علم السيمياء بين التراث والحداثة ـــ رئيس تحرير مجلة التراث العربي
كثُرت في الآونة الأخيرة الكتابات التي تناولت (علم السيمياء)، وتعدَّدت البحوث والمقالات التي وردت إلى مجلة (التراث العربي) والتي تناولت هذا العلم من زوايا مختلفة، بعضها من وجهة النظر التراثية، وبعضها الآخر من وجهة نظر الدلالة الحداثية.ووقع القارئ المتتبع لمجلة التراث العربي في حيرة من أمره للتوفيق بين مفهوم علم السيمياء في دلالته التراثية، وبين المفهوم الذي اكتسبه المصطلح على أيدي المشتغلين في علم الدلالة، أو المشتغلين في علم اللسانيات عامة.
ولتوضيح هذا المصطلح في المفهومين: القديم والحديث نكتب هذه الأسطر،
فعندما يحاول الباحث في مصطلح (السيمياء) أن يؤرّخ بإيجاز لهذا العلم يلتقي في فترة مبكرة من حركة التأليف في المصطلحات العلمية بالعالم المشهور جابر بن حيان (ت 200هـ ـ 815 م) وهو ـ على الرغم ممّا أثير حول سيرته ومؤلفاته من جدال ـ كانت ثقته بنفسه وبعلمه أكبر من أن يسعفه على تحقيقها التطورُ العلمي الذي بلغه في عصره، فقد بلغ جابر مرحلةً متقدمة في علم الكيمياء، وكان خياله العلمي الطموح يُفضي به إلى أن ينقل المعادن التي يعالجها من حالةٍ إلى حالة، وتطلّع إلى أن يحوِّل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة، وكان هذا حلم البشرية منذ قديم الزمان، ولكن مَخْبَرَه
المتواضع بأجهزته لم يمكِّنه من ذلك، فتحول عنده الطموح من عالم التحقيق إلى عالم التخييل والوهم. وأنفق وقتاً كبيراً، وجهوداً كثيرة في إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى، فوقع في طلب المستحيل، وتحوَّل عنده علم الكيمياء إلى علم السيمياء الذي كان في مفهوم ذلك العصر يقترب من السحر. كما تحول علم الفلك عند العرب إلى علم التنجيم، فعلم السيمياء، كما أطلق عليه صاحب كتاب (أبجد العلوم) اسم (ما هو غير حقيقي من السحر)([1])، ولهذا قال بعض مؤرخي تاريخ العلوم عند العرب: إن جابر بن حيان، هذا العالم الجليل كان كبير السَحَرة في هذه المِلَّة، تصفّح كتب القوم، واستخرج الصناعة، وغاص في زبدتها واستخدمها، ووضع فيها عدّة تآليف، وفي صناعة السيمياء خاصة.
وأضاف ـ أي مؤلف كتاب أبجد العلوم ـ "أن في هذا الباب (حكايات عن ابن سينا والسُّهروردي كثيرة. وأطال ابن خلدون في هذا العلم"([2])، وقال: إن لفظ (سيمياء) عبرانيٌ معرَّب، أصله (سيم يه) ومعناه: اسم الله، وأما المقالات السبع عشرة للحلاّج فإنما هي على سبيل الرمز، وقد حقق ابن تيمية في مؤلفاته أن الحلاّج كان من الساحرين المشعوذين"([3]). وفي كتاب (طبقات الأطباء) قيل: إن كمال الدين بن يونس كان يعرف علم السيمياء([4]) وعرَّفه التهانوي في كتابه (كشّاف اصطلاحات الفنون) بأن السيمياء (هو علم تسخير الجن، كذا في بحر الجواهر)([5]).
وبعض أنصاف العلماء أدخلوا تحت علم السيمياء علوماً عدّة منها: (علم أسرار الحروف) وهو من تفاريع السيمياء، ولا يوقف على موضوعه، ولا تُحاط بالعدد مسائله، تعدَّدت فيه تآليف البوني وابن العربي وغيرهما ممن اتبع آثارهما، ثمّ ظهر بالمشرق.
وإذا استفتينا معجمات اللغة العربية لتفتينا في مفهوم هذا المصطلح وجدناها تقول:
"والسُّومة والسيمة والسيماء والسيمياء: العلامة، والخيل المسوَّمة([6]): هي التي عليها السمة، وقد يجيء السيما والسيميا ممدودين، وأنشد لأسيد:
غلام رماه الله بالحسن يافعاً
له سيمياء لا تشقّ على البَصَرْ
كأن الثريا عُلِّقت فوق نحره
وفي جيده الشِّعرى، وفي وجهه القَمَرْ
(له سيمياء لا تشق على البصر) أي يفرح به من ينظر إليه"([7]).
وما دُمنا في سياق المعجمات، وفي إطار مصطلَحيْ الكيمياء والسيمياء يجدر بالذكر أن تقول إن المعجمات الأجنبية فرَقت بين هذين المصطلحين، فالكيمياء (Chemistry) هو علم الكيمياء المعروف و(Alchemy) يرمز في هذه المعجمات إلى ما نطلق عليه في العربية مصطلح السيمياء، وعند التعريف نقول هذه المعجمات الأجنبية إنه علم كيمياء القرون الوسطى([8])، وأطلق عليه بعضهم اسم (الخيمياء) لقرب اللفظتين بالدلالة لفظاً ومعنىً، ويمكننا هنا ملاحظة التشابه في اللفظتين (السيمياء) العربية و(Alchemy) الأجنبية وخاصة بـ(ال) التعريف التي لازمت المصطلح على اعتباره من أصول عربية.
هذه صورة مقتضبة عن مفهوم (السيمياء) توضح رحلة المصطلح من علم الكيمياء، ذلك العلم التطبيقي الجاد الرصين إلى علم السيمياء الذي انحرف إلى السحر والخرافات والتطلّع إلى المستحيل، وهذا المفهوم خرج من أيدي العلماء إلى أيدي المشعوذين والدجالين، فمارسوه قروناً طويلة، وجعلوه مورد رزقٍ لهم، يخرفون به على العباد.
فلما جاء العصر الحديث، ورجع العقل العربي إلى شيء من أصالته نبذ العلماء المفهومات الخرافية، والتفسيرات الغيبية التي لا يعضدها العقل، وازدروا السحر والطّلسمات والنيرنجات. فألف الدكتور محمد صلاح الدين الكواكبي ـ وهو متخصص بالكيمياء ـ (كتاب السيمياء الحديثة) حاول أن يعود بمفهوم السيمياء إلى أصلها الذي انبثقت عنه، ولكنَّ محاولته لم تلق الاستمرار؛ لأن مصطلح السيمياء كان قد اكتسب دلالة جديدة، جعلته يخرج من سياقات الكيماويين إلى سياقات اللسانيين، لأن العالم (دي سوسير) كان قد طرح مصطلح (Simiologg) فاستعمله سيميائيو باريس في حقلهم، "ومن هنا يبقى هذا المصطلح طريقة مفيدة لتمييز عملهم عن السيمياء (Simiotics) العالمية المتبعة في أوروبة الشرقية وإيطالية والولايات المتحدة"([9]).
وأطلق علماء اللسانيات العرب على هذا العلم اسم (السيميوطيقا) وترجموه تارة باسم (علم الرموز) وتارة باسم (علم الدلالة)، ونقلوا عن تشارلز موريس أن علم السيمياء يهتم بمعاني الإشارات قبل استعمالها في قولٍ أو منطوق معين، ويؤدي علم الدلالة عند موريس إلى دراسة ما سماه دي سوسير: الترابطات، وما يسميه السيميائيون المتأخرون قوائم التبادل، ولقد حاول بول ريكور البرهنة على أن السيمياء تهتم بالعلاقات التبادلية فقط"([10]).
وخير من وضّح مفهوم السيميائية الدكتوران: الرويلي والبازعي في كتابهما (دليل الناقد الأدبي) قالا: "السيميولوجية (السيميوطيقا) لدى دارسيها تعني علم أو دراسة العلامات (الإشارات) دراسة منظمة منتظمة، ويفضِّل الأوربيون مفردة السيميولوجيا التزاماً منهم بالتسمية السوسيرية، أمّا الأمريكيون فيفضّلون السيميوطيقا التي جاء بها المفكر والفيلسوف الأمريكي تشارلس ساندرز بيرس.
أمّا العرب، خاصة أهل المغرب العربي فقد دعوا إلى ترجمتها (بالسيمياء) محاولة منهم في تعريف المصطلح، والسيمياء مفردة حقيقية بالاعتبار، لأنها كمفردة عربيّة ـ كما يقول الدكتور معجب الزهراني ـ (ترتبط بحقلٍ دلالي لغوي ـ ثقافي، يحضر معها فيه كلمات مثل: السِّمَة، والتسمية، والوسام، والوسم، والمِيسم، والسِّيماء والسيمياء (بالقصر والمد) والعلامة). وتنتمي السيمياء ـ أيَّاً كانت التسمية ـ في أصولها ومنهجيتها إلى البنيوية، إذ البنيوية نفسها منهج منتظم لدراسة الأنظمة الإشارية المختلفة في الثقافة العامة"([11]).
ومن أشهر أعلام السيميولوجيا، تشارلس ساندرز بيرس، ورولان بارت، وغريماس، درومان ياكبسون، وأمبرتو إيكو، وما يكل رفيتير، وجوليا كريستيفا، وباربرا هيرنستاين سمث.
ولئن كان دي سوسير هو الذي استخلص مسمى السيميولوجيا، فإن رولان بارت هو الذي مارس التحليل السيميولوجي على أكمل وجه، جاء بما يقلب مقولة سوسير إذ زعم أن اللسانيات هي الأصل، وأن السيميولوجيا فرعٌ منها، ثمّ جاء جاك دريدا الذي اعترف بجهود بارت، إلا أنه دعا إلى قلب مقولة بارت نفسها، ولا نريد أن ندخل في تفاصيل هذه التحليلات، وإنما نقول: إن كلمة علم الدلالة Semantique المشتقة من الكلمة اليونانية Sêmaino "دل" والمتولدة هي الأخرى من الكلمة séma أو العلامة. هي بالأساس الصفة المنسوبة إلى الكلمة الأصل Sens أو المعنى، فالتغير الدلالي هو تغير في المعنى، والقيمة الدلالية لكلمةٍ تكمن في معناها([12]).
وتعطي كريستيفا، وجماعة (تيل كيل) للدرس السيميائي امتداده الأقصى باعتباره منهجية للعلوم الإنسانية، ولذلك فتّق الدارسون أنواعاً مختلفة تندرج تحتها كالسيميائية الطبيعية والسيميائية الكبرى، والبيوسيميائية، والتحليل السيمي، والإثنوسيميائية، والحقل السيميائي، والحكم السيميائي، والشحنة السيميائية، والنمو السيميائي، وكثير غير هذه المصطلحات المنبثقة من مفهوم السيميائية والتي يحسن بالدارس المهتم بهذا الاتجاه أن يلم بها([13]).
هذه إطلالة مقتضبة على علم السيمياء في مفهومَيْه التراثي والحداثي، أرجو أن تكون قد وضّحت مفهوماً حام الكُتَّاب حول دلالته، فوُفقوا تارة، وجانبهم التوفيق تارة أخرى.
--------------------------
([1]) - أبجد العلوم، صديق القنوجي، ج2، ق1، ص392.
([2]) - المصدر نفسه، ص392.
([3]) - المصدر نفسه، ص392.
([4]) - طبقات الأطباء، 17/34.
([5]) - كشاف اصطلاحات الفنون، التهانوي 1/999.
([6]) - من الآية القرآنية في سورة آل عمران، 14. [والقائلة: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة"].
([7]) - لسان العرب، ابن منظور، مادة: سَوَم.
([8]) - راجع أي معجم أجنبي، فكلها تورد التعريف نقلاً عن بعضها.
([9]) - السيمياء والتأويل، روبرت شولز، ترجمة سعيد الغانجي، ص247.
([10]) - السيمياء والتأويل، روبرت شولز، ترجمة الغانجي، 248.
([11]) - دليل الناقد الأدبي، الرويلي والبازعي، ط3، 177 ـ 178.
([12]) - دليل الناقد الأدبي، الرويلي والبازعي، ط3، 177 ـ 178.
([13]) - لمزيد من المعلومات عن السيميائية انظر: قاموس المصطلحات اللغوية والأدبية، د. أميل يعقوب، بسام بركة، مي شيخاني، 118 ـ 124. فلسفة الأدب والفن، د. كمال عيد 172. معجم المصطلحات الأدبية، إبراهيم فتحي، 206 موسوعة علم النفس. حسين عبد القادر، 402 ـ 404. الموسوعة العربية الميسرة. محمد شفيق غربال، 1057. والكتب المقصورة على بحث السيمياء.