ـ 48 ـ
ترك الغرزة وهام على وجهه، دون تحديد هدف. لعبت به الأفكار، واختلطت الأمور. غير مصدق ما حدث لعزيزة. يهجس داخله باضطراب شديد. ماذا يفعل ؟ اتجه إلى منزل ثروت. بوده أن يقتله. حتى لو ضحى بنفسه، لا يهم. لو قتله، سيستريح الناس من شروره. هو أول ضحاياه حين أوعز لمأجورين أن يضربوه. حتى عم حمزة المسن لم ينجُ من ضربهم، بل هو المستهدف الأول. من الخطأ تركه يلهو ويهتك أعراض البنات المسكينات. أحس عويس بأنه السبب فيما حدث. لو لم يدلها على منزل أسرته، لتعمل شغالة، لنجت من شروره. لكن.. ماذا تفيد " لو " بعد أن وقعت الفأس في الرأس ؟!
اقترب من المنزل. جمد مكانه. لو قتله، هل يستطيع أن ينقذها من العار الذي لحق بها ؟ بالعكس، ستنتشر دوافع الجريمة، وأسبابها، وينكشف المستور، من حَمْل عزيزة سفاحا.
حدث نفسه : هل تجرؤ على قتله ؟ أنت لم تقتل نملة. مسالم لأقصى حد. تركت أسرتك في " ميت نما "، حتى تريح نفسك من مشاكل أنت في غنى عنها. كيف تقتل نفسا ؟ المهم عزيزة.. أين هي ؟ كيف حالها ؟ إذن، ليبحث عنها.. ربما يرق قلب ثروت ويتزوجها. أين أنت يا مصطفى ؟ في استطاعتك التأثير على أخيه صبري. يمكنك الضغط على ثروت ليتزوجها. لكن مصطفى في الجبهة يدافع عن الوطن بروحه، بينما ابتلي الوطن بثروت ومن على شاكلته. شتان الفرق بينهما، بين المحب والحاقد، بين الملتزم والمستهتر..
صح عزمه على أن يتزوجها، يستر العرض المهان. الجنين في أحشائها، يمكن أن يربيه إكراما لها. هذا حل ممكن، فليس في إمكانه قتل ثروت، كما أن الجريمة أثرها باق، وليس في إمكانه إقناع ثروت بالزواج منها.
ليبحث عن عزيزة ويعقد عليها عند أقرب مأذون. هذا حل ممكن.
عاد في المساء إلى الغرزة، معلنا تصميمه على أن يتزوجها. رضخ حمزة وجابر وجاره محفوظ، مشفقين عليه من تحمل خطأ الغير. نصحه حمزة أن ينتظر حتى الصباح..
قصد المكان الذي تجلس عنده مع زميلتها، فلم يجدها. ضربت كفا بكف من قلة الحيلة. أغلقت صرتها ومشت معه يترددان على أماكن اعتادت الذهاب إليها.
ليلة أمس، حين توجه عويس إلى منزل ثروت، ثم نكص عائدا. فعلت عزيزة الشيء نفسه. لكنهما لم يتلاقيا. قصدت منزله تخاطب الجانب الإنساني في قلبه. بيتت النية على قتله إن لم يستجب لتوسلاتها. سوف تقتله بسكين حادة خبأتها في جلبابها.. إلا أنها ترددت. لن يوافق على الزواج منها.. فهل تقتله ؟ هل تسجن، وتلد جنين الخطيئة ؟ سوف تبقى مشكلتها في هذا الجنين. تبقى المشكلة بصورة أفدح. ترددت. جمدت في منتصف الطريق، ونكصت على عقبيها، متجهة إلى نهر النيل. وقفت عند كوبري إمبابة، في الدور العلوي المخصص للمارة. تأملت أمواجه الهادئة. ماذا يخفي النهر من أسرار ؟ وجمت لحظات لا تلوي على شيء. نظرت إلى السماء داعية الله أن يرحمها ويغفر لها. دمعت عيناها.. يا نيل.. كم من ضحايا آثروا الموت على الفضيحة ! هل تعدني بأن تكتم أسراري ؟ أراك يا نهر رحيما بي.. لن تخذلني.. إذا ارتميت في أحضانك، لن تكشف للناس فضيحتي. هذا عهد أعاهدك عليه. قصف المدافع دوّى في عرض السماء، أضاء ظلمة النهر. أحست بالدويّ يغريها بفعل ما انتوته. لا حل لمشكلتها إلا بالانتحار. قفزت من على السور، فزغردت مياه النهر الغاضب، محتضنة أعز الناس إلى قلب عويس. ما زالت طلقات المدافع تدوّي كأنها في هذه المرة تشيعها إلى مثواها، وهي تنعي حال البلد وحال الضحية.
لم يعرف أحد شيئا عن انتحارها. ظل عويس يبحث عنها، يذرع الأرض طولا وعرضا. لم يترك شبرا واحدا في شوارع إمبابة إلا وطئته قدماه. ينادي أولاد الحلال كي يدلوه على مكانها. وفي اليوم الثالث طفت جثتها المنتفخة على سطح المياه !