سأشارك في مسابقة القصة بهذه القصص الثلاث :
1 مارد .
2 ـ صباح الدم .
3 ـ انتظار .
على الرغم من حيرتي الشديدة في اختيار إحدى هذه القصص للمسابقة لكنني سأختار قصة ( مارد ) وعلى بركة الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القصة الأولى :
(مــارد)
ماما ، متى ستأتي مها ؟ .
سألني وائل بلثغته الواضحة وهو يضع أذنه على بطني ويرهف السمع . دفعه أنس بكفيه الصغيرتين ووضع أذنه على نفس الموضع ثم سألني :
ماما ، مها تحبني ؟ .
ضممتهما إلى صدري وأجبتهما :
مها تحبكما. بعد أيام قليلة ستخرج من بطني بإذن الله ، وستكبر وتلعب معكما .
ركض الصغيران ليلعبا تحت ظل شجرة في حديقة البيت ، فيما أخذت أتحسس بطني البارزة أمامي في استدارة محببة .
كان سامي جالسا بمحاذاتي يحتسي قهوته ويراقب طفليه ، تتراقص على وجهه ابتسامات مشرقة ، ومن حين لآخر يتسابق الصغيران للوصول إلى ذراعيه المشرعتين ، وعندما يصلان إليه يحتضنهما و يتدحرج معهما على العشب فيتناغم ضحكهما و كلامهما مع قهقهته ولهاثه .
شرعتُ أتأمل وجه سامي الذي يشي بالألفة والحنو ، فتنبّه إليّ وهو ينفض التراب عن ثيابه ثم جلس إلى جانبي. ألصق فمه بأذني وهمس لي :
من أسعد مني يا حياة ؟! .
ضمّ أصابعي بين كفيه وقبّلها . هممت بأن أضع رأسي على صدره فانتصب بيني وبينه ذاك الجدار السميك .
ها أنت يا خالد تتراءى لي من جديد تحت تلك الشجرة ، وعيناك العسليتان المشبعتان بالانكسار لا تبرحان عينيّ . ضمني سامي إلى صدره وربت على شعري فاستسلمت لدفئه ، وسرعان ما ابتعدتُ عنه حين دنوتَ مني وانهالت عليّ سياط وجودك . سحبتُ أصابعي من بين كفَي سامي حين حاذيتني . بدأ الخوف يدب في عروقي . وجهك تزداد مساحته بالتدريج حتى يغطي السماء . يدمدم صوتك في أعماقي رعدا :
لطالما أقسمتِ لي يا حياة أنك لن تكوني لرجل آخر سواي .
ـ لا تلمني على أمر ليس بيدي يا خالد . أنت تعلم جيدا أنني أحب الأطفال بجنون .
ازدادت حدة الانكسار في عينيك حين خفضت رأسك قائلا:
لو كنتُ مكانك لما تخليت عن أحب إنسان إليّ .
ـ ربما ، ولكن ليس لأنك أشدّ وفاءً مني ، بل لأنك رجل لديك خيارات أخرى : إنّ بمقدورك أن تتزوج امرأة ثانية تحقق لك حلم الأبوة وفي الوقت ذاته تحتفظ بي ، أما أنا فليس لدي أي خيار آخر ، إمّا أنت وإمّا الإنجاب .
تناءيت عني وجلست على العشب متكئاً بظهرك على السور ، تراقب ولديّ وهما يلعبان . نهضتُ من مقعدي ومشيتُ صوبك بخطى بطيئة ، ثم جلستُ بمحاذاتك . تأملتني مليا ثم أشرت بسبابتك إلى وائل قائلا :
وائل يشبهك تماما .عيناه جميلتان واسعتان مثل عينيك ولكنهما فاحمتا السواد مثل عيني أبيه.
تناولتَ عودا من الأرض وشرعتَ ترسم به على التراب دوائر متداخلة ثم أردفتَ : ـ
سميتهما وائل وأنس ، اسمان من الأسماء التي كنت أنوي أن أسمي أبنائي بها ، لو أن الله رزقني بأبناء .
ـ أنت لا تكف عن تأنيبي ! .
ـ .............. .
ـ والله إني أدعو الله لك في كل صلاة أن يرزقك بالذرية .
ابتسمتَ ابتسامة مشوبة بالأسى وقلتَ :
أن يكون للمرء أبناء ، شيء يبعث على السعادة والرضى ، أليس كذلك ؟ .
ـ أتذكُر يا خالد كم كنت أتحرق شوقا إلى أن يكون لي طفل يناديني يا ماما ! ؟ ، وكم كنت أعشق رائحة أجساد الأطفال حديثي الولادة ومناغاتهم ، وأطرافهم الدقيقة وملابسهم القطنية الناعمة الملمس ؟ .
أتذكُر يوم أن باغتني وأنا ألقم ثديي فم ابنة أختك الوليدة خفية ؟ . كنتُ آنذاك أتخيل أنها ابنتي وأهدهدها لتنام .
أتدرك عمق حسرتي حين كنت أشتري الهدايا وأذهب لأبارك لصديقاتي اللاتي وضعن ؟ ، وحين كانت النسوة يطلقن عليّ رصاص أسئلتهن الذي لا يفتر : ألم تحملي بعد ؟ ! .
قذفتَ بالعود بعيدا وقلت وأنت تنفض يديك من التراب :
وها أنت يا حياة قد أصبحت أما وتحقق حلمك القديم ، وبيتك الآن يضج بنداءات ولديك : ماما .. ماما .. ماما ، فهل وجدت السعادة التي كنت تنشدينها ؟ .
ـ كنت سأجدها لو أنك كففت عن ملاحقتي .
ـ أنا لا ألاحقك !.
تنهدتَ واختلج صوتك قائلا : ـ
إن مشكلتي يا حياة هي أنك روحي .
نظرتَ إليّ بعينيك الدامعتين واستطردتَ : ـ
كيف يحيا المرء بلا روح؟ ! .
ـ ولكنك تعذبني .
ـ ألأنني مازلت أحبك ؟ ! ، أنت أيضا يا حياة لم تخب جذوة حبك لي منذ افترقنا . أتنكرين أنك مازلت ترتدين الفستان الأزرق الساتان الذي أحضرته لك من سوريا ، على الرغم من أن سامي لا يحب اللون الأزرق ؟ ! ، وتصريّن على اقتناء العطر الذي أهديته إليك ذات مساء حالم . وتلك الحقيبة التي تحتفظين فيها ببعض ملابسي ، ألا تلوذين بها في لحظات انهيارك كما تلوذ القوارب المنهكة بأرصفة الموانئ ؟ ! .
ـ خالد ، أتمنى أن أعيش يوما واحدا بدونك ، و أن أستيقظ في الصباح وأرتب سريري دون أن أشم رائحة جسمك في لحافي ووسادتي ،ودون أن استنشق أنفاسك التي يعج بها بيتي . أتمنى أن لا أرى ملابسك وأحذيتك ونظارتك وأشياءك متناثرة حولي .
في بعض الأوقات أهرب منك وأختبئ في حجرة أولادي ، وفي أحيان أخر أخلو بنفسي وأغلق الأبواب وأحتسي قهوتي ، فأراك في البخار المتصاعد منها ، أراك عند بوابة المحكمة يوم الخُلع . قلت لي آنذاك:
والله لن أسامحك ما حييت .
كانت شفتاك ترتجفان بشدة وانفلتت من عينيك دمعة كبيرة ، وأنت تحث
الخطى منصرفا نحو سيارتك .
في تلك اللحظة فقط يا خالد أدركتُ هول ما اقترفتُ . عارية كنت أقف تحت شلالات الذهول الثلجية . إلى متى سنظل على هذا الحال ؟ .
ـ أنا أيضا متعب بدونك .
ـ من الجنون أن نستسلم لهذه الحبال الروحية التي تربطنا . كلانا متزوج . قدرنا أن نفترق ، فلم يصرّ كل منا على أن يحيا حياتين في آن واحد ؟ .
ـ ............ .
ـ أتحب زوجتك ؟ .
ـ من الغباء أن يهب المرء قلبه لمن يغدر به عندما يتعارض الحب مع المصالح الشخصية .
ـ أي أنك لا تحبها .
ـ لا يهم . المهم أن أحيا بسلام . هي أيضا لا تنجب . لا أحد منا يهدد الآخر أو يطالبه بما لا يملك .
ـ ما الحل يا خالد؟ .
ـ ماذا تريدينني أن أفعل ؟ .
ـ ارحل .
ـ سأرحل عندما تجتثين جذوري من قلبك .
ـ هب أنني ضعيفة أمامك ، ألا ترأف بي وترحل ؟ .
ـ هل هو قرارك الأخير ؟ .
ـ ............
ـ ............
التفتُ إليك فلم أرك .
نهضتُ بمشقة وعدت إلى مقعدي بجانب سامي الذي استقبلني بنظرات قلقة حانية . ضمني إلى صدره قائلا :
تبدين شديدة الإعياء ! . هوني عليك ، بعد أيام قلائل ستضعين حملك بالسلامة .
التصقتُ به بقوة وتنفستُ بعمق فتفتحت في نفسي براعم الطمأنينة . همستُ له : ـ
سامي خبئني بين ضلوعك هناك بعيدا .... بعيدا عن هذا العالم .
ألصقتُ رأسي بصدره وأصغيتُ إلى نبضات قلبه ، لكن ثمة صوت مبهم يمتزج بالنبض ، صوت بعيد خفيض كأنه قادم من قاع بئر . الصوت يعلو بالتدريج ويستحيل نداءً ملحا ً.
رفعتُ رأسي فرأيتك جالساً على حافة السور ! .
بقلم : مريم خليل الضاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
القصة الثانية :
(صــــــباح الدم )
أتأملك يا أبي من وراء فرجة باب حجرة نومي ، صبيحة ليلة عرسي . أتيتَ مبكرا كعادتك عندما تزور بناتك في مثل هذه المناسبة .
أتيتَ خائر القوى ، جاف الحلق ، زائغ النظرات . يلوح على وجهك ذلك الانكسار الحاد العميق الذي غدا جزءاً من ملامحك ، و تطوّق عنقك أغلال سوداء ثقيلة لا يراها أحد سواي . لم يعد هناك إنسان يهددك بعد أن تزوجت شقيقاتي كلهن غيري يا أبي ، أنا ابنتك التي لم يأتها نصيبها إلا عندما شارفت على الأربعين من العمر .
كانت شقيقاتي يصفن حالتك في صباحيّاتهن ، وكيف كان أزواجهن يعطونك ملاءة السرير البيضاء الملوثة بالدم وهم يهنئونك قائلين : ـ
بيّض الله وجهك يا عمي .
عندئذ تنفرج أساريرك ، وتسترد أنفاسك ، وتحسي حسيات من الماء البارد لتطفئ الحرائق المستعرة في جوفك . لطالما تمنيتُ وأنا أصغي إلى أحاديثهن أن لا أتزوج قط لكيلا أرى وجهك في ذلك الموقف العصيب ، ونمَت تلك الأمنية في نفسي بعد أن تزوجَت ابنة عمي اليتيمة؛ وجهها الشاحب المذعور ووجه الطبيب الذي فحصها مسماران مغروسان في قلبي . كان الطبيب يحاول سدى أن يمتص غضبك العارم وهويشرح لك عبارته :
إنها عذراء ولكنها من الحالات الشاذة التي لا تنزف .
وعندما هممنا بمغادرة العيادة ألقيت بعبارتك في وجهه:
هراء ! . الدم هو الدليل الوحيد على عفة الفتاة . الله لا يبتليني أنا أبو بنات . الله يستر عليها وعلينا .
حين سمعتُ عبارتك تلك هوى قلبي في جبّ لا قرار له وهاجت في نفسي عواصف التوجس:
ماذا لو كنتُ مثلها يا أبي ؟ ! .
أي أرض ستقلّني وأي سماء ستظلني ؟ .
أين المفر منك آنذاك ؟ .
ألوذ بسريري ، أتأمل الضوء الشحيح المنبعث من وراء الستائر الداكنة ، و الهواء يعبث بباب حجرتي . تبدو وأنت جالس في زاوية الصالة كالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام في لحظاتهم الأخيرة ، حين يصغون إلى وقع أقدام جلاديهم وهي تدنو منهم.
كنت تختلس النظر إلى باب حجرتي ومن حين لآخر تنظر إلى الساعة مستبطئا مرور الوقت ، وتطلق زفرة كأنها نفس من أنفاس جهنم .
حدقتُ في عينيك المتقدتين وأبحرتُ في ذهنك الذي تتلاطم فيه أمواج الريبة والخوف :
لماذا تأخر زوجها في الخروج من الحجرة ؟ ! .
لا بد أن هناك خطبا ما ! .
لا .. لا ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ابنتي فتاة شريفة ، أعرفها . ابنتي الكبرى العاقلة ، أنا ربيتها فأحسنتُ تربيتها ، وأخواتها اللاتي تزوجن قبلها لسن أفضل منها خلقاً وتديناً ، ولكن من يدري لعل شيئا ما قد حدث لها عندما كانت طفلة ! .
ما أشد تلهفك على رؤية وجه زوجي يا أبتِ !.
أجزم أن ضغطك الآن قد حاذى حدوده القصوى . كل شيء فيك يحترق في أتون الانتظار ، تتراءى لك هاوية المهانة التي تتأرجح على شفيرها . يكاد الدم ينبجس من مسامك ، يتفصد العرق من جبينك غزيرا ، تتحد قطراته وتجري في أخاديد وجهك ثم تنزلق باتجاه ذقنك . غدا وجهك قطعة رمادية باهتة بلون شعرك وأنت ترشف رشفة من العصير ، أخالها تسيل في حلقك كحمم البراكين .
أغمضتُ عينيّ وهربتُ إلى الزقاق القديم ، أركض فيه طفلة صغيرة تطير ورائي جديلتي وكشاكش فستاني الواسع ،.أدسّ جسدي النحيل بين أجساد الصبية وهم يلعبون ، ثم يهرب أحدنا فننطلق على أثره كأسراب الطيور. كانوا يختبئون فوق الأسطح الترابية وكنت أختبئ في صندقتي المهجورة التي لا تعرف مكانها يا أبي .
مازال قطار الزمن متوقف عند باب حجرتي ، وأنت منهمك في تجفيف عرقك المتصبب ، بينما يرتدي زوجي ثيابه بتؤدة و يبحث في سلّة الملابس المتسخة عن ملاءة السرير . عندما خرج إليك سحبتُ اللحاف على جسدي المتعرق المرتعش و دفنت رأسي تحت الوسادة .استسلمت لرحى اللحظة الحاسمة تسحقني فأتطاير في الهواء كالغبار .
تفتحت كل جراحي القديمة ، يتدفق منها الدم حارا لزجا غزيرا ، أشم رائحته التي تبعث الخدر في أوصالي وتصيبني بالدوار . بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة. تصطخب في أغواري رؤى متداخلة وتطل عليّ برؤوسها كالعناكب : يوم أن بلغتُ وأصبحتُ امرأة ، بيتنا الذي يعج بالتفاصيل الأنثوية ، صراخ أمي وهي تضع في المستشفى ، و وجهك المُسوَد وأنت واقف هناك ، تمتطي صهوة الأماني وما تلبث أن تهوي على صخرة الكلمة التي تتفوه بها الممرضة :
بنت ! .
وضعتُ إصبعيّ في أذنيّ لكيلا أسمع صوتك ، ولكن قهقهتك دوت في حجرات البيت كطلقات مدافع العيد .هائجاً كنتَ ، تصيح تارة وتهذي تارة ، ثم تردد بصوت متحشرج :
الحمد لله .. الحمد لله . ألف مبروك ... ألف مبروك.
ناديتني فلم أقو على الرد ولا على الوقوف على قدميّ ، فاقتحمتَ حجرتي مادا ً ذراعيك لتحتضنني .
كان وجهك مشرقا مبتهجا كشمس الصباح حين قبّلتَ رأسي ووضعتَ في يدي نقودا ، وأنت تردد بصوت خنقته العبرة :
بيّض الله وجهك يا ابنتي كما بيّضتِ وجهي .
تحاملتُ على نفسي ووقفت على النافذة أراقبك وأنت تتجه صوب سيارتك بخطى رشيقة . لم تكن تتكئ على عكازك ، بل كنت تلّوح به في الهواء وأنت ترقص وتدور حول نفسك. كان ظهرك منتصبا على غير عادته ، ورأسك شامخ كالجبال حين ركبتَ سيارتك وانطلقتَ بها تسابق الرياح .
بقلم : مريم خليل الضاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
القصة الثالثة :
(انتظـــار)
يجثمون على صدري كالجبال ، يحيطون بي كالأسلاك الشائكة ، أرى وجوههم قبيحة كوجوه الذباب .
يجلسون على أرائك الحجرة ذات الجدران الرمادية . يحتسون عصير الليمون البارد ويثرثرون حول حرارة الصيف ، والمقهى الذي انتقل إلى شارع آخر ، والمسلسل العربي ذي النهاية المفتوحة .
أمي تتذمر من كرش أبي الكبيرة وأبي يلح على أمي أن تقص شعرها مثل قََصة شعر مطربته المفضلة . احتدم النقاش بينهما وسرعان ما صمتا وشرعا يتابعان الحلقة الأولى من المسلسل الجديد .
جهاز التكييف المقيت مازال يضخ في الحجرة أمواجا متلاحقة من الهواء البارد الذي ينخر عظامي.
أرى وجه أمي من بين فخذيّ المقوستين الناتئتي العظم ، ترمقني بنظرة سريعة وهي تنهض قائلة:
سأحضر لحافاً .
بدأ مغص حاد يعتصر بطني تلاه خروج براز سائل حار مني .
كم أكره رائحة برازي ونظراتهم التي يرشقونني بها حين يشمون رائحته المنتنة! .
تبا لهذه البرودة ! ، المغص يشتد وجسدي يرتجف .
أطلقتُ صوتي الذي يشبه خوار البقر فالتفتوا إليّ ثم عادوا إلى مشاهدة المسلسل .
دخلت أمي الحجرة تحمل لحافاً دثّرت به أخي الصغير النائم بجانبها .
. أطلقتُ صيحات أخرى حين شممت رائحة البراز التي بدأت تنتشر في البيت ، عندئذ
صوّب أبي نحوي عينيه الطافحتين بالاشمئزاز ، ثم أغلق أنفه بإصبعيه وهو يومئ برأسه إلى أمي . قالت أمي وهي تنزلق في أريكتها وتستلقي على ظهرها باسترخاء : ـ
أنا متعبة الآن . بعد قليل سأنظفه .
حدّقتُ في اللوحة المعلّقة على الجدار منذ سنين : طريق ترابي طويل يلوح في نهايته مرج مشمس . تظلل جانبي الطريق أشجار كثيفة داكنة الاخضرار .
كثيرا ما كنت أشرد بذهني وأختبئ بين تلك الأشجار ، أو أركض في الطريق ولكن قدميّ تكلان دون أن أصل إلى نهايته . تأملتُ في زجاج اللوحة انعكاس صورة جسدي الذي اشتد نحولا واصفرارا في الأشهر الأخيرة .
أختي التي تجلس بجوار النافذة تطلي أظافرها بطلاء أحمر، وتمط شفتيها بامتعاض قائلة : ـ يا خسارة ! ، لن نسافر إلى ماليزيا هذا الصيف .
أثارت عبارتها حنقهم ، فتبادلوا عبارات مقتضبة ثم طفقوا يتحسرون على طبيعة ماليزيا الخلابة وأسواقها الرخيصة . بغتة صمتوا جميعا ونظروا إليّ بأعين زجاجية معتمة ، فاختبأت بين أشجار الطريق. أغمضت عينيّ وأصغيتُ إلى وجيب قلبي ولهاثي وعندما
فتحتهما رأيت فضاء الحجرة مغبرا أصفرا تتساقط فيه ذكريات كأوراق الشجر الميتة: وجه أبي وهو يضاحكني ، و رائحة صدره حين كنت أنام في فراشه عندما تسافر أمي
،والحكاية التي اعتادت أمي أن ترويها لي قبل النوم : حكاية الولد المعاق الذي شُفي عندما أصبح شابا .
آه ... البرودة تشتد !
لو أنهم يغلقون جهاز التكييف برهة ! .
شرع أبي يقلّب أوراق التقويم ثم تكلّم بصوت شديد الخفوت : ـ الصبر جميل . ربما نتمكن من السفر بعد شهر .
أطرق أبي قليلا ثم أردف وهو ينظر إلى السماء من فرجة النافذة ، و يشير بسبابته إلى أعلى : ـ
إذا تحققَ ما توقّعه الطبيب .
استيقظ أخي من نومه ثم نظر إليّ بخبث وابتسامة صفراء تلوح على فمه . لابد أنه اشتاق إلى هوايته المحببة إليه التي اعتاد أن يمارسها في غفلة من والديّ : غرسَ أظافره بقوة في قدمي بينما يراقبه والداي صامتين ، وعندما ضج البيت بصياحي نهراه بفتور .
انتهت الحلقة الأولى من المسلسل فنهضوا وهم يتثاءبون ويتمطون .
حين حملتني أمي لتأخذني إلى الحمام حدقتُ مليّا في اللوحة المعلقة على الجدار ، لكنني لم أر فيها إلا انعكاس صورة التقويم القابع على الطاولة المقابلة للوحة .
بقلم : مريم خليل الضاني