محمد بن سيرين
هو محمد بن سيرين الأنصارى ؛ أبو بكر بن عمرة البصرى أخو أنس ، ومعبد ، وحفصة ، وكريمة .. كان سابع سبعة من اخوته من ثقات التابعين .. مولى أنس بن مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبوه من سبى ( عين التمر ) ، الذين أسرهم خالد بن الوليد رضى الله عنه .
اختُلف فى مولده ـ رحمه الله ـ فقيل ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، وقيل من خلافة عثمان .. قال الذهبى فى السير : ( الثانى أشبه ، ولو كان أولاهما الأول لكان ابن سيرين فى سن الحسن ، ومعلوم أن محمدا كان أصغر بسنوات ) .
وصفه يوسف بن عطية فقال : ( رأيت ابن سيرين قصيرا عظيم البطن ، له وفرة ، يفرق شعره ، كثير المزاح والضحك ، يخضب بالحناء ) .
وعنه قال ابن سعد فى طبقاته : ( كان ثقة ، مأمونا ، عالما ، رفيعا ، فهيما ، إماما ، كثير العلم ، ورعا ، وكان به صمم ) .
قالوا عن ابن سيرين :
روى عن شعيب بن الحبحاب قوله : ( كان الشَّعبىُّ يقول لنا : عليكم بذاك الأصم .. يعنى ابن سيرين ) .
وعنه قال هشام بن حسان : ( حدثنى أصدق من أدركت من البشر ؛ محمد بن سيرين .... ) .
وقال عنه العجلى فى التهذيب : ( بصرى تابعى ثقة ، وهو من أروى الناس عن شريح وعبيدة ، وإنما تأدب بالكوفيين أصحاب عبد الله وإخوته معبد ، ويحيى ، وأنس ، وحفصة أم الهذيل تابعون ثقات ) .
وعن ابن عون قال : ( ثلاثة لم تر عيناى مثلهم : ابن سيرين بالعراق ، والقاسم بن محمد بالحجاز ، ورجاء بن حيوة بالشام ، كأنهم التقوا فتواصوا ) .
وعنه أيضا قال : ( كان محمد من أرجى الناس لهذه الأمة ، وأشد الناس إزراءً على نفسه ) .
من أساتذته ـ رحمه الله ـ :
قال الحافظ فى ( تهذيب التهذيب ) :
روى عن مولاه أنس بن مالك ، وزيد بن ثابت ، والحسن بن على بن أبى طالب ، وجندب بن عبد الله البجلى ، وحذيفة بن اليمان ، ورافع بن خديج ، وسليمان بن عامر ، وسَمُرَة بن جندب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعثمان بن أبى العاص ، وعمران بن حصين ، وكعب بن عجره ، ومعاوية ، وأبى الدرداء ، وأبى قتادة ، وأبى هريرة ، وأبى بكر الثقفى ، وعائشة أم المؤمنين ، وأم عطية ، وحميد بن عبد الرحمن الحميدى ، وعبد الله بن سقيف ، وعبد الرحمن بن أبى بكرة ، وعبيدة السلمانى ، وعبد الرحمن بن بشر بن مسعود ، وقيس بن عباد ، وكثير بن أفلح ، وعمرو بن وهب ، ومسلم بن يسار ، ويونس بن جبير ، وأبى المهلب الجرمى ، وإخوته معبد ، ويحيى ، وحفصة ، ويحيى بن أبى اسحاق الحضرى وهو أصغر منه ، وخالد الحذاء ، وهو من تلامذته ، وغيرهم طائفة من كبار التابعين .
ومن تلامذته ـ رحمه الله تعالى ـ :
روى عنه الشعبى ، وثابت ، وخالد الحذاء ، وداود بن أبى هند ، وابن عون ، ويونس بن عبيد ، وجرير بن حازم ، وأيوب ، وأشعث بن عبد الملك ، وحبيب بن الشهيد ، وعاصم الأحول ، وعوف الأعرابى ، وقتادة ، وسليمان التيمى ، وقرة بن خالد ، ومالك بن دينار ، ومهدى بن ميمون ، والأوزاعى ، وهشام بن حسان ، ويحيى بن عتيق ، ويزيد بن إبراهيم ، وأبو هلال الراسبى ، وعمران القطان ، وعمارة بن مهران ، وعلى بن زيد بن جدعان ، ومنصور بن زادان ، وكثير بن شنظير ، ويزيد بن طهمان ، وآخرون .
عبادته وورعه رحمه الله :
قال الخطيب البغدادى فى ( تاريخ بغداد ) : وكان محمد أحد الفقهاء من أهل البصرة والمذكورين بالورع فى وقته .
وقال مورق العجلى : ( ما رأيت رجلا أفقه فى ورعه ، ولا أورع فى فقهه من محمد بن سيرين ) .
وقال أبو قلابة : ( اصرفوه حيث شئتم فلتجدنه أشدكم ورعا وأملكم لنفسه ) .
وقال بكر بن عبد الله المزنى : ( من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا فلينظر إلى محمد بن سيرين ) .
وقال هشام بن حسان : ( كان محمد يتَّجِرْ ، فإذا ارتاب فى شىء تركه ) .
عن ميمون بن مهران ، قال : ( قدمت الكوفة وأنا أريد أن أشترى البزّ ، فأتيت ابن سيرين بالكوفة فساومته ، فجعل إذا باعنى صنفا من أصناف البزّ قال : هل رضيت ؟ فأقول نعم .. فيعيد ذلك علىَّ ثلاث مرات ، ثم يدعو رجلين فيشهدهما ، ولا يشترى ولا يبيع بهذه الدراهم الحجاجية ، فلما رأيت ورعه ، ما تركت شيئا من حاجتى أجده عنده إلا اشتريته حتى لفائف البزّ ).
وعن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار ، قال : ( لما حبس ابن سيرين فى السجن ؛ قال له السجان : إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك ، فإذا أصبحت فتعال .. ) فقال ابن سيرين : ( لا والله لا أعينك على خيانة السلطان ) .
قال المدائنى : ( كان سبب حبس ابن سيرين فى الدين أنه اشترى زيتا بأربعين ألف درهم ، فوجد فى زق منه فأرة ) ، فقال : ( الفأرة كانت بالمعصرة ، فصب الزيت كله .. ) وكان يقول : ( عيرتُ رجلا بشىء منذ ثلاثين سنة ، أحسبنى عوقبت به .. ) .
عن ابن عوف ، عن محمد بن سيرين : أنه لما ركبه الدين اغتم لذلك ، فقال : ( إنى لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة .. ) .
وعن عبد الله بن السرى ، قال : قال ابن سيرين : ( إنى لأعرف الذنب الذى حمل علىَّ الدين ما هو ؟ قلت لرجل من أربعين سنة يا مفلس ) ، فحدث به أبا سليمان الدارانى . قال : ( قلَّتْ ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون ، وكثرت ذنوبى وذنوبكم فليس ندرى من أين نؤتى ) .
عن أم عبدان امرأة هشام بن حسان ، قالت : ( كنا نزولا مع محمد بن سيرين فى الدار ، فكنا نسمع بكاءه بالليل وضحكه بالنهار ) .
وقال أشعث : ( كان ابن سيرين إذا سئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى نقول : كأنه ليس بالذى كان ) .
وقال عاصم الأحول : ( كنت عند ابن سيرين فدخل عليه رجل فقال يا أبا بكر ما تقول فى كذا ؟ ) قال : ( ما أحفظ فيها شيئا ) . فقلنا له : ( فقل فيها برأيك ) .. قال : ( أقول فيها برأيى ثم أرجع عن ذلك الرأى لا والله ) .
وعن ابن عون قال : ( قال محمد فى شىء راجعته فيه : إنى لم أقل ليس به بأس ، إنما قلت لا أعلم به بأسا ) .
وقال ابن شبرمة : ( دخلت على ابن سيرين بواسط ؛ فلم أر أجبن من فتوى منه ، ولا أجرأ على رؤيا منه ) .
عبادته ـ رحمه الله ـ وبره بأمه :
عن أيوب وهشام : ( أن ابن سيرين كان يصوم يوما ويفطر يوما ) .
وعن أنس بن سيرين ، قال : ( كان لمحمد سبعة أوراد ، فكان إذا فاته شىء من الليل قرأه بالنهار ) .
وعن هشام بن حسان ، قال : ( حدثنى بعض آل سيرين قال : ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع ) .
وعن ابن عون قال : ( دخل رجل على محمد وعنده أمه ، فقال : ما شأن محمد أيشتكى شيئا ؟ قالوا : لا .. ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه ) .
براعته ـ رحمه الله ـ فى تعبير الرؤى :
قال الذهبى فى السير : ( قد جاء عن ابن سيرين عجائب يطول الكتاب بذكرها ؛ وكان له فى ذلك تأييد إلهى ) .
عن يوسف الصباغ ، عن ابن سيرين قال : ( من رأى ربه تعالى فى المنام دخل الجنة ) .
وعن أبى قلابة أن رجلا قال لابن سيرين : ( رأيت كأنى أبول دما .. ) فقال : ( أتأتى امرأتك وهى حائض ؟ ) قال : ( نعم .. ) قال : ( اتق الله ولا تَعُدْ ) .
وعن أبى جعفر ، عن ابن سيرين أن رجلا رأى فى المنام كأن فى حجره صبيا يصيح ، فقص رؤياه على ابن سيرين فقال : ( اتق الله ولا تضرب العود ) .
وعن عبد الله بن مسلم المروزى ، قال : ( كنت أجالس ابن سيرين فتركته وجالست الإباضية ، فرأيت كأنى مع قوم يحملون جنازة النبى صلى الله عليه وسلم ، فأتيت ابن سيرين فذكرته له ، فقال : مالك جالست أقواما يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم ؟ ) .
وعن هشام بن حسان ، قال : ( جاء رجل إلى ابن سيرين وأنا عنده فقال : إنى رأيت كأن على رأسى تاجا من ذهب .. فقال له ابن سيرين : اتق الله فإن أباك فى أرض غربة وقد ذهب بصره وهو يريد أن تأتيه .. قال : فما زاده الرجل الكلام حتى أدخل يده فى حجزته فأخرج كتابا من أبيه ، يذكر فيه ذهاب بصره ، وأنه فى أرض غربة ، ويأمره بالإتيان إليه .. ! ) .
وعن مغيرة بن حفص ، قال : ( سئل ابن سيرين ، فقيل له : رأيت كأن الجوزاء تقدمت الثريا ؟ فقال : هذا الحسن يموت قبلى ، ثم أتبعه ، وهو أرفع منى ) .
درر من أقواله رحمه الله :
عن أيوب قال : قال محمد : ( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ؟ ) .
وعن حبيب ، عن ابن سيرين ، قال : ( إذا أراد الله بعبد خيرا ؛ جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه ) .
وعن هشام ، عن محمد بن سيرين ، قال : ( كان مما يقال للرجل إذا أراد أن يسافر فى التجارة : اتق الله تعالى ؛ واطلب ما قدر لك فى الحلال ، فإنك إن تطلبه من غير ذلك لم تصب أكثر مما قدر لك ) .
وعن ابن عون قال : ( سمعت محمد بن سيرين يقول : ثلاثة ليس معهم غربة : حسن الخلق ، وكف الأذى ، ومجانبة الريب ) .
وفاته رحمه الله :
قال الذهبى : ( قال غير واحد ؛ مات محمد بعد الحسن بمائة يوم ، سنة عشر ومائة ) .
عن خالد بن خداش ، قال : ( حدثنا حماد بن زيد قال : مات ابن سيرين لتسع مضين من شهر شوال سنة عشر ومائة ) .
وعن عبد الله بن محمد بن سيرين ، قال : ( لما ضمنت على أبى دينه قال لى بالوفاء به ، قلت بالوفاء ، فدعا لى بخير .. ) .
قيل : ( فقضى عبد الله عنه ثلاثين ألف درهم .. فما مات عبد الله حتى قومنا ماله ثلاث مائة ألف درهم أو نحوها ) .
رحم الله ابن سيرين رحمة واسعة .