بيت العائلةمن وحي بيت جدي
العتيق بالصالحية
يقف متربعاً على هامة الزمن ، يقاوم كل عواديه ، و يحفظ على نفسه هيبته المنيعة ، هيبة منزل الملاّك الكبار و الأسرة الخالدة .يبقى مستعصماً بنفسه ، يلفها بظلام الليل علّه يخيف الناهبين ، يرسم في الفضاء لوحة تخيلية لذكريات ماضيه الأسطوري ، حين كانت تفترش صحنه الأسرة الكبيرة ، و يتخذ رب الأسرة بطربوشه الشامخ و شاربيه المفتولين مكانه على رأس المائدة ، و تلتف أسرته الكبيرة على طعامها بزهو و ألفة ، و على مقربة منهم نافورة بركة الماء ترسم بقطراتها المبعثرة في الهواء صورة لملاك صغير .يقف كزعيم قبيلة عظيمة بعزة و كبرياء ، يرنو للمدينة الكبيرة الممتدة في السفح باستعلاء ، كأنه يقول لها : لا تحسبي أن الأيام قد دارت دورتها فدالت دولتي و قامت دولتك ، لا زلت عظيماً كبيراً ، حاكماً على نفسي و على غيري وحتى عليك ، فتجيبه بصمت هادر يحمل كل معاني السخرية و الهزء بخيلائه الفارغة من كل واقع .هجره أهله منذ أربعين عاماً ، و لم يبق به إلا الخواء و الريح اللاعبة بالأبواب ، و أحجار بركة الماء التي صمتت من أمد بعيد .و في ليالي الشتاء الباردة التي تعصف فيها الريح الوحشية تنفتح دفتا باب الغرفة الكبيرة الذي يفصلها عن صحن البيت ،فتطل صورة رب الأسرة بطربوشه الشامخ و شاربيه المفتولين المعلقة على جدار الغرفة ، واقفاً مندهشاً يتساءل وهو يحدق في صحن الدار بعينين جاحظتين : هل خوى المنزل الذي كان قصراً من ساكنيه ، و بات ملعباً للريح و أوراق الأشجار المتناثرة ..... هل بات محط آمال الناس قبل خمسين عاماً متحفاً مهجوراً لذكريات الزمن الراحل و أيامه البائدة .فيرد عليه صفير الريح بصوت خشن : نعم يا سيد البيت .... فالزمان قد تغير .... قد تغير .... قد تغير .