غيرها ، و سوف أقف عند قصيدتين قصصيتين للشاعر
السلامة ، أما القصيدة الأولى فهي( مأساة نحلة ) .
تروي لنا هذه القصيدة حكاية نحلة تهيم في الاودية و السهول تبحث عن قوتها ، و هي خائفة
تتربص بها عيون الأعداء ، تتنقل من مكان إلى مكان لا تدري ماذا تخبىء لها الأقدار ،
غير أنها تصرّ على دأبها ، متجشمةً عناء الأخطار ، و ما إن استطاعت هذه المخلوقــــــــة
الضعيفة أن تجني ثمار دأبها و تعبها ، حتى فاجأها العدو الظالم الذي يريد أن يسلبها قوتها
و يجهز على ما جمعته خلال رحلتها المضنية ، فماذا تفعل ؟ و هي الكائن الضعيف الذي
لا يقوى على المجابهة ؟ أتعطيه ما يريد ؟ أم تقاوم ولو على أشلائها ؟ لنستمع إلى جواب
النحلة وهي تقول :
فاجأتني يا ثقيل الظل تسلبنـــــي ذخر الحياة كما لو كنت ديّانــــــــي
فخذه إن شئت لكن لست تأخذه إلا بإفراغ سمي في الدم القـــــــاني
واعبر إليه سبيلاً شائكاً وعراً هيهات تعبر إلا فوق جثمانـــــــــي
لكن تذكرْ بأن الارض قد ملئت أجواؤها الزرق من شجوي وتحناني
وأن في الأرض سمّاراً قد اجتمعوا يحكون عن نخلة تجني لإنســــــــان
نستطيع القول بكل اطمئنان أن ما سمعناه من النحلة هو مأساة الكائن البشري على مر
العصور ، ولكن أيّ كائن هذا الذي تملأ نفسه كبرياء الإيمان و العقيدة ، فيعلن التحدي
على الرغم من اختلال ميزان القوى ، فهي عندما تقول :
واعبر إليه سبيلاً شائكاً وعراً هيهات تعبر إلا فوق جثمانـــــي
ألا يجسد هذا الموقف ردّاً حازماً على كل المتخاذلين الذين دب الوهن في نفوسهم
فراحوا يوجدون لانفسهم مبررات الخنوع و التقاعس ، حرصاً على المكاسب الدنيئة
مؤْثرين الاستسلام في أحضان العدو . وحقيقة الامر أن براعة الشاعر لا تتبدى في قدرته
على استحضار هذه الفكرة فحسب ، بل في قدرته و نجاحه في تجسيدها فنياً و جمالياً أيضاً
فلنستمع إليه وهو يجسد المنلوج الداخلي للنحلة ، حيث تكشف لنا النحلة عما يدور بنفسها
من مخاوف وهواجس أثناء رحلتها :
رباه لطفاً فجند الموت آن لهــــــا أن تستفيق فويلي حين تلقانـــــــــي
ويحاً أهذا صياح الديك في أذني أم هزة الخوف ام ناقوس رهبــــان ؟
أم نغمة الطير أم صوت المؤذن أم همس الغصون على أطراف بستان
أم آهة الروض أم بوح الغديرله أم زفرة الأرض أم أصوات رعيان
وما إن يبزغ الفجر ، و يرسل أشعته إلى الكون ، حتى يدب الرعب في نفس النحلة
خوفاً من ظهور الأعداء و بطشهم ، فتبوح قائلة :
بات الطريق مضيئاً كيف أسلكــــه ما بين ناس و آفات و غربـــــــان
أعود في بطن وادٍ مقفرٍ وعـــــــرٍ و أستظل بأحجار وعيـــــــــــــدان
رباه هل هذا عصفور يراقبني و ليس عندي سلاح غير إيمانـــــي
لا لا لكنه الخوف الذي غرقت نفسي بلجته مذ قلَّ أعوانــــــــــي
ولا شكّ عندي من أن هذه القصة الشعرية الدرامية ما هي إلا قصة الصراع المرير الذي
تخوضه الشعوب المسحوقه وهي تدافع عن وجودها في وجه الجبروت و الطغيان . وقد
حرص الشاعر على إغفال الزمان و المكان لتغدو القصة مطلقة الشمولية ، وهي وفقاً لذلك
تعبر عن فكرة إنسانية عامة ، وهذا ما يجعل القصيدة تنحو منحى الادب الإنساني الرفيع
ولعل هذا الاسلوب هو احد الابواب الرحبة التي يعبر منها أيّ فنان نحو العالمية .
ولعل أهم ما في القصيدة هو أن الشاعر استطاع بجدارة أن يعبر عن افكاره و تطلعاته
عبر معادل موضوعي هو النحلة ، تسعفه في ذلك قدرات فنية عالية وامتلاك جيد لتقنيات
الفن . فهو حين يقول :
ما أرهب الليل إن دبَّ الضعيف به و أطول الدرب في وجه الوجي العاني
ألا يتقاطع هذا القول أو يتناص ، ولكن بطريقة عكسية مع قول المتنبي :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم
فالنفوس الضعيفة المترددة ليس بوسعها خوض الصعاب ، و الاحلام و الطموحات العظيمة
لا تؤتى للضعفاء المهزومين .
أما القصة الشعرية الثانية التي نقف عندها فهي قصيدة ( الريشة) ، وتروي لنا هذه القصيدة
حكاية صقر بدأ حياته أزغب الريش ، و حين اشتدّ عوده و تمكّن من التحليق ، غدا محطّ
أنظار الكون من حيث القوة و الرهبة و الاستقامة ، فهو مثال للقيم الإنسانية الرفيعة والمبادى
السامية ، إلا أن هذا المجد العظيم للصقر لم يدم ، فسرعان ما دالت الدول ، و بدأ التراجع
شيئاً فشيئاً ، إلى ان غدا واهي القوى ، وفريسة تغري المتربصين ، ولعل هذه اللوحة الفنية
التي رسمها لنا الشاعر تجسد لنا ذلك :
حتى تأوّبه من بعد سطوتــــــه بعض النعاس فرام الغدر مرمـــاه
فبادرته سهام طالما عجــــزت عن كيده حين لم تحمله ساقـــــــاه
فانهدّ كالطود منهوكاً يمجّ دماً وللسهام اشتباك في خلايــــــــــاه
_ 2 _
و غادرته أنوف الذل شامـــــــخةً لم تدر أيّ السهام السود أشـــــــواه
و الريش حلق في الأجواء منتثـراً يأبى الذي كان قلب الصقر يأبــــاه
يأبى التمرغ بالأوحـــــال مدّرعــــاً بالطهر ، فالطهر يسري في ثناياه
وما من شكّ عندي بأن شاعرنا السلامة من خلال إحساسه العميق و بصيرته النافذة و موهبته
المتوقدة ، استطاع في هذه القصيدة أن يجسد لنا تاريخ أمتنا الإسلامية ، كيف كانت تمتلك
أسباب القوة و الحضارة و التقدم ، ثم كيف هي الحال التي آلت إليها من وهن وضعف . إنها
لمفارقة حادة حقاً نعيشها مع هذا ( المعادل – الصقر ) عبر مشهد فني رسمته يد فنان بارع
أمسك بأدواته الفنية بإتقان ودقة بالغين ، و أراد أن يصدر عن رؤيا ه الخاصة به ، فانقادت
له اللغة ، وعذبت العبارة ، عبر إيقاع موسيقي متناغم وجميل . وأراد أن يستخدم الرمز ،
فكانت رموزه شفافة وموحية بآن معاً ، وليست مستغلقة على الفكر كالاحاجي التي يعبث
بها
أدعياء الفن ويدفنون عجزهم خلفها . ولتكن لنا هذه الوقفة أمام مقطع آخر من القصيدة :
أُلقيتُ بين الرياح الهوج تعبث بــــي و العود منتصبٌ و الشعر تيــــّاه
وللأراجيف إفصاحٌ وهمهمــــــــــةٌ حولي وكلّ زوايا الكون أفـــــــواه
أهوت عليّ الصبا من بعد رقتهـــــا ضعفاً كأنْ لم يكن لي عندها جــــاه
و أعقبتها سحيراً شمأل شحنـــــت صرّاً ، وذلك عند الريح مــــــغزاه
و للجنوب جٌنوب جدّ مترعــــــــة حقداً عليّ لأمر كدت أنســــــــــاه
ولا ألوم رياح الغرب إن عصفـت فأمسها في شفاه الدهر ذكـــــــــراه
هاجمن عودي فرادى تارة و معــاً و الحقد إن ساد قلب الوغد أعمـــاه
لم أطلب الصفح منها كيف اطلبه و الصفح عند لئيم الطبع إكــــــراه
ففي الذؤابة مني ألف زاجـــــرة تقول : إن أمرَّ الظلم أحــــــــــلاه
إنّ الصقور صقور في ترفّعها فإن أسفّتْ فأشباح و أشبــــــــــاه
و لعل المتأمل للابيات السابقة سيجد بوضوح أن الشاعر استطاع أن يوظّف علائم المكان
بما فيها الجهات ، لخدمة فكرته التي يريد ، حيث إن كلّ الجهات تتآمر على الصقر ، شرقاً
وشمالا وجنوباً ، أما رياح الغرب فلا غرابة من غدرها وقسوتها عليه ، فما زال الامس حياً
و ذاكرة التاريخ مليئة بالصراعات التي ما زالت مستمرة حتى الآن .
ومما هو لافت للانتباه أن الشاعر عبد الله السلامة يعتمد في تشكيله الشعري على نشاط
الخيال اعتمادً واضحاً ، فلا يكاد يخلو بيت من القصيدة من تعبير استعاري أو انزياح دلالي
و لئن كان هذا الامر شائعاً في الشعر المعاصر ، فإن ما يميّز تجربة السلامة في هذا الصدد
هو أن كثافة المجاز لديه لاتنتهي إلى ركام متناثر من الصور التي لا انسجام بينها ولا ترابط
كما نرى في العديد من القصائد ، بل إن الصورة الفنية لديه هي جزء عضوي من المعنى ،
و بالتالي فإنها تسهم في بناء المعنى وتناميه جمالياً ، كما يغدو التشكيل البلاغي في القصيدة
حاملاً أصيلاً للقصيدة و ليس عبئاً عليها . أضف إلى ذلك أن قدرة الشاعر على شحن صوره
الفنية بأحاسيسه و مشاعره جعلتها أكثر حيوية و تأثيراً في المتلقي ، فقوله :
وللأراجيف إفصاح وهمهمة حولي وكل زوايا الكون أفواه
_ 3 _
يجعلنا ندرك و نشعر بحالة الخوف ، و كأن كل زوايا الكون أشداق فاغرة . بقي أن أشير
إلى أن التجربة الشعرية لعبد الله السلامة إنما تتأسس على مفهوم ( السامي ) تلك النظرية
التي تنسب إلى ( كاسيوس لونجينوس ) وهو ناقد بلاغي عاش في القرن الثالث الميلادي
حيث تدعو هذه النظرية الشاعر إلى الالتزام بالمثل الرفيعة و القيم السامية ، كما تدعو
إلى أن يكون الشعر ذا تأثير عاطفي و بلاغي في المتلقي .
وبعد : فإن هذه المقالة الوجيزة لم تكن إلا نوعاً من التحريض على الالتفات إلى شعر الدعوة
الإسلامية ، ودراسته دراسة فنية جمالية بعيداً عن هيمنة التأثير الإيديولوجي و المذهبي .
و الله الموفق
حسن النـَّيفي
منبج / 9ربيع الأول 1429
/ 16 آذار 08 20
-4-