الشاعر القدير
جلال الصقــر
أسعد الله يومك بالمسرات
بما أنك تتحدث في فني.. فالحديث ذو شجون
فقد تركنا " الشعر" لكم معشر الشعراء
وأبقينا لأنفسنا التلقي
وأود توضيح أمر هام قبل الخوض فيما جاء في
الاقتباسات الواردة للعسكري وابن رشيق
وهو أمر (الاصطلاح) وهو موضوع دقيق وله شروط وقواعد
فالقاعدة العامة الأساسية تقول :
"ثبوت دلالة المصطلح بثبوت زمن المصطلح عليه"
فهناك مصطلحات مثل "مصطلح علوم الحديث" مثلا
هي مصطلحات ثابتة الدلالة لأن زمن الحديث هو عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم وزمن روايته إلى تابعي التابعين رحمهم الله
وهو زمن ثابت لم يتغير
ومثله زمن اصطلاح العروض ، فكلمات مثل التدوير والضرب والتفعيلة وغيرها
هي كلمات اصطلاحية ثابتة الدلالة منذ عهد الخليل حتى اليوم
وفي المقابل، هناك مصطلحات دلالتها تتغير بتغير الزمان
فكلمة "صنعة" مثلا تكاد تخرج من معنى الاصطلاح لما طرأ عليها
من خلاف بين علماء البيان واللغة والبلاغة
ولو فتحت أمهات كتب الأدب لوجدت الجاحظ يعرفها في عهده بغير تعريف أسلافه مثلا
وهكذا..
فما بالك بهذا الاصطلاح في عالم اليوم
لذا فكلمة صنعة لا نعدها اصطلاحا بقدر ما هي تعبير
ووصف لحالة الشعور خاصة في قصيدة كقصيدتك هذه
وهي في ذات الوقت لا تعني التكلف ولا البديع ولا المحسنات اللفظية
قلتَ: غير أني لا أرى في قصيدتي ذلك اللهم إلا كلمة (شط)
و قد أتت عفوا من غير تكلف و لا تعسف و لا حتى تفكير في التجنيس
نعم كلمة شط.. أتت عفو الخاطر وليست متكلفة..
لكني أراك تعود لمعنى التكلف الذي نفيته في ردي السابق
وما هذا التجنيس (بصنعة) وإن كان بعض الأقدمين يسميه "صنعة لفظية"
بإضافة كلمة"لفظية" لتخصيص معنى الصنعة هاهنا
أما قول النابغة: دخلتُ يثرب فوجدتُ في شعري صنعة، فخرجت منها
فهو قول مردود تماما
لأن النابغة حين قال ما قال، لم يكن الاصطلاح البلاغي مكتملا آنذاك
ولا يعتدّ بقوله في هذا المجال
إنما جاء سجية حديث بلا تقنين ولا تقعيد
وأرى أن قول جعفر بن يحيى الوارد في اقتباسك:
"لابد أن يكون سليماً من التكلف بعيداً من الصنعة"
هو أقرب الكلام إلى الصواب
فهو بهذا ينص على أن التكلف غير الصنعة
ويوضح أن الصنعة هي ما جاء في الاستعانة بالكثرة والجنوح إلى التعقيد
وهي صنعة تخص المعنى أكثر مما تخص اللفظ
وبهذا تجد الاختلاف الضمني في الاصطلاح لكلمة "صنعة"
أما قول ابن رشيق رحمه الله
"واستطرفوا ما جاء من الصنعة نحو البيت والبيتين "
فهذا والله يوافق كلامي ولا يخالف منه شيئا
فالصناعة في الشعر وغيره مطلوبة مستملحة
لكنها تكون متجانسة مع طبع الخاطر وعفو السجية
ولا تأتي غاية في ذاتها
وبعد.. فحين نقول في عصرنا: في هذه القصيدة صناعة
أو هذه الأبيات مصنوعة
فلا نعني التكلف
ومجال ذلك واسع لعلنا نفرد له موضوعا بذاته إذا أمكن
وأرجو أن تكون فكرتي قد اتضحت
ولك خالص التقدير