قراءة نقدية في"أنين الوتر" للشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
"قراءة في تأويل المعنى"
بقلم: الأديبة والناقدة الفلسطينية باسمة صواف
أنين الوتر
1
النجومُ تئِنﱡ
تُبعثِرُ حبَّاتِ عِقدِ القصيدةِ
تصرُخُ في مَسْمَع الليلِ:
هذا المساءَ يَعِيثُ الضُّمورُ بِجِسْمِ القمرْ
جَرَسُ الظلماتِ يَرنﱡ
يُدَقﱡ بكفِّ الخطرْ
2
يَرْقدُ النهرُ بَينَ أكُفِّ السكينةِ
مُنتظرًا طلعَة الأعيُن الشُّهْلِ
والسَّوسَنُ الغَضُّ فيه يَحِنﱡ
يُراقبُ خَفْقَ الشَّجَرْ
ما لأشْرعَةِ الضوء غرْقى
ما لِوشاح الندى لا يُغَطي رُؤوسَ الثمَرْ
ما لِتلكَ القناديلِ تلبُدُ في الظلِّ
ما لِهَديل الحمام يَكِنﱡ
ومرْكبُ هذا الربيع يُسافرُ تحت البصرْ
وعناقيدُ هذا الغروبِ ما بالها تنكسرْ
تتساقط فوق جبال المدينةِ
فوق أنين الوترْ
3
والقوافي تُدافعُ عَن دَفقةِ السيْلِ
عن شَهْقةِ السهْلِ
عن هَمهَماتِ الهضابِ التِي تَنهمِرْ
وذبابُ التوجُّع فيها يَطِنﱡ
يخاطبُ لونَ السوَادِ على وَجْنة النحْلِ:
قمْ لِيَحُلَّ مَحَلكَ لونُ الزهَرْ
المغرب
ماي 2009
يحلق الشعراء في عالم ذواتهم من خلال نصوصهم، فالنص هو الوسيط الوحيد الذي نفهم من خلاله أنفسنا حسب قول "ريكور"، ويتم ايصاله للمتلقي عن طريق قراءته والتفاعل معه ومن ثم تأويله، وبذا يخرج النص من أولوية الذاتية إلى دفع المتلقي إلى البحث عما بداخل النص بعيداً عن ذاتية الشاعر، حسب مفهوم مدرسة "الهرمونيطيقا" التأويلية، التي وضع أسسها "شلايرماخر"، وطورت عبر أعمال "ريكور" وغيره، فهو يرى بضرورة "البحث داخل النص نفسه عن الدينامية الداخلية الكائنة وراء تبيين العمل الأدبي، ومن جهة ثانية البحث عن قدرة هذا العمل على أن يقذف نفسه خارج ذاته ويولد عالماً يكون هو موضوع النص اللامحدود".
وإذا وقفنا عند نص "أنين الوتر"، نجد أن الشاعر يمارس فعل القول، والمتلقي فعل التأويل لإنتاج المعنى، فيصبح المتلقي شريكاً مع الشاعر في صنع المعاني، على الرغم من انزواء الشاعر "غسري" بذاتيته عن النص، لكنه لم ينفصل عنه، بل قام بطرح البديل وهي الطبيعة، لذا نراه يكثر من استخدام الرموز والاستعارات، والتي بدورها تحتاج أيضاً إلى تأويل، وهذا التأويل يشير أن هناك لغة غير مباشرة، لذا كانت "الهيرمونيطيقا هي الكشف عن المعاني غير المباشرة"، وهذا لا يمكن عزله عن الانعكاس النفسي للشاعر والمتلقي أيضاً.
وهذا ما شعرنا به بداية من العنوان "أنين الوتر"، الذي حضر بهيئة جملة اسمية تلبسها الرمزية، فتعمل الاستعارة فيها على بث خلق معان داخل النص،فالأنين يحمل دلالة نفسية يشوبها الحزن والقلق، فيتلقاها القارئ، ويتشكل لديه خطاب الشاعر، فيعمل على تأويلها حسب سيكولوجيته وثقافته، وهنا يحدث التباين في وضعية التفاعل مع النص، وتشكيل معانيه.
يشعر القارئ بداية أن العنوان يحتاج إلى كلمة أخرى حتى يتم معناه ليكتمل المشهد، ولكن الشاعر يفاجئنا بجملة اسمية أخرى،تشارك الوتر في الأنين، وهنا عمد الشاعر إلى كسر ما تشكل في المخيلة ليلج بنا إلى عالم لا نسمع فيه غير الأنين، ليدخلنا إلى الإحساس بالنص.
1
النجومُ تئِنﱡ
تُبعثِرُ حبَّاتِ عِقدِ القصيدةِ
تصرُخُ في مَسْمَع الليلِ:
هذا المساءَ يَعِيثُ الضُّمورُ بِجِسْمِ القمرْ
جَرَسُ الظلماتِ يَرنﱡ
يُدَقﱡ بكفِّ الخطرْ
**********
يغرق الشاعر في استعمال الاستعارة في هذه اللوحة الفنية التي رسمها لنا بكلماته لتوضيح الرؤية لدى المتلقي، وذلك من خلال إعادة تدفق اللغة من خلال توظيفه لها، وما تمنحه من قدرة على توليد الصور الدلالية والايحاءات. فنراه يكثر من توظيف الأصوات التي نسمع صوتها بين ثنايا الكلمات، والتي تشير إلى خطر يصيب الطبيعة ويعمل على تشويهها، حتى استطاعت أن تصل إلى القمر أيضاً، فتعلن بدورها عن رفضها واحتجاجها، فيرتفع صوتها من خلال أجراس الظلام، والدق من خلال الكف، بلغة تحمل التناقض والقلق.
وكما نلاحظ أن الشاعر لم يدخل في حالة تماهي بينه وبين الطبيعة، إلا من خلال عقد القصيدة، ما جعلنا نشعر باسقاطاته النفسية عبر خطاب موجه منه للمتلقي، وهذا الخطاب انعكاس لعالمه، عبر عالم الطبيعة،وهنا اتخذ الشاعر من الطبيعة وسيطاً ليشير إلى الحالة الشعورية المضطربة والمتناقضة التي يحياها، وتحيا فيه.
**********
2
يَرْقدُ النهرُ بَينَ أكُفِّ السكينةِ
مُنتظرًا طلعَة الأعيُن الشُّهْلِ
والسَّوسَنُ الغَضُّ فيه يَحِنﱡ
يُراقبُ خَفْقَ الشَّجَرْ
ما لأشْرعَةِ الضوء غرْقى
ما لِوشاح الندى لا يُغَطي رُؤوسَ الثمَرْ
ما لِتلكَ القناديلِ تلبُدُ في الظلِّ
ما لِهَديل الحمام يَكِنﱡ
ومرْكبُ هذا الربيع يُسافرُ تحت البصرْ
وعناقيدُ هذا الغروبِ ما بالها تنكسرْ
تتساقط فوق جبال المدينةِ
فوق أنين الوترْ
تكمن جمالية اللغة عند الشاعر في أثناء بحثنا عن المعاني المخفية فيها، وذلك من خلال إحاطتها بالرمزية والاستعارات، لذا نجد الشاعر وقد أدخلنا في المقطع الثاني في حالة من التناقضات، فبعد أن أسمعنا أصوات الرفض، دخلت الطبيعة في حالة سكون وترقب، فالنهر يرقد متوجساً يراقب ما حوله، ويشعر بالأشياء تحن إلى أصولها، ولكنه يتفاجأ بما يراه فيعجب من تغيير وظائف ما حوله، فقد أغرقت أشرعة الضوء، والندى لا يغطي رؤوس الثمر، والقناديل تلبد في الظل، والحمام أصبح يكن ولم نعد نسمع له صوتاً، ومركب الربيع لا يظهر، وعناقيد الغروب تنكسر وتتساقط فوق جبال المدينة فوق أنين الوتر، وهنا حضور آخر للعنوان
ولكنه حضور أُسقط عنه الإبهام، فاتضحت الرؤية المنشودة من وراء توظيفه.
وهذه التناقضات المبثوثة في الطبيعة ينشدها الشاعر ضمن ممارسات ثقافية وإسقاطات نفسية في الوقت ذاته، وهنا يحدث التفاعل بين الشاعر والمتلقي عبر الوسيط وهو النص، فيحدث التأويل ضمن توقعات المتلقي وقدرته على تذوق الكلمات والتحليق في معانيها، فيصبح شريكاً في خلق المعاني ضمن عالمه الخاص فيصبح أكثر قرباً من النص، وبذا يحقق الشاعر ما يصبو إليه من وراء كتابة النص.
**********
3
والقوافي تُدافعُ عَن دَفقةِ السيْلِ
عن شَهْقةِ السهْلِ
عن هَمهَماتِ الهضابِ التِي تَنهمِرْ
وذبابُ التوجُّع فيها يَطِنﱡ
يخاطبُ لونَ السوَادِ على وَجْنة النحْلِ:
قمْ لِيَحُلَّ مَحَلكَ لونُ الزهَرْ
يرجع الشاعر في المقطع الثالث إلى التماهي مع الطبيعة، وذلك بذكر كلمة القوافي، التي تدافع عن دفقة السيل،وشهقة السهل، وبوح الهضاب الذي ينهمر، وهو بذا يعيد لها الحياة، ويخرجها من حالة السكون التي تملكتها، ولكن مع ذلك يأتي الشاعر بكلمة التوجع ويرفقها مع كلمة الذباب ليرينا تشوه المنظر، ويعود الشعر ويخاطب لون سواد النحل مستنكراً ومحاولاً الاستنهاض به، ويأمره أن يزيل هذا اللون القاتم، ليحل محله لون الزهر.
هي دعوة من الشاعر إلى التغيير، وعدم تقبل الحياة بضعفها، فالشاعر لم يقحم ذاته بشكل مباشر واصفاً ما للحياة من تأثير عليه، ولكنه طرح البديل "الطبيعة"، لتغدو المظاهرالطبيعية أشد تأثيراً على المتلقي الذي قام بدوره بإنتاج للمعاني عبر عمليتي التذوق والتأويل، ليجد هو الآخر من يشاركه في أحاسيسه، وهي لعبة ذكية من الشاعر أن يجعل المتلقي يشعر بأنه يشاركه في صياغة معاني النص عبر حالات وجودية مشتركة، وهنا يغدوالنص أكثر قرباً من المتلقي، فما بالك حينما يوظف الشاعر الاستعارات والرموز بشكل يخدم النص ويبنيه. فالاستعارة هي حياة الشعر وقوته واندفاعه، فالشعر يبدو شاحباًهزيلاً إذا افتقد إلى الصورة حسب قول خزعل الماجدي في كتابه (العقل الشعري).
من يقرأ "أنين الوتر"، يشعر بتدفق معاني القصيدة من عنوانها، وبما تحمله من ايحاءات ودلالات تثير رغبة في تذوق القصيدة عبر انفعالات الشاعر الفكرية والنفسية، لتعيش معاني كلمات القصيدة مع الشاعر، فيسكنك النص وتسكن فيه.