قصة أصحاب سلمان الفارسي الذين نزلت فيهم الآية (62) من سورة البقرة :
نَزلَت الآية (62) من سورة البقرة في أَصحاب سَلْمَان الْفَارِسِيّ وكان سَلْمَان من جند سابور وكان من أَشرافهم وكان ابن الملك صديقا لَه مُوَاخِيًا لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه وكانا ركبانِ إلَى الصَّيْد جميعًا .
فبينما هما في الصَّيْد إذ رفَع لَهما بيت من عباء فأَتياه فَإِذا هما فيه بِرجل بين يديه مصحف يقرأ فيه وهو يبكي فسألاه ما هذا فقال : الذي يرِيد أَن يعلَم هذا لا يقف موقفكما فَإن كنتما ترِيدانِ أن تعلَما ما فيه فانزلا حتى أعلمكما فنزلا إلَيه فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته فيه : أن لا تزني ولا تسرق ولا تأخذ أموال الناس بالباطل .
فقص عليهما ما فيه وهو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى . فوقع في قلوبهما وتابعاه فأسلما وقال لهما : إن ذبيحة قومكما عليكما حرام فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه حتى كان عيد للملك فجعل طعاماً ثم جمع الناس والأشراف وأرسل إلَى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس فأبى الفتى وقال : إني عنك مشغول فكل أنت وأصحابك فلما أكثر عليه من الرسل أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم فبعث الملك إلى ابنه فدعاه وقال : ما أمرك هذا ؟ قال : إنا لا نأكل من ذبائحكم إنكم كفار ليس تحل ذبائحكم فقال له الملك : من أمرك بهذا ؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك فدعا الراهب فقالَ : ماذا يقول ابني ؟ قال : صدق ابنك قال له : لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك ولكن أخرج من أرضنا ! فأجه أجلاً . فقَال سَلْمَان : فقمنا نبكي عليه فقال لهما : إن كنتما صادقين فإنا في بيعة بالموصل مع ستين رجلاً نعبد اللَّه فيها فأتونا فيها .
فخرج الرَّاهب وبقي سَلْمَان وابن الملك فجعل يقول لابن الملك : انطلق بنا وابن الملك يقول : نعم وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز . فلما أبطأ على سلمان خرج سَلْمَان حتى أتاهم فنزل على صاحبه وهو رب البيعة وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان فكان سَلْمَان : معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه فقال له الشيخ : إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق وأنا خائف أن تفتر وتعجر فارفق بنفسك وخفف عليها ! فقال لَهُ سَلْمَان : أرأيت الذي تأمرني به أهو أفضل أو الذي أصنع ؟ قال : بل الّذي تصنَع ؟ قالَ : فَخَلّ عَنِّي . ثُمَّ إنَّ صاحب البيعة دعاهُ فقَال : أتعلم أَنَّ هذه البيعة لي وأنا أحق الناس بها ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت؟ ولكني رجل أضعف عن عبادة هؤلاء وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق .
قال لَه سَلْمَان : أي البيعتين أفضل أهلا؟ قال : هذه . قال سَلْمَان : فَأَنَا أَكون في هذه .فَأَقَام سَلْمَان بِها وأَوصى صاحب البيعَة عالم البيعة بِسَلْمَان فكان سَلْمَان يَتَعَبَّد معهم .
ثُمَّ إنَّ الشّيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس فقَال لِسَلْمَان : إن أردت أن تنطلق معي فانطلق وإن شئت أن تقيم فأقم . فقال له سَلْمَان : أيهما أفضل أنطلق معك أم أقيم ؟ قَالَ : لَا بل تنطلق معي . فانطلق معه فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى فلما رآهما نادى : يا سيد الرهبان ارحمني يرحمك الله فلم يكلمه ولم ينظر إليه وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس فقال الشيخ لِسَلْمَان : أخرج فاطلب العلم فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض .
فَخَرَجَ سَلْمَان يسمع منهم فرجع يوماً حزيناً , فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ : مَا لَك يَا سَلْمَان ؟ قَالَ : أَرَى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم فقال له الشيخ : يَا سَلْمَان لَا تَحْزَن فإنه قد بقي نبيّ ليس من نبيّ بأفضل تبعاً منه وهذا زمانه الذي يخرج فيه ولا أراني أدركه وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه وهو يخرج في أرض العرب فإن أدركته فآمن به واتبعه ! فَقَالَ لَهُ سَلْمَان : فأخبرني عن علامته بشيء . قَالَ : نَعَمْ , هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة . ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد فَنَادَاهُمَا فَقَالَ : يا سيد الرهبان ارحمني يرحمك الله فعطف عليه حماره فأخد بيده فرفعه فضرب به الأرض ودعا لَهُ , وَقَالَ : قم بإذن الله فقام صحيحاً يشتد فجعل سَلْمَان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد . وسار الراهب فتغيب عن سَلْمَان ولا يعلم سَلْمَان .
ثُمَّ إنَّ سَلْمَان فزع فطلب الراهب فلقيه رجلان من العرب من كلب فسألهما : هَلْ رأيتما الراهب ؟ فأناخ أحدهما راحلته قَالَ : نعم راعي الصرمة هذا فحمله فانطلق به إلى المدينة . قَالَ سَلْمَان : فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مِثْله قَطّ . فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لَهَا يَتَرَاوَحَانِ الْغَنَم هذا يوماً وهذا يوماً فكان سَلْمَان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم . فبينما هو يوماً يرعى إذا أتاه صاحبه الذي يعقبه فقال : أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة يزعم أنه نَبِيّ ؟ فَقَالَ لَهُ سَلْمَان : أقم في الفنم حتى آتيك له . فَهَبَطَ سَلْمَان إلَى الْمَدِينَة , فَنَظَرَ إلَى النبي صلى الله عليه وسلم وَدَار حَوْله .
فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه فلما رآه أتاه وكلمه ثُمَّ انطلق فاشترى بدينار ببعضه شاة وببعضه خبزاً , ثم أتاه به فَقَالَ : " مَا هَذَا " ؟ قَالَ سَلْمَان : هذه صدقة قَالَ : " لا حاجة لي بها فأخرجها فيأكلها المسلمون " . ثُمَّ انطلق فاشترى بدينار آخر خبزاً ولحماً فأتى به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " ما هذا " ؟ قَالَ : هذه هدية ، قال : " فَاقْعُدْ فقعد فأكلا جميعاً منها .
فبينما هو يحدثه إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث نبياً ، فلما فرغ سَلْمَان من ثنائه عليهم قال صلى الله عليه وسلم : " يا سَلْمَان هم من أهل النار " . فاشتد ذلك على سَلْمَان وقد كان قال له سَلْمَان : لو أدركوك صدّقوك واتّبعوك فأنزل الله هذه الآية : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر } . فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً . وإيمان النصارى أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم فمن لم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً .
تفسير ابن كثير