"عـَـشيَّة الأربعاء في السَّهل الأصفر" - قصة قصيرة
عطلة طويـــلة الأمد ، تـُـنْسِـيـــني في أيِّ يوم نحن. لكن حين تــشدُّني الرَّغبة للذهاب إلى هناك، أدْركُ أنَّه يوم الأربعاء؛ عشيََّة يوم الأربعاء. أجد نفسي أرتَع في ذلك السَّهل الأصفر الذي تشقُّه سِكـّة الحديد الطويلة. أمَنـِّي نفسي : ليت القطار القديم هنا، كان سَيقُص لي حكاية من الماضي، كنتُ سَأبادِلهُ الحنين الغامض الذي أحبّ. لا بدّ أنَّـه حُطام الآن في مقبرة الخردوات يتحلل تدريجيا مع أقرانه، تُرى كم من سنة تلزمه حتَّى يصير رميما .....
شَغلني عدد السنوات ، فلم أدري كم من الخطوات مشيتُ بمحاذاة السكـّة. تـَمَلكنِي التعب أخيرا، فـَجَال بصري هنا و هناك ثم قبَعْتُ على حَجَـر.
حَملتُ عودا صغيرا، هَمَمْتُ بكتابة شيء ما على الأرض. لكن العقل فارغ ، و القلب ...بدا فارغا . التربة الصّلبة بعض الشيء و الحصى الذي يتخللها جعلا يدي ترسم خطّا سطحيا مُعْوَجـًّا . اعتراني اختناق طفيف ثم اكتفيتُ بنبش صغير للتربة و إخراج الحصى، و في ذاكرتي أنبش لكن لا شيء يخرج سوى الشرود.
فجأة أذهلني صوت ، بل أصوات ، ضحكات، حَسَبْـتُـها بداية في مُخيلتي ، لكن سُرعان ما عادت عيناي المُسافرتان في عُمق التربة إليَّ . رفعتُ بصري لأرى منظرا ؛ حقيقة لم يكن فريدا ، اعتدتُ رؤيته قبلا ، لكن ما أدهشني أنَّـهُما يتواجدان الآن في مَكانيَ الذي حَسِبْـتـُه مَنـْسِيا . حرارة تُولـَعُ فيَّ و حَرجٌ يـَدُقـُّه قلبي. لم أعُد وحيدا في مجال شخصي. أسْدَلتُ بصري من جديد نحو الأرض ، تَصَلبْتُ حيث أنا و صِرْتُ جزءا أحمرا من الحجر الذي أقبع فوقه.
عيون قلبي هَمَسَت : إنّهما يَرمقانك، لا بدّ أنهما يتساءلان عن شأن كيانك المتصلّب كالتمثال.
هدوء سكن الأجواء، أراحني بعض الشيء ، و كأنه احترام لِــذاتيَ المتصلّبة المتوهجة.
بضع دقائق مَرَّت و كأنها السَّاعات ...
و أخيرا ها هما يتحرَّكان ، يبتعدان عن المكان بِـذات السكون الذي رمقاني به.
لا أدري كيف أنِّي رفعتُ بصري من جديد، آهٍ منكِ أيتها العيون الخاذلة.....رَغِبتِ في توديع اللوحة المغادرة ، المتلاشية ببطيء في أفق السهل الأصفر.
تـَمَـلكـَني شعور و كأنَّه تقديس خَفيّ لتلك اللحظات الأخيرة. ثم إنِّي تَـمنَّـيتُ أمْنية ؛ أن يَرسِـما ذات اللوحة على شاطئ بحر دافئ.
غابت اللوحة و تركتني ضعيفا ، مُشتـّتا
الغُربة تسكن قلبي من جديد، تـَجْـعَـلني أصْحـُو مِن حُلم لم يراودني منذ زمن.
و الوِحْدة تـَرُجُّ قلبي ، تـُطوقـُنِي ، تـُكـَلـمُني :
أين غِـبتَ يا رفيق السَّهل الأصفر ؟ افتقدتك طيلة تلك اللحظات
بقيتُ مُطرقا....
تـُكلمُني من جديد :
لا تيأس يا حبيب الأرض، شُرُودك سراب عابر سَيـَـنـْقـَشِع
و في الأرض كنوز ذِكـْرَانـَا
و في القلب كنوز ذِكـْرَانـَا
نُخـْرجُها حينا من الأرض الحفيظة لِــنُخبِّـئها في قلوبنا الحفيظة
و نُخـْرجُها حينا أخرى من قلوبنا الحفيظة لِــنُخبِّـئها في الأرض الحفيظة؛ رَحِــمِ السَّهل الأصفر الذي نُحب الرَّعْيَ فيه عـَـشيَّة كل أربعاء.