بوجوده غير المرئي جال((ملك الموت )) في فضاء السوق المكتظ بالناس.. ينظر بشفقة إلى وجوه البشر المتعبة التي كان العرق يتصبب منها لشدة القيظ ..وحرارة الجو تزداد سخونة كلما ارتفعت شمس الظهيرة لتتوسط كبد السماء.. معلنة انتصاف نهار صيفي لهاب آخر.. أمعن النظر بوجه شاب وسيم لم ؛يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره يمسح بيده عرقا تفصد على جبينه وينظر إلى بطن زوجته المنتفخ بتساؤل يشوبه القلق, وهي تقلب ملابس صغيرة تشبه ملابس الدمى, وظل ابتسامة خفيفة تلوح على وجهها كلما وجدت قطعة تلاءم وليدها المنتظر غير عابئة بالحر الشديد, ولا بنظرات زوجها القلقة .. خطف ملك الموت بنفسه من أمامهما ليطوف فوق رأس شابين يعملان بالتحميل, وهما يكومان الكثير من الرزم فوق كتفيهما وقد ابتلت ملابسهما لكثرة العرق, يتسابقان بينهما من يصل إلى المحل صاحب التوصيلة أولا فيحصل على ((بقشيش)) يعينه على قوت يومه وإطعام أفواه كثيرة جائعة تنتظرهما.. تركهما وطفق يحوم حول فضاء السوق مرة أخرى يتابع من علو أكوام البشر وهي تروح وتجيء, وقد بدا له الكثير منهم يحمل هموم وأعباء حياة سقيمة لا تطاق تكاد تنطق ملامحهم بما يعانون من بؤس وشقاء.. بينما بدا له البعض الآخر غير عابئ تبدو اللامبالاة على محياهم.. وهنالك ثلة قليلة منهم بدت ملامحهم المترفة توحي له بأنهم سعداء بالرغم من تذمرهم من زحمة السوق وحرارة الجو إلى حد الاختناق بلفحات الهواء الساخنة المشربة برائحة العرق والأنفاس ..من بعيد لمح رجل زائغ النظرات دميم الوجه عرفه على الفور يحمل بين طيات جنبه ((ميقات الموت )).. ولحظة الآذان فيه .. تحرك ملك الموت في سرعة خاطفة باتجاهه يطوف فوق رأسه مباشرة, والرجل يمشي مطرق الرأس مشية سكرا.. وملك الموت يلازمه ملتصقا لا يفارقه.. مد الرجل يده في داخل جيبه وهو يسرع خطاه المترنحة, ينظر إلى وجوه الناس الذين أبدى البعض منهم علامات الاشمئزاز والتقزز عند رؤية وجهه الدميم .. يرمقهم بنظرات الغضب والحقد ثم توقف فجأة..توسط السوق وضغط على (( زر الموت )) بقوه .. دوى الانفجار سريعا قويا فتقطع جسده إلى أشلاء صغيرة ومعه تناثرت أجساد كثيرة متطايرة إلى الفضاء.. يتطاير الدم منها وكأنه انهمار مطري ثقيل.. وملك الموت يتلقف الأرواح بسرعة البرق وفي لمح البصر..يرفعها إلى السماء عاليا فتطير أرواحا كنسمات خفيفة.. وتبقى أرواح أخرى.. تصارع الموت من أجل الحياة .. مئات الأرواح التي قبضها اليوم وشدة النيران والدخان الكثيف والأبنية المنهارة ..وحدوث هذا الانفجار الذي يحمل الرقم ثمانية منذ بدء النهار وحتى انتصافه .. جعله يشعر بالتعب الشديد والإنهاك فترك بعض الأرواح تنازع, وجلس على حافة الرصيف ..يستريح.. تتفحص عيناه أعداد الجثث المتناثرة بنظرة ذهولة.. تناهى لسمعه صوت بشري يئن أنينا خافتا يائسا , التفت ناحية مصدر الأنين فرأى جسد شاب مسجى على قارعة الطريق مقطع الأوصال تنزف كل أوردته, مع كل نبضة من نبضات قلبه..بجانبه ترقد امرأة بلا رأس مقطعة الأوصال وقد تدلى (( جنينها )) من بطنها التي انفلقت من شدة عصف الانفجار, فبدا الجنين وكأنه لعبة صغيرة ممزقة .. ترقد إحدى يديه المقطوعتين, على صدر أبيه, وكأنه يستجير فيه الأبوة, ويستغيث حمايته, تفترش أحشائه الصغيرة الرفيعة إسفلت الشارع .. وشرايينه الرقيقة تضخ الدماء, على الأرض التي اغتسلت بدماء والديه ودمائه.. أدار ملك الموت رإسه إلى الناحية الأخرى, مشيحا النظر عن ذلك الجسد المتمزق.. يتحاشى رؤية وجهه وسماع أنينه.. فالتعب أخذ منه مأخذه ولم يعد يطق قبض روح أخرى.. طأطأ ملك الموت برأسه وصوت أنين الشاب يرن في أذنيه ويدوي برأسه, ووجهه المألوف يحوم حوله.. يأبى أن يفارقه.. وهو يتوسل في صوت خافت ملهوف أن يسرع بقبض روحه ويخلصه من عذاب وألم لم يعد يحتملهما .
استدار ملك الموت مرة أخرى ينظر إلى وجه الشاب, فوجده يحدق في وجوده بعينين تملؤهما نظرة متوسلة.. تطلب الرحمة والخلاص.. يؤشر إلى السماء بإصبعه الوحيد المتبقي من يده.. يستغيث.. قائل, في صوت واهن متهدج لملك الموت يستعطفه:
- أستحلفك الله أن تعجل.
خشع قلب ملك الموت ..أحس بالشفقة والرحمة تملأ روحه.. فنهض بسرعة.. وقبض روح الشاب وهو يصرخ في لوعة وحرقة.. مستغيثا:
- رحماك إلهي.. ألا ينتهي الموت في هذا البلد أبدا.. ألا ينتهي .؟