ضجيج الصمت ..
الدخلاء مرة أخرى.. صار عراكهم أمرا يتكرر في الغدو والآصال.. وقد يحتدم في
العتمة ضرب و قتال .. أوصراخ يخرم السكينة في كل ليل .. وأهل السامرة يحيون حياتهم رغم ذلك الإضطراب الصاخب كله .. حتى امتد جرم أولئك الغرباء إلى قلب البيوت و المحلات وعم المداشر .. فلا الشكاوي هدأت من جلبة السكارى.. ولا حملة التطهير من الدجالين والسحرة وتجار الخمور استطاعت أن تحد من مظاهر الجهل والسفور في المدينة.. مما رسخ في عقول أهلها أن الفوضى شيء مقدر على السامرة نتيجة فتنتها التي تستقطب الشذاذ من الأمصار البعيدة فتجلب على نفسها معيشة تضج بالصخب.. وازدحاما لم تكن تعرفه من قبل.. و قد ازداد إقبال الدخلاء عليها حدة رغم جهود السامريين في التصدي لأمواج المتدفقين على أرضهم.. يدخلونها سرا وعلانية.. طوعا وكرها .. وكلما نجحوا في تأمين البقاء فيها اجتمعوا في أول سهرة يشربون نخب المدينة الجديدة " لله درك يا سامرة .. لا يجتازك إلا نبي " ، ثم يستهلون حياة الحرية والفلتان من قانون البلاد مثل أي مهاجر يحمل معه عقيدة الحج إلى جنة في الأرض لا ترفض أحدا.
ومهما يكن من أمر فإن المدينة العتيقة نمت بشكل رهيب.. نحتها التمدٌن ودثرها في لحظة من لحظات التكوُن فبدت بناياتها الهندسية آهلة بخليط بشري نابض.. ووقفت بواباتها الأربع ترحب بزوار الليل والنهار وتغتم لذهابهم .. في غمرات أهبتهم للسفر المؤقت يفيض الحنين فيبتغي العابرون رغبة في القعود والسيارات لا تغني عنهم شيئا وتمضي في طريق مستقيم.. تغريهم بالعودة مثل طيور لا تعرف الوجهة.. فتأرز للسامرة على مضض.
كان كل غريب يصف لناسه مدينة الآبار والبقر" وفيها يا سادتي نشرب الماء الدافق وأجسادنا تنبت من لحم الأبقار.. تستحق الهيام يا سادتي لو تسألوني.. فإذا كان البحر زعيما للمسرة.. والبر الجميل يضمن زينة الحياة وبهجتها.. فإن السامرة سحر آخر لو أردتم.. إنها فتحة في الصحراء حيث الشعر يعلن عرشه ولهي الفردوس الأصيل في قلب البلاد العربية"
بين هذا وذاك تضل السامرة سيدة الأرياف والمدن والصحاري .. لا تحترف لعبة البقاء هادئة كأي بقعة كونية .. وتنطق بالخوارق صبح مساء .. فهي الجميلة في ليلها ونهارها كالندى المنزلق على أوراق البطم والبلوط والصنوبر.. أرض حبلى بالماء واللبن .. وسماء تلقي زرقتها فوق الأمصار.. و الحق أنها على ما يصف الثاوون بأرجائها..انفجار كوني أصغر..طالته يد الإنسان فتفجر بالتكوين كرة أخرى.. لم يكن تعمير الأرض يأكل فراغها فحسب. حتى الرواسب الأصيلة مما مضى.. ضلت تتمرد على زحمة التبدل الذي جاء به الدخلاء.. بقيت خيم رحالتها منثورة كالبلور في البراري.. وتأصلت العمائم تلف الرؤوس .. راصدة تفاصيل التطرف والحداثة في حذر مستتر .. ثم هذه الفوضى الجديدة.. تضج بها السامرة في شكل يقاوم التأثر بصعوبة وتتجلى في أتونها حريصة على الاعتدال والثبات داخل أفق الشمس والحلفاء.. يشعر بذلك الزوار عند الخروج من بابها الشرقي .. يجهلون بكائهم ساعة الفطام و يلتفتون منتحبين لعجيبة يخبأها الله على بعد أميال من البحر الأبيض المتوسط فتواسيهم كلما ابتعدوا وشوشتها المنبعثة من دروب ساحرية تتلفع بهواء سهبي يصنع جوها.. تتحرك سياراتهم بين خطوطها في كل يوم . يذهبون ثم يعودون ..يعودون ثم يذهبون فلا شيء يخترق مدهم وجزرهم رغم قلق السامريين الرابض في الصدور على مدينتهم.. فتجيء السامرة عنوانا على الأرض المستباحة عشقا لكل الأجناس والأعراف وفي كل الفصول وتنتصب سنبلة ذهبية سمراء مغرية..مفرطة في الجذب.. ترتادها علية الأقوام نشدانا للهواء الطيب.. تتزين بالثلج كلما حل الشتاء فيصطلي السياح من قرها في الفنادق و المقاهي غير عابئين بقسوته .. وهي باقية على خصوبتها بالقمح ووفرة الماء والأبقار وعربدة كل دخيل طيلة فصول السنة.
ها هو الفجر ينثر حضرته.. والسيد سليمان موسى يستهل في هذه الساعة الباكرة يوما جديدا.. بجولة في الشوارع .. يتقوقع في " قشابية " الوبر خشية برد الصبح داخل سيارته .. فيمر ابتدءا بشارع " سيدي حائز" الذي يستعد لاحتضان يوم آخر.. وفجر ألف منذ قرون سحيقة أن ينسخ عروة المجد في البقية الباقية من زمرة البسطاء ويبعث بالضياء نحو المكان ..
" السامرة لم تعد سامرة الزمن القديم" قالها بحزن في سره.. وانعطف لطريق "عين الحلفاء" ..أجل.. يشهد على ذلك الهدم والتعمير الذي حولها لبقعة تستضيف سحرا معاصرا لا يستساغ.. والمدهش أن تلك السحنة الكريمة لا زالت سيدة الوجوه.. لا مراء في ذلك .. فالأهالي عروبة تتكرر..مثل ما كانوا في الزمن البعيد..ما بدل الغرباء سيرتهم باستثناء وجه الزينة الحديثة على المباني إذ جنحوا فجأة للتطاول في البنيان .
كان يجوب بسيارته كل طريق بعد أن تنفس الصبح.. وراعه للحظة مشهد الصبية يمضون بحركية وصدام نحو المدارس و الكتاتيب اللصيقة بمساجد العطار والشريف وذي النورين.. انطلق النهار يدب في تفاعل مع الحياة شبيها بالألحان..لكن سليمان بأذن السخط يصغي لإيقاع المدينة الحزين .. في هذا العمر الناضح بالتعاسة والضياع .. لا لشيء إلا بسبب الدخلاء الكثر..تراهم يصولون بالكبر والخيلاء بين أيد الأهل ومن خلفهم.. شيء يجعل حضورهم سبب الكآبة.. ودافع لظهور الفتية الأصليين بمظهر القلق في كل لحظة.. بعد أن كانوا يعاركون الريح بصواريخ الورق.. أضحت جل معاركهم مع الدخلاء لا تقل ضراوة عن الحروب ومقارعة العصابات الارهابية.. خصوصا أن هؤلاء في تزايد يبعث على الخطر والريبة.. يقطعون الطرق.. يسيطرون على سوق المواشي.. ينفثون سموم الكيف والمخدرات ..يصفون من يناهضهم بالقتل والاختطاف والتآمر ..يقبعون على الجدران والأرصفة متغزلين دون حياء بكل من تصطادها الأعين تطل من نافذة أو تخرج من باب أو تمضي لحاجة..يغتصبنهن جهارا نهارا غير عابئين ببأس الأهالي وبطشهم ..في وقت ابتدعت وسيمات بالبلدة عادة التسمر بالشرفات بغية الإغواء وبث الفتن ..ببدين زينتهن بحجة الترويح وطلب النسيم.. ثم ينقلبن عارضات للعري ..فتهتز ناحية بالعراك كل يوم .. الدم يسيل كل يوم.. مادامت نسوة في المدينة تختلق مدعاة قوية للغنج و استفزاز الذكور الغريبة.. وتحثهم على التربص بكل فتاة.. حتى فكر بعض السامريين السذج بضرب أسوار سميكة على كل مطل سدا لذريعة الفتنة واستثارة هؤلاء المشردين..أو بصب زيت السيارات المحترق على الأرصفة فلا يجلس عليها أحد..لاسيما بين العمارات التي تشهد كثير التناوش.. فلطالما أثبتت التجارب أن فلانا شج رأسه أو طعن بخنجر بعدما لوح لإحداهن أو غمز لأخرى .
يذهبون ثم يعودون.. فتجيء المعصية معهم كالطاعون المستورد.. والعجب العجاب يتضح حين يقف الشهود على تلك الخصومات والمعارك ولا أحد يتدخل .. وإن طلبت الحق فبعضهم مجبر على مشاهدة المنكر دون أن يحركوا ساكنا مادام هؤلاء الغرباء يفعلون ذلك مع غريبات مثلهن.. نعم.. فالكثرة جعلت السكان الأصليين قلة لا تقوى على تغيير السامرة وتطهيرها من الأكثرية الدخيلة.. وكل قلب ينقبض هنيهة في سهوم.. ويملأ وجه صاحبه الوجوم الشديد كلما شعر بتنامي أعدادهم ..سرعان ما يتعزى المرء بأن الخزي القادم معهم هو عيب مقصور عليهم .. أما المدينة " فلله درك يا سامرة .. إن الله يحرسك " .
في ضل هذه الضوضاء المتعفرتة.. الطارئة .. المدحية في السهوب والآكام.. وجد سليمان موسى نفسه في رقعة مدهشة بالحدود الزمنية منتظرا عودة البهجة فوق الوجوه ليميز صدقها من كذبها بيقين يماثل إيمانه بأن المكان من سوء الغرباء بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب وتعصف به الوسوسة لاعبة بذاكرته فينهمك في غزل خيوطها ذكرى..وراء ذكرى.. حتى تقذف الدهشة بسرها في عقله .ما دخله هو !! أيعسر على من عرف بالحزم و الكياسة من أمثاله أن ينئ بفكره عن هذه الهواجس!!.. هذا الذي تعرفه البلدة اليوم بالمسؤول الكبير !! حري به أن لا يقحم قلبه في العزاء والشكوى وإدمان الغربة في كل أمر .. يأكله الحوار الدائم عن استلاب المدينة فينتفخ رأسه بالقنوط .. لماذا !!والمكتوب نافذ نافذ..
" رغم انفراط العمر بعيدا عن سمائك وترابك.. لازال يتوثب داخلي نمر الحنين.. كان زمنا ينبأ بالمخاطر والشقاء.. كأن جبلا سيقع على الرؤوس ساعة من نهار.. مثلما يحدث في حكايات الأهوال والعجائب.. تركنا الوطن كالفار من عذاب أليم ثم كان الإياب .. هي المدينة ..أنثى .. قطعة من عذاب تستعر في مضغة القلب .. يا كل من رحلوا ..عودوا بها.. واسرقوا من دار الزمن ساعة تمضونها في الحضن..واقطعوا يدي للسلام .. فالبلد الطيب يعفو ويصفح مادون الخيانة..سامرة الهوى.. وطن.. نتيه للمنفى فيسترجعنا لجنة الخلد.. وقالوا في سهراتهم .." ما جنة الخلد إلا في دياركم... ولو تخيرت هذا كنت أختار" .
للمكان سلطته..ولو غاب الغائب إلا وتدفعه الحياة للعودة..فلن يعوض مسقط الرأس لا الأقاليم السبع ولا الأرضين ..لكن دوي الصدمة يستقبل طيور السنونو و أبي الحناء والزقزاق .. تختفي الأشياء الجميلة وسط خطير التغيرات الطارئة ..ويستبد بالأرواح حيف الاشتياق.. تتولد الوحشة لألف أثر ينام في أزمنة لا تهدأ في مكان..قلعة الثوار دارت عليها دائرة النسيان .. تمثال العجل اختفى..حصان الحرية هو الأخر لا خبر .. قعدات مقهى "العريس"..ملعب الجناني..كل أولئك يلاسن الذاكرة بسحر التفاصيل رغم طول غياب .. يستيقظ اعتراضه واحتجاجه.. فيستقبح الحال ويرده لتبريرات واهية..الكل معرض لسنة التبدل والتقلب.. حتى وجهه العامر في سالف الأيام أصابه الهزال .. والرأس بجبهته العريضة فقد شعرا كثيرا..واشتعل في فوديه الشيب ..بقي من دلالات الماضي في ذلك الوجه.. عيناه .. تفردت العيون وقاومت وحدها فعلة الكبر.. حافظت على لمعتها وزرقتها. أما الأنف المكور فقد ازداد بروزا بضمور الوجنتين وتشرب جسمه بالبياض.. الشارب الأسود استعمره شيب قليل .. فازداد وقارا وسكينة..إلا أن سنين الشام لم تغير من لهجته السامرية الأصيلة .
توقف لثوان عند الإشارة الحمراء ثم واصل سيره من غير وجهة واستأنف يقول في نفسه
" يا دين الرب.. هذه بلادي أم بلاد الناس.. لا أذكر لي أبدا فيما كان من أيامي بالشام أن ذقت طعم الغربة مثل ما أتجرعه هنا.. في حجر أمي وتراب الأجداد .. لغة مسفودة بالأعجمية لا تعرف قبلها من دبرها..وزاد من مصيبتي أن الناس هنا يحيطون كل مشتت أو مقطوع من شجرة بالحفاوة والكرم العربي الأصيل..عكس ما يتلقاه الواحد منهم من تمييز وازدراء..وتعامل ينز عن تحقير وتهوين في قطع من أرض ربي الأخرى..تمردوا في دارنا أم أن عصبيتي تجر جيفة حمار؟.. الأرض ضيقة علي أم ماذا جرى؟ وراء البحر يتحلى المهاجرون قميص الهوان..تحت الجسور دار المقامة.. وهنا الكسكسى باللحم ..ونم أين اشتهيت يا داخل الخيمة الكبيرة..في الشام راحة.. ومعيشة لا تبخس القدرأو تحط منه.. فأنت متى التزمت بما تمليه عليك الإقامة من سمات الرجل وأديت حق الجيرة والتواجد بطريقة قيمة.. ستحظى بجو عربي لا يبتغى أفضل منه.. ونلت حياة تسقط معها حجارة الغربة لتماثل العرف والدين.. وغنمت مقاما تزول ورائه مقاييس الجنس والانتماء.. يتواءم الطبع العربي فيوافق بعضه بعضا .. وقد يكون توحد المعتقد دافع ادعى إلى التعايش و إحقاق الهناء والرغد. فينعدم لديك على طول مدة المكوث أي لون من ألوان التغرب أو صورة من صوره وأنت ماض في حياتك مرسلا على سجيتك ..فبين الوطنين نغم الوشائج العميقة يصدح بنقل الإلف والعرف والاعتياد.. يتقبلك الناس قبولا حسنا.. لما فيك من دماثة وطلاقة نهلتهما من جداول موطنك ..ولما فيك من حسن التأقلم والكياسة..لكن رغم ثورة النكد تبقى الذكريات جرحا غائرا في كل قلب .. فما يقصف قلبك.. أن تعود .. وتحيى مع أناسك مثل الغريب"
يسأل عن الماضي الذي تسلطن فيه يافعا طليق العقال..يجوب كل مكان وبر..لا تتعب روحه من قعدة الأحباب والأصحاب ..حتى جاءت ساعة الكرب وجرب حضه في الجري نحو بلاد أخرى.. ها هي اليوم الدنيا غير دنياه..وهاهو الشارع الكبير يتجاهله وبقي آية عصية على التغيير ..ما زال طريقا يسر على فوضاه وشغبه.. وأسراب الناس تخطو فيه زرافات نحو
" ساحة الضيوف" العتيقة.. يصدهم ايغالهم كدود الارض بين جنباتها عن الالتفات الى وجه القوي أو الضعيف منهم فيتساوون مصبحين أوممسين في نهارات الشوارع السامرية.
عدل سليمان عن المضي في ذات الاتجاه حين رأى كتل السيارات تزدحم عند مفترق " باب الهرم" وانحدر نحو الطريق الوطني رقم واحد وراح يرمق الغيم من خلف زجاج النافذة وهو يزاور عن الشمس وحدق برهة في وجوه المارة كالمكذب .. ثم حول بصره للمباني فتندت عيناه ببريق ينعكس من مرايا واجهات المحلات.. مر قرب دار البريد.. مرورا بالساحة الكبرى حتى منعطف الشهيدين وأطلق العنان للنجوى ..
"أن تتزوج حلبية ..وتتربى ذريتك في غير السامرة ..سيكون عسيرا عليك حينها أن تستقر مرة اخرى على أرض شهدت ميلادك ولفظتك على عجل .. ستشعر لا محالة أن الأماكن ليست وحدها من تجافي.. هناك الناس.. السماء..الهواء.. النفس بذاتها وصفاتها تصفعنا بالتنكر والجحود كالذئبة..و الوقت لا زال أعمى..يمشي ويدهس ..يذرنا كمن جف دماغه من نار التذكر في قديم الحياة وانكساراتها فأبكي بحرقة .. وحدها الذكريات من تسلمني للنحيب.. و قريبا.. قريبا.. ستنبت أقدام لهذا الدماغ من فرط الهوس ولوعة البتر من لحمة الاوطان .. ولكن العودة سيدة على كل الآلام حيث السامرة المبدأ والمختبر.. والحياة سفر في سفر..آه تعبنا يا دين الرب..تعبنا. "
انقضى أول شهر في المدينة عقب عودته من سفر أبعده لسنين..يمضي في رأسه طابور الذكريات بلا كابح فيسرد خالي الأيام البعيدة عن جوها ..ولو عد بالثانية والدقيقة وقت غيابه لأيقن علة الشوق الى وطنه ساعة بساعة.. تذكر فجأة جلسة المقهى فعجل بالمسير إليها.وقد استأثرت سريعا باهتمامه وميله رغم أن الموعد لم يحن بعد.. وهكذا تحولت فترات الصباح في بلدته خطرات أسمى من كونها ساعة تقضى وتنفرط أو وقت ينهبه الانتهاء والتواري..حتى الموعد مع الجماعة يمضي إليه عامرا بالمعزة والحب فلا يكاد يتركه إلا ويضيق صدره..و كلما حاربته الهموم والوساوس إلا ويختمر الخاطر حتما بقعدة المقهى.
كانت" قهوة الرث" تعج بالزبائن.. صففت طاولاتها في صفين متقابلين امتدا عبر ساحتها الموزعة في الطول فبدت كرواق مديد .. أحب الجلوس عند طاولة تلي مدخل المقهى مباشرة لتتسنى له رؤية السيارة والطريق بشكل جلي.. وظهرت لعينيه بناية البريد والمواصلات قبالة المقهى.. يفصلهما الطريق الوطني الكبير.. أين تسمر وسطه شرطي المرور يلوح بكلتا يديه ويصفر بحماس تقتضيه الوظيفة..فأشفق عليه من حر الصيف وبرد الشتاء..ولكن أي الفصول يحافظ على خصائصه في السامرة وقد تمرد مناخها على نواميسه الكونية .. وصار " الغبار" سمة تصنف في كل فصولها.. ثم تذكر في عجالة كيف صعب على عائلته أن تتأقلم بادئ العهد بالمدينة لاضطراب غبارها وهياجه.. إذ شكت كبرى بناته غرابة المناخ والناس وكل شيء.. كانت يومها غريبة لا تفقه من أعراف المدينة شيئا.. لكن الحاذقة كونت صداقات عديدة في وقت وجيز .
" ذكرتني بشرخ الصبا ..بيد أنها عانت في الخلط بين أسماء الأحياء و النواحي مثل "الجناني" و" أبو كميأة " و" باب الهرم" فتسمي هذا محل ذاك.. وأعجبتها مقاطعات مثل "مسراد عرقي" و"روش عاين"..تختلط عليها الأسماء في قدح الرحيل فتتشابه المسميات على الراحل والمقيم ويفقد المكان حقيقة نكهته عندها.. سوى الحي الذي ما ترك لها عقل وصرنا نقطنه..يجاورنا آل هراوة فيه فتعزهم بين ضحى وعشية.. ولا تخالط غيرهم .. عشقت الناحية كأنما استوطنتها في صلبي قبل أن تولد.. فالحي علامة للجمال والسحر.. كيف لا وقد أسموه "بالسامرة الجديدة" ووجدتني أسكنه ومسؤولين كبار في فيلاته المحاذية للمستشفى الكبير .. عدت إليك يا سامرتي ..عدت عود الماء لبحره .. فشتانا بين الذي كانت عليه نكهة العيش فيك وبين الذي أحياه هاهنا في فتور وتوجس .. إن أي حكيم من حكمائك يغلبه الحنين لما سلف.. وتهزه الذكرى للذي كان .. ناديتني من وراء حجاب فلبيت كالطير المهاجر .. وضل غرامك يغمرني.. وطئتك الأقدام.. فشق حسام الرجعة والرعشة والتلاحم .. ماء الوتين "انه على رجعه لقادر" فمن الطارق ؟ " يا بشرى هذا غلام".. يذيبني الحزن في حجاب الروح كلما أمشي في مناكبك.. "لا تخف سنعيدها سيرتها الأولى".. فأجد عزائي في اجترار المباهج مثل".عجل له خوار" استمع إليه " ينفخ في الروح ".. أو أرواحنا.." أثقالا مع أثقالهم ".. لاهم له إلا.. " وكل أمر مستقر".. يقرعون السمع والبصر والفؤاد باسمك " فأكاد أخفيها".. ينسكب المدار بسراب السعادة الأبدية.." فإذا جاءه لم يجده شيئا " وأنا في رماد القلب ارثي مملكتي.. " فأصبح في المدينة خائفا " يطلع على عين اليقين.. بعدما فاض ماء الضنون على سدرة الخفقان والخشية..
"ها إنني أهتدي لعشرة شلة آنستني ..لا ملاذ من ذكرك حين تهيج النوائب.. صفعة بالخطى في الدروب.. لما لا تقر المواجع يا بلاد الجدود ! تشملينني بالعطف كسابق عهدي بك.. معطاءة كالملوك والسلاطين .. المسكن الفخم قريب من مدارس الأولاد..غاية الأماني .. لاتعاني بذلك الأكباد في الرواح والمجيء.. لم أجد بدا من زجر سائق العمل على نقل الأولاد بسيارة الحكومة لأسد الطريق أمام من يقذفني باستعمالها في مآرب أخرى..سيارة الزوجة غلفها الغبار و "المبحلقة" خاصتي- كما يصفون - تجلب العين ..فبيعها خير..مرسيدس وصفوها بأنها " تأكل في اليد".. وبعض السكان لا يجدون ما يأكلون.. أه.. دلال الغالية !! أينبئني الحكيم أن قلبك سيبرأ فتريحين أباك من هم القلق عليك ..لو تطلب الأمر لطرت بك إلى كل مستشفيات الدنيا فتشفين بإذن الشافي وتجري الأمور كما أبتغي.. وبالأمس القريب أجريت اللازم في الزج برأسمال باسمك في تجارة تنجيك من عوارض الحياة بعدي .. أحمد ربي على أن أمنت مستقبل العائلة بالحلال..فما رباني جدك على الاختلاس كبعض المحتالين من جيراني ..لا خوف عليكن بناتي ولا حزن فلا تتوددن لأحد مادمت حيا..وجميل صنيعك يا أمهن في صدك اللبق الحازم لكل من تتطفل على صداقتك من زوجات الجيران..عسى أن تجدي في زوجة هراوة المرأة التي تحسن صونك من إحساس الغربة.. وأنا هنا رغم النفوذ والجاه الذي يغبطني عليه الحاسدون أسرف في التواضع مع الدهماء والسوقة على حد نعت أحد الأصحاب ..غير أن هراوة أعرف مني بسرائر الناس وطينتهم..فهل سأذهب يا رفقتي مع.. ساس .. يسوس .. سياسة.. رحلة العشق كليالي زمان؟؟.. ألف رحمة تنزل على شهداء الثورة.. لم تبق إلا ثورة الشهداء .. والذي يحز في نفسي ها هنا.. دورة سوداء دارت على البلد العظيم ..العجز أوالعجزة..صفين مائعين في تخبط وبغي لا ينتهيان.. أفلا يتدبر الناس تجربة الآخرين في الحفاظ على أوطانهم؟.. أم هي تجربة جديرة بالنسيان؟؟..لا..لا..سنخوض الغمار.. وكما جاءت تجيء.. أين الرفاق الذين حرصوا على صلاح البلاد؟........؟؟ ..لا..لا...بل أحياء يرمقوننا في حزن كالأنبياء.. فلا غرو في أن الرعاع في غيبتنا خيبوا كثيرا من مقاصد الخلق..تداعت علينا الجرذان والضباع ..الغربان والجراد والقمل.. العقارب والخفافيش..جرى الدم في الوديان ..انخنسوا.. تديثوا.. في الظلام تراقصوا فوق العظام والجماجم .. وفي الختام.. قلق بدل السلام.." يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا براسي" وأنا رجل عنيت بتوظيب الأمور على ما يجب أن تكون عليه.. وغربتي زاد تكون للساعات العصبية..فاتحا جميع مكاسبي لمسألة الفقير.. لكن رغبة السخاء بلغت حدا من حدود التقلص والتملص لما وجدت الخبث يتخفى وراء سدائل الإملاق وزيف التشكي.. نهبوك يا دم عروقي..طل على النواة مصاص الدماء.. ولا زال النعيم والظل الممدود وعين السلسبيل.
أيام تمر علي فأقول أن العود " ليس يحمد".. وورائي حليلة أكرهتها على الرجوع فأقول لما ؟ بيد أني أجالس الأحبة فتهون كل المواجع وألعن إبليس.. هذه الأرض أرضي وأنا بين عرشي وناسي.. والواجب يرغب في القعود على ما فيه من ألم .. فالزمن كفيل بمسح العوارض الظرفية وإن طال الشقاء".
وبينما هو في حديث نفسه تراءى له الرفاق مقبلين صوب المقهى فارتد إليه الأنس ولوح لهم بيده لما ولجوا بابها .. سرعان ما تحلقوا حول الطاولة كالنفر الذي يستبشر خيرا بمجمعه. تجلى في عيون الرفاق وقورا يشع بالهيبة.. لم ينتقص الجاه والثراء من بساطة جلسته .. وغطت ربطة العنق نزوع نفسه للتواضع.. أما جسمه الذي توزع في البذلة السوداء بشكل أنيق فزادهم إعجابا بجاذبيته.. لولا ترهل بطنه من بعض الانتفاخ والتضخم كالكثير من المسؤولين .. لم يجد لشدها وتقليصها سبيلا.. فكانت مجالا للتفكه في غالب الأحايين .. تفرس سريعا في ملامح الرفاق ..هراوة .. قرين شبيبته.. كما يعرفه .. البارحة كاليوم.. ما نال الشغل وهم الحياة من نظرته العميقة وهدوء باله في كل حين.. أسمر .. بني العينين ..غليظ الحاجبين.. شديد سواد الشعر.. أقربهم مكانا إلى قلبه.. أما سي محمود الشعلاني فبدا يصطنع الأنفة وعلو المقام في حضرته كأنه شخصية خطيرة .. يقارب عينيه بالتضييق بحثا عن نظرة ثاقبة .. يدخن سيجارة "الريم" في شكل متألق .. أوليس طموحه سيزيل ما بقي من حدود؟ فعسى الله أن يعفو عما سلف من جهله بلعبة السياسة وفنون التوغل بها في ضغط الاقتراح وقوة الطرح التي تفتح عليه ما استغلق .. ولو على مستوى نائب عن السامرة ..الحاج إبراهيم رابع الشلة ما كان يقع فوق مقعده حتى يصفق " للقهوجي":
- قارورة ماء و" فرارة".. وانظر للمعاليم ماذا يشربوا ..مثل العادة " اطلق روحك"
ثم يطرق منصتا لأحاديث الجماعة ريثما يندمج في أطراف الكلام والحكي بعد أن يرتشف من فرارته ما شاء له أن يرتشف فيصبح متكلما غير منقوص .. لكأنما أفيون لسانه الفرارة السوداء ..وإن كان يفضل فرارة مقهى العريس عليها.. إلا أن قهوة الرث ما استخف بفرارتها يوما وهي التي طوحت به إلى أسر الشلة المحببة .. والرفقة التي تهون " فرائر" العالم دونها وقد نصحه هراوة يوما بأن يشفق على كبده من هذا الشروب فقدح منه كفيل بتركيع جمل.. غير أن الحاج علي ما كان ليعبأ به وبنصحه كلما انتشى منها ليطرب جلسائه إلا بعد أن يخمر القلب بسحرها . وهل يكون نديمهم دون وجودها ؟ خصوصا إذا استوي المشروب بسيجارة " أفراز" تذهب على حد وصفه وجع الرأس.. هكذا يجالسهم وهو الخبير بتاريخ السامرة وما حفلت به منذ القديم .
وجاء القهوجي بصينية تحمل مشروبات وزعها بموالاة حفظها منذ إتباعهم موعد المقهى.. الفرارة للحاج علي بلا منازع .. الشاي في كأس كبير لهراوة .. أما فنجاني القهوة المضبوطة فلسليمان موسى وسي محمود الشعلاني.
وقال هراوة وهو ينفخ على الشاي ريثما يبرد :
- الجان الذي ضربك على الفرارة عليك أن تطرده بالرقية الشرعية .. عسى أن نراك تشرب شايا أو زعترا ينعش رئتيك .
فرد الحاج علي متهكما على أعز الجماعة عليه:
- ألم ترى نفسك تعبأ أمعائك بإبريق شاي كل ليلة؟ فأنت أولى بالرقية ما دام الجان الذي ركبك عليه من الصين أو بلاد الهند.. الله المستعان ..
فعقب محمود الشعلاني :
أما أنت يا الحاج إبراهيم فاعتقدها جنية من بلادنا.. سكنتك بحب "منتوج بلادي "
تضاحك بصوت مرتفع ثم تساءل وعيناه على وجه هراوة :
عندي جار سكير لا يصحو قط.. على حسابك يا سي هراوة ..من أي بلاد يكون شيطانه ؟
لكن الجواب جاءه سريعا من عند الحاج ابراهيم:
- يكون ابن عم القرين الذي بين جوانحك..
ضحك أربعتهم .. وإذا بسليمان موسى يقول للحاج إبراهيم وقد تموجت على شفتيه ابتسامة:
لو كان لكل شهوة شيطان يسكننا كما يدعي الرجلان لحلت بهما شعوبا وقبائل من العفاريت..
ثم واصل بنبرة جدية :
- البارح لم يبن عليك خبر..
اكتفى الحاج إبراهيم بالابتسام ..
فقال له مبتسما هو الآخر:
- بخصوص ابنك..ستسمع غدا بشأنه خبرا يفرحك.. وإذا جئناك يومها - إن شاء الله - لنبارك لك.. فأرجو ألا تحضر لنا عجوزك فرارة فتنصدع رؤوسنا ..مبارك مسبقا..
فتهلل وجه الحاج علي من وقع النبأ..تعبأ خاطره بالغنيمة. وخالطه إحساس بالزهو والفوز والسرور..افغر الفاه على بسمة أفصحت على أسنان متآكلة شديدة الصفرة..
أهكذا تنساق المقادير بعد طول انتظار ؟.. ومستقبل راحته كان مرهونا بالحرص على توظيف ولده.. وقد وضع سليمان موسى يده على الموضوع وقبل سليمان تكبد باله مرارة القلق على مصير نجله وجعل من رغبة الولد شغله الشاغل من بعدما لاح في سبيل تدريسه ما وراءه وما أمامه كما يقولون الأولون فاستوى بكر بنيه حاصلا على الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وآثر أن يفري فريه في وزارة الثقافة .. ليس لأن فرص العمل في مجال تخصصه ضئيلة فحسب.. أو أن مسؤول الوزارة من معارف السيد سليمان موسى.. بل لأن أبواب الإدارات الأخرى ممن حاول دخولها صدت في وجهه فناءت به الأعباء حتى استقر الإسرار على الوالد ليلقي حاجته بين يدي سليمان لعلمه بنفوذه .. وحدث أن اشتكى الحاج همه لخله فما انقضى ثالث يوم حتى بشره بتلبية طلبه ولولا وساطة سليمان موسى لضل الحاج يلهج بالصبر ويطوق ولده الانتظار دون بصيص أمل ينقدح في سمائه.
فصل شروده بحمد الله في تمتمة خافتة .. كرر الحمد وما زال طيف الابتسام مصلوب على شفتيه:
-الحمد لله .. يبشرك الله بالخير مثلما بشرتني .. ربي ينصر دينك .. من اليوم أقدر أن أضع رأسي على وسادة النوم في طمأنينة وأنام قرير العين بعد سهادها.
هنؤوه تباعا.. وحل الصمت برهة قصيرة فأضاف وسط أنظار مصوبة إليه:
- سبحان الله .. لقد صدقني صاحب مقهى "البيجوتري"
تساءل سليمان موسى في فضول مبني على جدية واضحة:
- وما قال صاحبها؟
نطق هراوة باهتمام وقوة :
- لقد سمعت عن المقهى وصاحبها أقاويل عدة.. قيل من بين ما قيل لي أن زوارها أصحاب حال وأن مالكها صاحب كرامة.. وبالأمس ذكره لي يوسف ابن أختي ونحن في معرض الحديث عما وراء ذلك الرجل.
تمادى الحاج إبراهيم في صمته ثم هز رأسه قائلا:
- أيقظتني الأهل بالأمس لصلاة الفجر.. توضأت.. صليت.. تليت أورادي واضطجعت طلبا لإغفاء يسير.. لكن النوم ما وجد طريقه إلي.. وثار موضوع ولدي في نفسي عنوة فكدت أبكي كمدا من بقائه معلقا بالبطالة إلى أجل غير مسمى.. فلم أع إلا وأنا بين يدي رجل جميل يدعوني إلى ما سماه بمقهى البيجوتري .. فأفقت من منامي وقلت سأبحث وأتحرى.. أهاتف عارض أم في الحقيقة ما يقول.. وقلت لعل شملكم إلتم بدوني وقد أحجمت في كل مجلس عن سؤال سليمان عن سعيه في توظيف الولد واستحييت من العجلة كي يكون اللقاء من أجل محبة باقية ليوم الدين وصحبة لا التقاء فيها على مصلحة كاستقصاء النبأ عن حاجة في نفسي.. لقناعتي أنه من الجميل لي ولكم أن نحصن رباط محبتنا من شراك المقابل والثمن .. خفت أن ينفذ صبري يا سليمان.. لكن جاء سبب لثلاثتكم كي ترتاحوا من منابشتي كل نهار فكانت النية في البحث عن البيجوتري
- هذا ما يبرر غيابك إذن.. لا لا ..كانت كبيرة منك أن تدس في صدرك الهم ولا تخبرني.. بماذا نحن خلان إذن !
تساءل سليمان كالمؤنب وهو منصت للحاج إبراهيم غير أن المسؤول ما أعار اهتماما لتأنيب السائل وواصل:
- الحاصل أني قررت العدول عن المضي إليكم ورحت أسوق الخطى بحثا عن المقهى التي حملني رجل المنام أمانة قصدها فتقصيت واهتديت إلى زقاق البيجوتري .. كان زقاقا يستثير الشبهات بقدر ما يخبأ ضيقه أساطير تستوي فيها الحقيقة بحكايات الخيال والعبث.. والصحيح عندي أن كل الذي قيل عنه أو تداولته الألسن لجدير بالتقصي .. فكل معالمه انتصبت جدولا يفرع ألغازه في أريحية وتأني.. خالطتني حال من الفضول المكلل بالفتنة العطشى..وانطلقت في نفسي رغبة جامحة في سبر أغواره..لم يمنعني المقام من اتقاء الجذب والتطفل وما يثيرانه من تأويلات قد تخدش عفتي.. ووجدتني أتوغل وأنا أدرى الناس بخطأ المجازفة واخترت ركنا بمقهى البيجوتري..
حسا حسوتين من فنجان الفرارة بتتابع عجل وقال بعد أن تمطق:
المقهى يا إخوتي تستبد بزوارها.. فتذر المخلوق منا سلطانا يموجها بالكبر والهوى.. وتجعل من الفضوليين أسارى يقتلهم حب الانعتاق .. بدأت أهبط إلى ذاتي... ململما على نفسي كي لا أثير علي نظر القابعين من حولي.. وصادف ذلك أن انكشف الزقاق على حركية المارين بين ضفتيه.. وانتشى الصخب في سلم صوتي يتعالى به الهرج والمرج .. رأيت يوسف ثملا بالزهد وهو يغادر المقهى دون أن يراني..
ابتسم هراوة وقطب حاجبيه كأنما يقول للحاج .." يا شيخ .. يا ذئب الذئاب.. لقد وشى بك ابن أختي ولم أرد أن أقطع عليك متعة الحكاية "..
وعاد يستمع إلى الحاج إبراهيم يحكي قصة أمسه:
- لم تسنح لي الفرصة كي أتفرس في الجموع غادية رائحة وأنا أدخل الزقاق ومقهاه أول مرة
إلا عندما أيقنت أن الناس حولي ما أثار وجودي بينهم ردا قيد أنملة.. فحررت بصري متصفحا كل شيء.. إنه موقف بدا لهم عاديا.. واستقبحت أن يكون غير ذلك.. فحدثتني نفسي على الاستعصام بالصمت وعدم صد من يحاول الجلوس معي.. فأظفر بضالتي من قصص .. وأنال ما إليه سعيت .. طرحت عن وجهي لغة الفضول واستأثرت بملامح فرد تغلفه المهابة والجسارة كي أعامل على النحو الذي أريد.
قال قائل من الزبائن فجأة:
- لقد من الله على الأرض السامرية بأن حظيت بصدقة التذكر فتدرج ضمن الربوع التي أحب أولي الأمر أن يتقصوا أنبائها .. ويقترب من عينهم هشيم الإرهاب ومخلفه .. ثم يعاينوا مشاريع قيل أنها استنفذت ما لا يستخف به من أموال.
فسمعنا جوابا من أقصى المقهى:
- تقصد زيارة الحاكم ووفده ؟ ما كان عليه أن يثير كل هذا الهلع.
كان المتحدث صاحب وجه علته شحنة استهزاء بدلته تبديلا ثم أردف:
- المسؤولون هنا واعجباه.. مثل الفئران التي تخشى بطش القط الكبير.. واحد يعبد طريقا وينقيه من القمامة.. وواحد يطلي المدارس والأرصفة.. وآخر يجدد مصابيح الإنارة العمومية.. تصوروا..منذ ثلاثة أشهر قدمت شكوى بخصوص الظلام – وأشار بذراعه خارجا للأعمدة المصطفة حذو الطريق- ويا عالما متى كانوا سيلبون المطلب .. البركة في القط الكبير..
انفجر المقهى بالضحك في أدب .. مراعاة للذي تكلم فتهكم.. شيخ أمرد.. أسمر الوجه .. به تجاعيد مرسلة على خديه..يميل شكله للملاحة.. عيناه توارتا خلف نظارة من زجاج سوداء الإطار تنبأ ببصر شيخ رزين خانته لحية تليق بوجهه.. غير أن الذي شدني نحوه غير الاهتمام الذي أحاطه الناس به..ذراعه المكورة فقيدة الأصابع واليد.. حين أشار بها نحو الأعمدة.. بطل عندي في لحظة عاجلة سبب حضوري .. متناسيا مقصدي .. لا هم لي إلا الذي استقر خلف مائدة من خشب الصندل.. فأخفي غبار التطلع مثل يده.. صدقوني .. هناك سبب مباشر.. مستتر.. تقوم عليه مزاعم قيادته وأبوته لما بين الجدران.. فتبدأ الحواجز في حضرته وحدها بالنزول .. حتى أني الوحيد الذي لم يلوح لي بذراعه وهو يحيي هذا ويوما بمسبحته لذاك.. وبمجرد أن اصطدت وقوع نظره علي حتى صاح على القهوجي:
- شوف الحاج وش يشرب ياطفل ..
ثوان.. وأدركت أنه مالك المقهى.. هو البيجوتري نفسه.. فبادلته التحية في أدب وأرسلت ناظري للقابعين على الكراسي في نظرة البأس محذرا من التأويلات الصاخبة في سرهم أن تطفو إلى العلن ثم استظهرت هدوئي رغم الذهول..
وهنا غلبت فطرة الفضول على هراوة رغم علمه ببعض الحكاية فسأل الحاج:
- لعلك تارك مقهانا بعد الذي جرى لك عند البيجوتري.. الله يلطف.. ولكن .. ألم تحدثك نفسك بسؤال يوسف بن أختي حين رأيته ؟
ألهب سيجارة وحسا حسوتين ثم أجاب:
- لما رأيت يوسف في عين المكان تأكدت أن سكينة ما.. تنبثق من عيون ابن أختك.. غسلت عني الغرابة .. فشجعني ذلك على البقاء رغم خروجه بعد أن استيقنت الأمان من التجربة.. وطلبت من قهوجيهم فرارة. وقبل أن يلبي طلبي مر إلى باب المقهى فأحكم إغلاقه.. لا داخل ولا خارج.. عادت ضنون الخوف تنبعث على مهلها في نفسي.. سرعان ما جاءني فنجان الفرارة وأغلقت النوافذ وانبلج نور أخضر من مصباح مثبت فوق مائدة البيجوتري ثم فاح "الجاوي" في كل المقهى .. وبدا يلين اللغط ويفتر .. راح يحدثهم بقول يشبه النعاس فانحسم الهرج والمرج باستثناء همسات " كاللهم صلي على الحبيب" .. أو "زيد الجاوي يا طفل " وهمسات من هذا القبيل .. عاد بصري يسترق من الحضرة وجه البيجوتري حتى بدا لي في مكانه يلقي حجيرات جاوي على مجمرة فوق مائدته ....
- أهذه مقهى أم مقام ذكر.. تالله لقد التبس الأمر علينا..
تساءل سليمان كالمقاطع.. لكن الحاج عاد لحكايته:
أنا رأيت رؤيا وذهبت أتقصى ما رأيت.. فوجدتها موسومة بالرعب منزلة النفر رهينة الحزم ومختلف الرؤى.. غير أني رغم التوجس الذي وخزني أحسن صد الخطورة من كافة أبوابها فلوحت للبيجوتري كأني صديق .. أو لمنا يوم تقربت فيه دواعي الألفة والتلاقي .. ففزع من مكانه نحوي .. تخيلت أقاويل الزبائن في رحاها .. تهذر هذرا بالذي استقدم رجل مقهاهم نحوي من غير كبر أو عنجهية ربما عودهم عليها قبل حضوري .. فجلس قبالتي وناولني حجيرة جاوي وقال :
- جاوي من مكة .. بخور ليلك قبل النوم .. أما الآن فأشكو همك للبيجوتري علنا ندعو الله يقضي ما في قلبك.. فليس شيء على الله بعزيز.
فجاء على بالي أمر الولد وحدثته باختصار عن المنام وكربة البكر في بطالته فأجاب بعد برهة:
- يلقاك خل حبيب .. يأتيك بأنباء على القلب تطيب .. فاذكر ربك إذا نسيت .. أوصيك.. أما الولد فأبواه مؤمنان.. ينير الله طريقه بالدعاء الصالح.. مد يدك..
كم سرني الحديث إليه؟.. ناولني علبة سجائر " أفراز" خبأتها في جيب داخلي .. واستليت من نشوة غريبة عزما قويا مضى بي إلى الباب الذي سبقني إليه القهوجي ليفتح لي ..لأجد نفسي أهرول مسرعا إلى البيت وانأ أستغفر الله العظيم.
قال هراوة بنبرة يقينية- موجها كلامه لسليمان موسى مجاملة- :
- المقهى مبني منذ عقود.. كان لرومي يعمل في المدينة.. غير أن هذا البيجوتري اشتراه مع ما يحاذيه من بيوت قديمة وجدده.. وقالوا أنه ورث عن أبيه محلا لصياغة الذهب والحلي فوسعه وصار سوق الذهب تحت سلطانه.. لذلك غلب عليه الاسم الأعجمي لصنعته
تبادل سليمان النظر مع هراوة ثم وجه سؤالا للحاج إبراهيم:
-إذا كان الرجل ليس بالجديد على المدينة فماذا عن أصله..
رفع حاجبيه عاليا لعدم علمه وعقب :
- الشائع أنه رجل صفى تجارته المتنقلة ليقطن في بيت من بيوته بالمدينة بعد أن وكل رعاة على أبقار له في بادية الجنوب ويعتزم بناء أضخم فندق في السامرة من عائدات سوق الذهب.. وهو على ما قيل لي لا يجلس في مقهاه إلا فيما ندر.. ولا يحدث الناس بحديث مثل ذاك إلا لماما.
فسأله محمود الشعلاني في شيء من الذهول :
- وعن يده !
- تعرف مخلفات الحرب لقد عانى المخلوق فجر حياته ما عانى.. فوهب الكرامة.
امتعض سليمان لكرامات تجيء بالبتر أو يمنح أصحابها هبات من قبيل البخور والسجائر وكرهت نفسه حب الأوهام طريقا لله.
وإذا به يقول:
-المهم.. إن ابنك سيحلق إلى الوزارة سواء بدعواتك أو بدعوات هذا الرجل.. فالمسببات عديدة وإن كان المقبول عند الله خفي علينا .
عاد هراوة يسال:
- ماذا عن فرارة مقهاهم . لا تقل لي أنها تضاهي التي بفنجانك
- تنقصهم شلة كشلتنا حتى تصير مقهاهم على المزاج .. نحن السعد الذي ينقصهم..
ضحكوا لقوله عدا سليمان فرجع الحاج يسترسل في الحديث:
- صاحب المقهى قليل الكلام مع العامة .. حتى الزبائن ليسوا إلا خاصته لذلك قليلا ما يخلق الجو الذي حكيت عنه في قهوته ولولا تأشيرة الحلم لقلت أن الرجل يختلق حالا ليست حاله .. وكثر الكلام أو قل .. فلست بمستطيع مجازاتك يا سليمان.. خيرك دوما سأذكره .
وما لبث أن أتم قوله حتى علق هراوة:
- حفظ الله ولدك.. سيعينك على شؤون البيت وأحواله عما قريب .
ثار الحاج إبراهيم في وجهه ونظر إليه شررا:
- وأين كان عونه ولي من البنين ثماني رقاب .. يعن نفسه ويصلح حاله.. لست محتاجا إلى نقوده.. الحمد لله.
ثم أردف بعد أن أتى على ما تبقى من فنجانه ومج ثمالته:
- ومن الناس من يجاهر بضرائه درءا للعين واتقاءا لنقمة الحسد والحاسدين .. فإذا سئل عن حال المعيشة استحال كالذئب العاوي .. وهو في شكواه يضمر جحودا بالعفاف والكفاف الذي أوتيه.. ثم يرنو إلى سائله نظرة الزهد وفاقة الأمر.. أن ماذا يصنع؟.. فيحسبه الناس في ظاهر القول مصابا بالبلاء أضعافا مضاعفة وهو في الواقع من أصحاب الكسب الذي يجزيه.. ويزيد فوقه مدخرا غير زهيد .. لا خير في هؤلاء القوم الجاحدين .. نواياهم تتخبث بالسوء .. أما أنا - وأعوذ برب الخلق من الأنا- .. أأكون في يسر حال وأجحد نعمة ربي ؟؟ هذا هو الضلال والعمه..أراني أحدثك بنعمة ربي .. الحمد الله.. والحال يا سي هراوة مستورة بفضل العالي .. ثم بفضل الذرية سجاهم الله وعبأ جيوبهم بغير حساب..
استحوذت على هراوة حال من الضحك أسرها كي لا تقع في سمع الحاج موقعا لن يجد لشرها ردا.. ماذا يفعل تجاه رجل عظيم يبدي رجاحة عقله بالنصح الكريم ثم يختمه بنفعية لا تمت بصلة بين جليلة النصح وجشاعة المطلب.. وآثر الجد على اللهو لكن حب استفزازه للحاج جره للتعليق فلم يتورع أن يكون البادئ بالجدال فقال بلطف:
- جعلنا الله وإياكم من المحدثين بنعمته.. فشعائر العيش لا تصح إلا بفضائل العفاف والكفاف .. ولو أنهما عدتا لدى الناس في خبر كان..إلا ما رحم ربك كأمثال السامعين..
ثم وهو ينظر للحاج علي بابتسام خبيث:
- عبأ الله جيوبهم...
وفطن المجلس لغمز هراوة لما تضمنه من تهكم على دعاء تنصل بعفوية من قائله.. تبودلت الغمزات والهمزات على مرأى ومسمع الحاج إبراهيم فانفجر بالغضب:
- استحلفكم بالله أن تقصوا شواربه .. كف عني لسانك السليط .. الله يخلي جيبك .. حتى في الدعاء تستكثرون علينا؟ .
وأردف بعدان هدأت ثورة الضحك:
- هم الذرية وزدن همك .. – ثم بصوت أعلى- :
- قهوجي .. هات فرارة..
أخذ مزاجه في التعكر حتى همس معاتبا :
-لا تخلط الجد بالهزل يا هراوة فلولا الأخبار السارة لذبحتك من قفاك.
يستمر هراوة في استفزازه :
- مجاهد وقت الاستعمار.. وإرهابي بعد أن فتح الله على أيدينا الحرية.. أي سفاح أنت يا الحاج إبراهيم؟.
فقال محمود الشعلاني :
- إرحم أخاك.. فأهله مازالوا يحتاجون إليه..
تحالف عليه القوم.. فلم يجد سليمان بدا من الوقوف إلى صفهم :
- وهل يتناول السفاح فرارة قبل الذبح ؟
احتج وجه الحاج إبراهيم .. ثم أجاب :
ويشترط في ذلك أن تكون بدون سكر مع هذا الزنديق.. ولو انه في الغالب ما يفارق زندقته فيمسى حبيبي ..
بل كلهم أحباب .. رغم أنهم يستثيرون غضبه بالمزاح فيدافع عن نفسه بشراسة.. وقد كبر عليه حميتهم ضده فيغضب بشيء من الملاحة و قد بدا له تآمرهم عليه رد فعل أخوي على قضية ابنه وتوظيفه.. فاستبان سبيل المسرة مرة أخرى .. وهو الذي حاول جاهدا بالنفس والنفيس أن يزج بولده في مبنى الوزارة.. فكان له ذلك كمن سام جسيمات الأمور فنالها في مدينة يكاد صمت أهلها يصم الآذان.