الفصل التاسع من كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
..................................................

علي تمراز
..............

في الجزء الرابع لا يحدثنا كثيرًا عن تفاصيل حياة علي تمراز. وهو ولي آخر يلجأ إليه الناس في الشدائد والملمات. وإن لجأ إليه جابر برغوت لعله يجد عنده البشارة، لكن " علي تمراز مجذوب بدا منه ما يشبه الكرامات في وقت حسن باشا الإسكندراني ، فأمر بإنشاء هذا الجامع باسمه " ( 1 ). وقال عنه الشيخ عبد الحفيظ وهو إمام المسجد: " علي تمراز لم يكن وليا .. إنه مجذوب أخلص في محبة الله " .
ولعل جابر برغوت هو الشخصية الرئيسية في ( علي تمراز )، الذي ألف الناس رؤيته أمام مدرسة البوصيري لصق الضريح. يروى عنه أنه مُجاب الدعوة، يطوف بالمبخرة يبسمل ويحوقل.. " انسلخ من حوله وقوته، لبسه سيدي الأنفوشي. ظهر له في المنام، وأنبأه أنه سيركبه كما يركب الجواد. يتكلم باسمه، وينطق كلماته " ( 2 ). وأصبحت لجابر كرامات وشطحات وخوارق !.. يلجأ إليه الصيادون في شدائد البحر ومضايق البر وتتسلل إليه الحوامل ليضع يده على بطونهن، فيعرفن منه إن كان ما يحملنه ذكرًا أم أنثى. وتتردد أوصاف ذات دلالات صوفية ، كما هي عادة الكاتب كلما يمم وجهه شطر الصوفية ، يقول عن جابر : " يعاني الإحساس بالحنين والذبول والإحباط والعجز والغربة والوحشة والهزيمة والاضطهاد والقهر والجدب " ( 3 ) . وتتراكم مثل هذه الصفات لترسم صورة للغارق في الاتجاه الصوفي، ويعزله عن دنياه.. وقد فاجأ برغوت الناس يومًا بعصا ينهال بها قائلا : كيف ستواجهون عذاب يوم عظيم ؟! ينسلخ عن دنياه، يقول عن نفسه : " أعوذ بالله أن أدّعي الولاية .. أنا خادم الأولياء ! " ( 4 ) . وهو يسير على درب الصوفية منذ ظهر له ياقوت العرش وأمره واختفى .وأتاه هاتف بأنه ربما يجد البشارة في علي تمراز، فأكثر التردد على الجامع. وطالت جلسات برغوت بجوار مقام علي تمراز، ولوحظ أن المكان الذي يجلس فيه يظل مضاء حتى الصباح ! واعتبر ظهور قناديل البحر نذيرًا بيوم القيامة.. ويسترسل الكاتب في الإفاضة عن حالة الوجد التي يمر بها جابر برغوت، وطاعته للأولياء، وإن لم يذق ما ذاقوه، ولا عرف ما عرفوه. وانتظر جابر ظهور ولي الله الأنفوشي . ثم يفاجئنا الكاتب في نهاية الرباعية ، وبعد قيام الثورة، بسفر جابر برغوت إلى القاهرة، تاركًا ( بحري ) بناسه ومقامات أوليائه، وإن كنا لا نجزم بأن ثمة علاقة بين قيام الثورة وسفره المفاجئ .. إلا أن طبيعة جابر قلقة لا تستقر على حال.. فقد انتقل من كونه مريدًا للأنفوشي، ليكون مريدًا لعلي تمراز.. كما أنه لازم منطقة ( بحري ) زمنًا طويلا لا يغادرها، وفجأة تركها إلى القاهرة .. هي النفس القلقة التي لا تجد نفسها في الاستقرار في مكان واحد. فجابر برغوت ذو طبيعة متمردة على المكان بمعناه الحرفي والرمزي . ولا يحمل ذكريات لمكان أو مقام، إنه نفس ثائرة متمردة لا تهدأ ولا تستقر على حال .
ولم يزل كاتبنا يتتبع أنسية، وهي شخصية رئيسية في الأجزاء الأربعة. يتتبع عذابها، بتكرار الحَمْل والإجهاض، " داخت من اللف على الحكيمات والمستشفيات والمشايخ والمقامات والأضرحة " ( 5 ).. تؤلمها تعليقات النساء. طلب منها الطبيب إجراء تحاليل لها ولزوجها. انتقلت هي وسيد للعيش في شقة بالبلقطرية، وأبطل سيد شُرب الكِيف. وسلمت نفسها لما يطلبه ( الأسياد ) منها ، ورضخ سيد لهم ، من أجل أن تكمل حَمْلها وتضع طفلا ! يوجعنا الكاتب وجعًا شديدًا على حال أنسية. نتمثلها سيزيف عصرها . كان سيزيف الأسطوري يرتقي الجبل بحجر ضخم، فيسقط منه إلى السفح، فيعاود الكرة، وتتكرر الخيبات، مرة بعد مرة.." حكمت عليه آلهة الإغريق بأن يظل إلى الأبد وهو يدفع بحجر ضخم إلى قمة الجبل. وفي كل مرة كان يبلغ فيها القمة بحِمْلِه الثقيل كان هذا الحِمْل ينزلق منحدرًا إلى أسفل الجبل مرة أخرى. ويقال إن غاراته المتكررة على البلاد المجاورة نهبا وسلبا حتى لقد كان يكدس الأحجار فوق من يُنكل بهم ليموتوا شرّ ميتة بعد عذاب أليم، هذا كله كان السبب في الحكم عليه بتلك العقوبة الشديدة " ( 6 ).. هكذا أنزل الكاتب عقوبته على أنسية التي باعت جسدها ، قد عاقبت الآلهة سيزيف ـ في عُرف الأسطورة ـ بأن جعلته ينوء ويشقى بـ ( حِمْل ) الحجر، وجعل الكاتب أنسية تشقى وتتعذب بـ ( حَمْلٍ ) لا يثمر . . تظهر عليها دلائل الحَمْل، ثم يسقط في كل مرة.. تكرر الحَمْل والسقوط كثيرا، وحق عليها القول بأنها " امرأة متعوقة، وهي عندها السقط. الجنين لا يستقر في أحشائها، وينزل قبل موعده، وهي مصارينها ناشفة، وهي امرأة جلد، وهي مدكّرة، وهي كالبيت الوقف، كالأرض البور، كالنحلة الذكر، كالشجرة التي بلا ثمار، كالشيخ المقطوع نذره !.. " ( 7 ) . يكثف الكاتب وصف حال أنسية، بحيث تكاد لا تجد وصفًا آخر لم يذكره الكاتب.. فهو يلوذ بكل تشبيه ومثال.. تستجدي عطف الطبيب الذي حار في حالتها، وأحالها إلى أنه ربما أصيب زوجها بزهري، فتسقط الحال عليها، تحت وطأة عقدة الذنب التي تزاملها وتلازمها. يكاد ينفد صبر سيد، تتغير تصرفاته معها.. وحين تتأثر، يسترضيها، لكن القلق لازمها من احتمال تطليق سيد لها . ووافق سيد على اجراء تحاليل .. ثمة " أمل يحيا داخلها، ملامحه شاحبة، ولا صوت له، لكنه قائم، يشاركها أنفاسها .. " ( 8 ) . ونصحها الطبيب بأن تسترد عافيتها سنتين أو ثلاثا. زار سيد الشيخ كراوية فأخبره أن رحم زوجته مغلق ولا يجدي معها علاج طبيب، أما الشيخ عبد الحفيظ فأرجع الحالة إلى إرادة الله، وأوصاه أمين عزب بالصبر. قال له صابر الشبلنجي : " أحلّ الله الزواج من ثانية .. وأحلّ الطلاق " ( 9 ). فيجيبه : " أنسية بنت حلال .. الطلاق مستحيل .. زواجي عليها يقهرها " .. وبطريقة ( الفلاش باك back flash ) أو ( تداعي الصور ) يسترجع علاقته بها .. حبها له، وحبه لها .. وأشياء كثيرة لا ينساها .. من المستحيل أن تحل امرأة أخرى مكانها. وتلوذ أنسية بمقام علي تمراز. اقتربت من الشيخ جابر برغوت الجالس لصق المقام .. للشيخ سره الباتع.. اقتصّ لها سيدي أبو العباس من الظلم ، ووهبها سيدي ياقوت العرش ما بدا في حياتها مستحيلا .. الله لن ينساها .. وفي نوبة يأس، لجأت أنسية إلى البيت المهجور، وجامعت الشيخ حماد، في إشارة يائسة لحالها المزرية، ومضت نحو البلقطرية !!
وثمة شخصية تتألق في حبها للبحر، منذ عرفناها في الأجزاء السابقة، هي شخصية مختار زعبلة، الذي قاد ( لانش ) حمادة بك، فلاقى سمكة كأنها جن بحر، ورأى أنها كالوحش يترصد له فقاومها وقاتلها بسكين، إلا أنه أصيب . لجأ إلى الجد السخاوي الذي نبّهه إلى سقوط سمكة في حلق صاوي رزق فمات ! واستغرب سيد الفران لجوءه إليه يسأل عن أدوات الصيد، فعتب عليه، فحياته مع الصيادين وقهوته اسمها البحر ! وسعى لامتلاك بلانس فصنعه عند نجار. وعرض على محمد الراكشي أن يعمل معه التماسا لبركة أبيه فرفض . والتقى بثروت. عرض عليه العودة إلى البحر رئيسا للبلانس الذي يملكه، إلا أنه تشبث بقراره بالبعد عن البحر . فأوكل مختار أمر البلانس إلى قاسم الغرياني إلا أن البلانس ينفجر ويتحطم فيضيع أمل مختار زعبلة في ركوب البحر !
والجد السخاوي إنسان بسيط يستلفت نظرك منذ السطور الأولى للرباعية. رامزا للحنكة والحكمة، والصوت المعبر عن آلام وآمال الصيادين. لم يتعرض لحياته الشخصية إلا في الفصول الأخيرة، وحرص على أن يصحبنا عبر أحداث الرواية، ناصحا أمينا لزملاء مهنته، ولا يضيره أن يكون الرجل الثاني أو ( السكوندو ) ـ على حد تعبيره ـ .. وفي الجزء الأخير ( علي تمراز ) يفجعنا في موته ، بعد أن حببنا إليه ، بعد أن اقتربنا منه وعقدنا صلة حميمة مع هذا الرجل البسيط . قد يكون الجد السخاوي صوتا للضمير اليقظ ، معبرا عن العقل الجمعي للصيادين . ومن المدهش والرائع في آن أن يمتثل الصيادون لآرائه ولا يناقشونه كثيرا ، أو يضجرونه بتعليقاتهم، أي أن الصلة الحميمة التي عقدها القارئ معه، هي نتاج صلة حميمة انعقدت بين الرجل وزملائه الصيادين. وقد سماه الكاتب ( الجد السخاوي ) ، و ( الجد ) تشي بالاحترام والثقة والسنين الطويلة والعمر المديد. وإن كنا لا نعلم ما إذا كان اسم ( السخاوي ) لشخصية واقعية عرفها الكاتب في ( بحري ) وإن كنا لا نستبعد ذلك، وإن كان الدليل يعوزنا.
ويظهر الجد السخاوي في لقطات معينة. فحين يلجأ إليه مختار زعبلة، أعطاه دروسا في صيد السمك، وروى له ما حدث لصاوي رزق، إذ سقطت سمكة في حلقه فمات ! ( 10) . وفاجأ الجد السخاوي رواد قهوة البحر، بدخوله وجلوسه. ولما سألوه عن نقوده، قال أن كفنه أولى بها ! رويت حكايات عن صداقته لأهل الباطن الذين يلبون طلباته منذ وفاة زوجته ! قال لرواد المقهى أنه سيموت بعد أيام قليلة ! واختار قاسم الغرياني لقيادة البلانس بدلا منه .. " أنت الريّس وأنا السكوندو في الرحلة القادمة " ( 11 ). ونقرأ عن تدهور صحته لتقدمه في السن، وأحزانه بعد وفاة زوجته .. وطلب من كل منهم أن يعطيه وصيته أو رسالته يحملها معه للموتى !! وعقب على قفشاتهم قائلا : " عندما أحس مختار زعبلة بنهايته، نزل البحر . ومات فيه ! " ( 12 ) .
أخيرا، مات الجد السخاوي . وقبل أن نتلقى نبأ موته ـ في فصل ( الدخول في دائرة النور ) ـ مهّد الكاتب بإشارة رامزة من عم رجب حين لمح سمكة ثعبان المارينا ذي الأسنان الحادة، فخشي مواجهة خطر الموت، فألقاها في البحر تخلصا منها، وأقفل راجعا، فصدمه حمودة هلول بنبأ موت السخاوي.. وكان قد " ألف وجود الجد السخاوي في حياته، مثلما ألف طلوع الشمس والقمر، ووجود البحر، وأضرحة الأولياء، وتوالي النوّات " ( 13 ) .. وكان الرجال يستغربون العمر الذي طال به .. كان " يعرف التيارات البحرية، وأماكن الصيد، وترقعات الرياح، والنوّات، والأمواج، والمد والجزر .. " ( 14 ) .. مشى في جنازته خلق يبكون ويدعون، رجالا ونساء .. كأنه والد الجميع .. وقبيل موته، تذكر زوجته ( هنية ) التي سبقته إلى الدار الآخرة .. وأصابته حمى، ورأى عرائس البحر يراقصن جمعة العدوي وسباعي سويلم والمليجي عطية وحودة التيتي ، ورأى البهاء إسماعيل سعفان.. وفي يوم الجنازة " لم يركب الرجال البحر، ومضى اليوم في الحلقة بلا بيع ولا شراء، واختفى الفريشة والعربات من الساحة المقابلة. وأغلقت دكاكين وقهاوي السيالة أبوابها، وانصرف المصلون في الجوامع إلى تلاوة القرآن " ( 15 ).
وهي الجنازة الأسطورية الثانية بعد جنازة علي الراكشي.. والاثنان عرف الناس صلاحهما واستقامتهما. فالراكشي انصرف عن متاع الدنيا وملذاتها واتجه إلى التصوف، والثاني عرك الحياة وخبرها وأخلص النصح والقول السديد . ولعل انخراط الناس في الحزن على فقدهما كان فعلا إراديا ذاتيا لم يفرضه أحد، وفي المقابل نجد أحداث قيام ثورة يوليو 1952، وإرهاصات ما قبل الثورة ، أمورا تتعلق بمصير الوطن ، إلا أن مثل هذه الأمور لم ينفعل بها رجل الشارع كثيرا، وإن كانت مثار تعليقات من رواد مقهى مهدي اللبان. فالتأثر بالأحداث السياسية كان تأثرا سطحيا، أو هو تأثر من الخارج، بمعنى أن ناس ( بحري ) في الرباعية لم يلتحموا مع آمال الثورة وتطلعاتها إلى تغيير أنماط الحياة المصرية .. وصورهم الكاتب متفرجون على الأحداث كأنهم يشاهدون مسلسلا تليفزيونيا ، ويتابعون أحداثه. وإن نما الخط الدرامي السياسي بعض الشيء باستشهاد ممدوح ابن ابراهيم سيف النصر ، وكان ضمن الفدائيين الذين قاوموا الإنجليز في خط القناة . وقتل أدهم أبو حمد لعسكري إنجليزي فحكم عليه بالإعدام فهرب . وترشيح حمادة بك نفسه لانتخابات مجلس النواب ، وإن صوره الكاتب في صورة هزلية، منغمسا في فضائحه الجنسية، واشتراك عبد الله الكاشف في الانتخابات والدعاية لمرشح الوفد. واتهام أمين عزب ـ بعد حريق القاهرة ـ أنه يؤوي الفدائيين في بيته، فاعتقلوه وسجنوه، ولم يُكتشف الخطأ إلا بعد ثلاثة أشهر، فأفرجوا عنه ! وما عدا ذلك، بدا أهل ( بحري ) مجرد عينٍ راصدة للأحداث السياسية .
وثمة شخصية أخرى تأسرنا ، ولم تظهر بوضوح إلا في الجزء الرابع. هي شخصية حمدي رخا .. ذلك الشارد العازف عن لغو الأحاديث، منشغلا بعالم مثالي يتوق إليه.ورخا من رواد المقهى وإن لم يشارك في الأحاديث مع أحد وعرف عنه شروده وصمته، وإن تكلم فقليل من الكلمات، مكتفيا بتأمل المرئيات من حوله، وتأمل أحوال الناس . وتجتذبه عوالم يصوّرها لنفسه، أو هي عوالم من بنات أفكاره. يدخل محارة صمته، لا يحادث أحدا عن الأماكن التي تردد عليها ! وفي فصل ( انتقال إلى الأسمى ) ، حديث عن الجزيرة وطلاسمها، وتوقه للوصول إليها . وفي قاع البحر أسرار لا يفهمها البشر ! وطفق يجدف بمجدافين ، في محاولة ـ خيالية ! ـ للوصول إلى التقاء زرقة السماء بزرقة البحر ! يمر حمدي رخا بلحظات تأمل يستغرق فيها، فيتصور مياه البحر ميادين وشوارع وبيوتا وحدائق، وإن اختلف ناس المدينة الخيالية عن ناس الإسكندرية. ويترك نفسه للحظات هادئة.ز ولاحظ جلساء المقهى شروده، وتعلق ذهنه بالسحر المليئة به حواديت جدته وأمه، وعوالم غريبة عن أخت لا تفارقه ! وأحاديث الأب عن عفاريت القيالة التي تظهر في صورة البشر العاديين ! وعثوره على خاتم ـ قد يكون خاتم سليمان ـ تحت زعنفة سمكة ، فأخفى أمر الخاتم عن زوجته فايزة، وتطلع إلى مدينته الجميلة الحالمة التي يتخيلها كأنها ( يوتوبيا ) من طراز فريد ، غير مدينة أفلاطون الفاضلة ! .ز والمدينة ذات صلة بالإسكندرية. ناس المدينة ليسوا حزبا سياسيا ولا جماعة دينية أو اجتماعية، وإنما هم صفوة : إبراهيم سيف النصر وعبد الله الكاشف والشيخ قرشي ونجيب المهدي والشيخ أحمد أبو دومة وفهمي الأشقر وأدهم أبو حمد وزكي بشارة. ولما شفت الظلمة ، بدت الجزيرة المدينة، أرضا ممتدة فوقها بنايات وحدائق وجوامع وميادين وشوارع.. وبنى جسرا يصل بين شاطئ الميناء الشرقية والجزيرة.. وسرح به الخيال ليرى عبد الله الكاشف ، يحيا في هذه الجزيرة مطمئن الخاطر، فلا ينزل إلى الإسكندرية ولا يعود إلى قريته.. وطفق يوزع ـ في الخيال ـ المناصب على جماعته الصفوة، بما يكفل انتظام الحياة في الجزيرة. ثم يردنا إلى الواقع، حيث لم يتحقق الحلم، وإن ظل هاجسا يشغل النفس ‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍.. فيلقي بالخاتم في البحر.. في فصل ( الاستغراق )، يتغير مستوى الخطاب، فيتوجه الكاتب بخطابه إلى حمدي رخا، وهو مستوى بلاغي يختلف عن سواه من الفصول. وهي طريقة يرتقي بها الكاتب خيال الشخصية الميتافيزيقي البعيد عن الواقع، فحمدي رخا حالم بطبعه ميال إلى التأمل، ينسج في خياله مدينة مثالية، تختلف عن سواها من مدن الواقع. كما أنه لم يُشر إلى اسم الشخصية ( حمدي رخا ) ، وإنما عمد إلى إغفاله، وهي عادة الكاتب فيس العديد من الشخصيات الرئيسية ، وفي الوقت نفسه، لا يرى مثلبة في ذكر أسماء ثانوية ليست فاعلة في الأحداث ‍ .. ويضطر القارئ إلى أن يراجع الفصول التي قرأها ، حتى يصل إلى فصل ( الطيران بجناح الهمة ) ، حيث ذكر فيه الاسم صراحة، وبتلك المراجعة من القارئ يستطيع أن يصل ما ذكره فيه عن حمدي رخا بما كتبه في هذا الفصل عهه . وقد تبدو المراجعة عملية شاقة وسط زحام شخصيات الرواية وتعدد الاهتمامات، وقد تبدو كشفا يعتمد على البحث والتركيز . وقد اهتم حمدي رخا بقيام ثورة يوليو 1952، فبدأ يشارك رواد المقهى في الحديث عن الثورة ، وتخلى عن شروده . و لم يظهر رخا بصورة ملموسة إلا في الفصول الأخيرة من الرباعية ، كأنه المبشر بتحقيق الحلم، لكن الشخصية إذا حرص الكاتب على جعلها رئيسية من بداية الرباعية لكان ذلك أوقع و أبلغ في الدلالة ، ولا يقتصر على مصاحبة القارئ لشخصيتي الجد السخاوي وأنسية .
ومن الأحداث الفاجعة والمواقف المصيرية في ( علي تمراز )، نذكر :
1 ـ شارك وزير الأوقاف في وضع تقرير مع نقيب الأشراف يبرهن فيه كذبا نسب الملك فاروق إلى سلالة الرسول، رغم أن الملكة نازلي هي حفيدة سليمان باشا الفرنساوي ! ( 16 ) .
2 ـ اكتشاف فضيحة حمادة بك في حمام الأنفوشي .
3 ـ غرق طه ملوخية نتيجة خطأ في استعمال جهاز الغوص (سكوبا).
4 ـ موت هشام ، الذي كان يحب مهجة ويريد الزواج منها لولا فرية طه مسعود الذي ادّعى أنهما أخوان في الرضاعة .
5 ـ ذكر ما جرى لصاوي رزق، إذ سقطت سمكة في حلقه فمات !
7 ـ ذكر غرق فتحي عبد ربه، حين طلع من المياه بسرعة، مما أضاع توازن الدم !
8 ـ فتونة حنفي قابيل.
9 ـ اعتقال أمين عزب بتهمة إيواء الفدائيين في بيته، فقضى في السجن ثلاثة أشهر !
10 ـ القاء القبض على فؤاد أبو شنب بالمخدرات داخل الجامع !
11 ـ ظهور قناديل البحر .
12 ـ موت الجد السخاوي .
13 ـ قيام ثورة يوليو 1952

الهوامش :
(1) علي تمراز ـ ص 69
(2) المصدر السابق ـ ص 21
(3) المصدر السابق ـ ص 22
(4) المصدر السابق ـ ص 58
(5) المصدر السابق ـ ص 7
(6) د. ثروت عكاشة : المعجم الموسوعي للمصظلحات الثقافية ـ الشركة المصرية العالمية للنشر ( لونجمان ) ، و مكتبة لبنان ـ ط 1 عام 1990 ـ ص 435
(7) علي تمراز ـ ص 131
(8 ) المصدر السابق ـ ص 147
(9) المصدر السابق ـ ص 212
(10) المصدر السابق ـ فصل ( التذوق .. للمعرفة )
(11) المصدر السابق ـ ص 193
(12) المصدر السابق ـ ص 196
(13)، (14) المصدر السابق ـ ص 225
(15) المصدر السابق ـ ص 228
(16) المصدر السابق ـ ص 18