( ربما يكون الخوف هو ما يدفعني إلى رحاب الفرسان لالتمس هناك بعض الأمن والأمان ففى رحابهم وفى أعماق عين حبيبتي فقط اشعر بذلك الأمن وأجد الأمان )
فى حياة كل امة رجال أضاءوا أنفسهم شموعا تحترق لتنير لأوطانهم الطريق
وفى تاريخ مصر الحديث يقف شامخا متفردا على قمة هؤلاء الرجال
الاميرالاى / محمد عبيد فارس الفرسان
فعلى مدار الأحداث الكبرى فى التاريخ دائما تكون هناك تلك اللحظة التى تنتبه فيها قوى الشر مبكرا لحركة قوى الخير فيستجمع الشر قوته ويرفع يده ليبطش بأبطال الخير وفرسانه فى بداية الملحمة وقبل أن يبدأ دورهم التاريخي
وهى لحظة يتوقف فيها التاريخ وينتظر
هل يكتب نهاية حركة الخير بالقضاء على أبطاله وفرسانه أم أن القدر سيكون له رأى آخر
ومن رحم الأحداث يظهر ذلك البطل المجهول
انه ذلك الفارس المغوار الذى يقتحم وكر الشر لينقذ فرسان الخير وأبطاله لتستمر ملحمة الصراع الابدى
وفى غمرة الأحداث الكبرى يختفى ذلك البطل ثانية
وقد كانت الثورة العرابية فى مصر من اكبر الأحداث فى تاريخها الحديث حيث كانت مصر ترزح تحت الاحتلال العثمانى وحكم أسرة محمد على الفاسدة المستبدة
وكان الأتراك يمارسون أبشع أنواع الظلم والاضطهاد والتفرقة والتمييز ضد المصريين أصحاب البلد الأصليين
وهو ما أثار غضب الزعيم احمد عرابى وزملاؤه فأرسلوا رسالة إلى رياض باشا ناظر النظار ( رئيس الوزراء ) يطالبونه فيها بعزل عثمان رفقى ناظر الجهادية ( وزير الحربية ) التركى المتغطرس ويطالبونه فيها بمساواة المصريين بأقرانهم من الأتراك ووقع على الرسالة الزعيم احمد عرابى وعبد العال حلمى وعلى فهمى
واقسم هؤلاء الفرسان النبلاء على الدفاع عن كرامة مواطنيهم حتى الموت
ووصلت الرسالة إلى رياض باشا وثارت الدنيا
كيف يتجرأ هؤلاء المصريين من أبناء الفلاحين على المطالبة بالمساواة مع أسيادهم من الأتراك !!!!!
وأصدر أوامره بمحاكمتهم عسكريا
واستدرجهم عثمان رفقى ناظر الجهادية إلى سراى قصر النيل ( مقر وزارة الجهادية ) بحجة الاستعداد لحضور حفل زفاف إحدى الأميرات
وبمجرد دخولهم إلى قصر النيل أحاط بهم الضباط والجنود الأتراك وجردوهم من سلاحهم وأهانوهم وقاموا بسجنهم تمهيدا لمحاكمتهم وإعدامهم جزاءا لتجرأهم على المطالبة بالمساواة بأسيادهم من الأتراك !!!!!
وتوقف التاريخ لينتظر
وبعد مضى ساعتين
ساور القلق نفس البكباشى محمد عبيد ( ابن كفر الزيات والمصريين الغلابة البسطاء الطيبين )
وكان ضابطا بسراى عابدين مقر إقامة الخديوى توفيق حاكم مصر
فجمع جنوده وتوجه بهم إلى قصر النيل
ومر من أمام سراى الخديوى الذى أرسل ياوره ليأمره بالعودة بالجنود إلى الثكنات
ولكن البطل رفض تنفيذ أمر الخديوى وهو يعلم انه يخاطر بحياته وقاد جنوده واقتحم بهم قصر النيل
وامتلأ قلب المتجبر عثمان رفقى وزملاؤه من الأتراك بالرعب وفروا من قصر النيل وأنقذ البطل الفرسان من سجنهم والمصير الذى كان ينتظرهم
( وهكذا كان الشكر والفخر للبطل المقدام والشجاع الهمام محمد افندى عبيد الذى كان إنقاذنا من الهلاك على يديه ) هكذا كتب عنه الزعيم احمد عرابى فى مذكراته
وتمر الأيام سريعا
ونصل إلى يوم الجمعة 9 سبتمبر 1881 ونرى الفارس محمد عبيد يقف خلف الزعيم احمد عرابى وهو يقف فى ميدان عابدين ليطالب الخديوى توفيق بحقوق الأمة المصرية ومساواة المصريين بالأجانب وهو ما جعل الخديوى يرد عليه بقوله
كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي واجدادى وما انتم إلا عبيد احساناتنا
ويرد عليه عرابى
لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا
فوالله الذى لا اله إلا هو سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم ( أسف يا عرابى خذلناك وقبلنا أن نتحول إلى عقار وسوف نورث ثانية )
وتتطور الأحداث ويستعين الخديوى الخائن بانجلترا التى تقوم بغزو مصر ويتصدى عرابى بفرسانة لجيش الإمبراطورية الإنجليزية التى لا تغرب عنها الشمس ويوقع بهم الهزيمة فى كفر الدوار
وينسحب الجيش الانجليزى ويستغل تواطؤ الفرنسيين المتحكمين فى قناة السويس ويغزو مصر من الشرق بعد عبور قناة السويس ويندفع عرابى بجيشه من المصريين البسطاء ليتصدى للإنجليز فى التل الكبير
ولكن الخيانة تتدخل ابتداءا من خيانة السلطان العثمانى خليفة المسلمين الذى أعلن مروق عرابى وكفره وأمر المسلمين بالثورة عليه وأهدر دمه ثم خيانة الخديوى ورجاله واستمالته لبعض الضباط والقبائل ليخونوا وطنهم مقابل المال والمناصب
وتكون الهزيمة بسبب الخيانة
وعندما يوقن عرابى من الهزيمة يقرر الصمود فى الميدان لينال الشهادة
ولكن من حوله يقنعونه بالانسحاب إلى القاهرة لمحاولة تنظيم الدفاع عنها
وينطلق عرابى فى طريقه إلى القاهرة
ولكن
بتأثير الهزيمة والخيانة ينفرط الجيش المصري
ووسط كل هذا الخزى واليأس والإحباط
ومن أعمق أعماق الهزيمة
يشرق ثانية نجم فارس الفرسان محمد عبيد
إذ يقف صامدا برجاله ( ثلاثة آلاف مقاتل مصرى ) ببنادقهم العتيقة فى وجه جيش الإمبراطورية الإنجليزية التى لا تغرب عنها الشمس بكل أسلحته ومدافعه
صمدوا وعلم مصر وراءهم يفتدونه بأرواحهم
صمدوا وكأنهم قد اقسموا على أن يدفعوا أرواحهم ثمنا لافتداء شرف وكرامة الجيش المصرى
ويستشهدون جميعا
ومع سقوط آخر جسد منهم ومع انقشاع غبار المعركة وقف قادة الجيش الانجليزى احتراما وإجلالا لجسد الفارس ورجاله
انه محمد عبيد فارس الفرسان
أنا متأكد انه هناك يقبع فى أعماق أرواحكم
فلو بحث كل منكم بداخله سيجد محمد عبيد يقبع منتظرا هناك
فقط فلنعطه فرصة ليعود من جديد
فما أحوجنا إليه الآن
جمال النجار