السفر إلى الله
تفرق الجمع،خطت الذات على لوحة قبرها: " هاأنذا أهيم في العين القدسي على براق الحروف و تموجات تراتيل قداس السهام الصاعدة، بشطحاتها نحو الخلود" تنفصل الروح عن الجسد التائه في دوامة التناهي و الانغلاق،تخرس الأفواه، يعم الصمت، فتسمو الروح في تعاليها لتغيب وراء الحجب.
وحده الطفل ظل مشدودا للمكان بعينين شاخصتين. كان المكان مجرد كلمة يرقد فيها أبطال حكايات جدته المسائية لا يذكر يوما أنه حضر مراسيم تشييع أحدهم، كان النوم يأسره قبل أن تنتهي الحكاية فتضيع عليه طقوس التشييع..أسره النوم ، الآن تأسره الموت ..وبين النوم والموت تنساب أناه تتِِأسس الكينونة ميتافيزيقا تملأ وجدانه اندهاشا وعزلة موحشة..ما أقساه فعل الموت وطقوسه، يدمر ذاته الصغيرة،يمزقها أفكارا هلامية تبحث عن الأصل،المنبع،عن الحقيقة؛حقيقة الذات التي هي كينونته وحقيقة الوجود التي صيرته رجلا في غفلة منه...يحدق مليا في القبر متسائلا عن ذات كانت هنا.ترافقه، تلاعبه، تعلمه المشي والانسلال في المتاهات ونحث ذاكرة الزمان لترتشف منها يوما كان يعتقد أنه مازال بعيدا..يد تربت على كتفه الأيمن؛ تنتشله من دوامة السؤال، ينظر لعينيها الدامعتان..أماه، هل رحل؟
ينهار العالم أمامه بنظراتها إليه وضمه إليها بعنف ونحيب لتعيد ذاته تشكيله بعين مكلومة..بفاجعة الميتافيزيقا. يمتد بصره رحابة الامتداد، يصاب بالدوار ، تتهاوى ذاته راكعة تنشد الخلاص، تحاول فهم ما جرى ووضع فاصل بين الحكاية والحقيقة؛ فاصل بين الميتافيزيقا في غدرها والأنطلوجيا في قسوتها؛ فاصل بين عالمين؛ عالم به ذاته المحترقة المغتسلة برائحة الموت،عود الند ، ترانيم المشيعين، دموع تحرق الجفون وتعيد تشكيل الطفل الذي هو في لحظة انهيار، وعالم إليه رحل، مقفل بابه إلا من فجوة أزهرت نباتا هي صلته بعالمه الوهمي وبه...يرويه دمعا وماء ..هل حقا تدل عليه ؟ كيف لذاته أن تعلم أين هو وهو لايعلم هل في الموت حياة..يخاطبه هامسا حتى في موتك تلقنني أولى دروس الميتافيزيقا: أن الحياة تلاحقها الموت وأنها تحث عل حب الموت مادام فيها لقاء الله وتوحد به. أليس الإنسان، أنت و أنا وهو، جوهرا خالدا بمعان وبدلالات رمزية مختلفة، في الأساطير والديانات والفلسفات وفي حكايات جداتنا المسائية إلا العلم يروعنا، يقذف بنا إلى الجنون وقد علمنا أن مصير الجسم-الجثة هو الانحلال...ما أفضعه مشهد الديدان يمر بخياله تستفز الطفل الدائم السؤال عنه وعن سفره الطويل إلى الله ؟ والله ها هنا كينونتنا و عدمنا، إشراقه في بياض الطهارة، رذاذ ماء يطهر الكون، يم لا ندري وجودنا فيه ، تقذف الذات نفسها عارية في مرايا الكون المنكسرة تتأملها بقشعريرة ماء التطهر المتهاطل فلسفات روحانية فتواجه الذات ذاتها بأسئلة التفكيك الممكنة. وفي لحظة الإشراق تعمى البصيرة ويسود السكون المقبرة وتتمرد الأنا على طبيعة علمت الإنسان لذة الحياة لتسلبها منه..ماء الساقي المنساب على لوحة القبر وعلى طول امتداده يمتزج بماء جفون ذات الطفل المغتربة بين جلال الحضرة ومازوشية السمو بالصبر والقدرة على التحمل،إلى حدود تذويب العالم في الذات، فجأة يخفق قلب الطفل كحرية مطلقة تنفلت من انفعال اللامعقول وساديته تجاه الأنا المقذوف بها الآن في رياض القبور.يطلق رجليه للريح ..يتعالى صوت الأم متوسلة بأن يعود.
وفي بعده عنها، في اختراقه المدينة تلاحقه تساؤلات الانكشاف تتراءى له الذوات المتراقصة على الأرصفة، تعيده لذاته المغتربة، تذكره بأولى دروس الميتافيزيقا،بإنيته، بوجوده ها هنا وإلى الأبد. من الغريب في هذا العالم ذاته أم ذواتهم ؟ كيف توحد الموت الأمكنة والأزمنة كيف تتحول الذات إلى قبر يتلاشى عبر الزمن؟ يأبى الطفل أن يحيى المشهد، يطلق من جديد ساقيه للريح نحو المحطة الطرقية، لا يقف إلا وهو أمام شباك "السفر إلى الله" ،يطلب تذكرة السفر.
المصطفى سكم