سنّة الأوّلين..2.

إبراهيم في القرآن

يذكر القرآن في عدد من السور, كيف اهتدى إبراهيم لوجود الخالق وآمن به, قبل أن يأتيه الوحي ويطلب من قومه هجر عبادة الأصنام التي قام بتكسيرها في محاولة لإثبات أنها جماد لا تستطيع دفع الضرر عن نفسها فكيف يرجى أن تنفع غيرها: وتالله لأكيدنّ أصنامكم بعد أن تولّوا مدبرين. فجعلهم جذاذا الاّ كبيرا لهم لعلّهم اليه يرجعون (الأنبياء: 57_58).

فعقدوا العزم على حرقه بالنار: قالوا حّرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. وارادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين (الأنبياء: 68_70).

وقبل أن ينفذ القوم حرق إبراهيم, طلب منه والده الرحيل وترك العشيرة وشأنها, وهو ما يتضمنه معنى "واهجرني مليّا" في قوله تعالى: قال اراغب انت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنّك واهجرني مليّا (مريم: 46).

فقام إبراهيم بتنفيذ رغبة والده ونجا من مكائد قومه: قال سلام عليك سأستغفر لك ربي انّه كان بي حفيّا. واعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعو ربّي عسى الاّ أكون بدعاء ربّي شقيّا, (مريم: 47_48).

وخرج إبراهيم ومن آمن معه ومن بينهم لوط من أرض عشيرتهم: فآمن له لوط وقال انىّ مهاجر إلى ربّي انّه هو العزيز الحكيم (العنكبوت: 26).

وذهاب إبراهيم إلى ربه لا يعني أنه سيصعد إلى السماء, ولكنه يعني الذهاب إلى مكان يعتبر بيتا للرب جلّ وعلا, وهو ما ذهب إليه إبراهيم ولوط ومن خرج معهم: ونجّيناه ولوطا الى الارض التّي باركنا فيها للعالمين(الأنبياء: 71).

والأرض التي بارك الله فيها للعالمين المذكورة في القرآن هي التي فيها بيته الحرام: انّ اوّل بيت وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركا وهدى للعالمين (آل عمران: 96 ).

فإذا كانت أورشليم لم تظهر للوجود في فلسطين بعد, إضافة إلى أن أول بيت وضع للناس وباركه الله للعالمين هو في مكة, أفلا يعني أن الأرض التي بارك الله فيها لكل الناس والتي قصدها إبراهيم وبرفقته لوط ومن آمن معهم, هي مكة, والتي لا بد أنها قريبة لموطن إبراهيم الأصلي؟

ويكون إبراهيم خرج من قومه القاطنين أصلا في شبه الجزيرة العربية وفي غربها تحديدا, إلى مكة التي تقع قريبة من تلك المنطقة والمعروفة لديهم, لسبب وجيه هو الهرب بدينهم خوف الفتنة وخوف الاضطهاد والحرق بالنار الذي توعدهم به قومهم.

ولو كان إبراهيم في العراق كما يقول التراث اليهودي الذي سنأتي عليه لاحقا, فبإمكانه الهرب من عشيرته إلى مكان آخر في العراق الخصيب, ولن يحتاج إلى قطع مئات الكيلومترات عبر الصحارى القاحلة من العراق إلى فلسطين, التي لم يكن فيها بيت لله ولا مكان مقدس في ذلك الوقت.

وعندما وصل إبراهيم إلى مكة, اهتدى إلى مكان البيت العتيق, يقول تعالى: وإذ بوّانا لإبراهيم مكان البيت ان لا تشرك بي شيئا وطهّر بيتي للطّائفين والقائمين والرّكّع السّجود (الحج: 26).

الذي يبدون أنه قد استخدم لعبادة الأوثان, وهو ما تشير إليه الآية بالقول: وطهّر بيتي للطّائفين والقائمين والرّكّع السّجود (الحج: 26).

كما يكون قد لحقه الخراب ولذلك قام إبراهيم بعد سنوات وبعد أن ولد ابنه إسماعيل وبعد أن أصبح في سن تمكنه من معاونة والده بترميمه وإعادة بناءه: واذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وسماعيل ربّنا تقبّل منّا انّك انت السّميع العليم (البقرة: 127).

وقد أصبح لإبراهيم مقام يصلي فيه عرف باسمه من كثرة تواجده: فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فان الله غنّي عن العالمين (آل عمران: 97).

وهو ما يعني إن إبراهيم كان يقطن قريبا من مكة.

وفي إحدى المرات التي تواجد فيها إبراهيم في الحرم مع ابنه إسماعيل, حدث ما عرف بالرؤيا وكبش الفداء: فلمّا بلغ معه السّعي قال يا بنّي اني ارى في المنام انّى اذبحك فانظر ماذا ترى قال يا ابت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصّابرين. فلمّا اسلما وتلّه للجبين. وناديناه ان يا إبراهيم. قد صدّقت الرّؤيا انّا كذلك نجزي المحسنين. انّ هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين (الصافات: 102_108).

ويبدو أن الحادثة وقعت في موسم الحج فأصبحت الأضحية عيدا متبعا كما تقول الآية "وتركنا عليه في الآخرين". أي ذكرى متبعة في الأجيال اللاحقة, والتي لا زال المسلمون يحيون ذكراها بذبح الكبش كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ولولا أن اليهود الذين يعملون بالتقويم القمري, مثل المسلمين, يزيدون شهرا كل ثلاث سنوات, لتوافق عيد الفصح مع عيد الأضحى لدى المسلمين الذي هو اليوم نفسه الذي حدث فيه فداء إسماعيل.

...................................هام جدا.............

والقرآن لم يأتي على ذكر هاجر ولا بئر زمزم ولا قصة تسكين هاجر وإسماعيل بعيدا عن سارة. وكل ما جاء في تراث المسلمين حول هذه المواضيع مبني على أقوال المؤرخين الذين استمدوا معلوماتهم من كتب اليهود.

قارن مع ما جاء في كتاب الكامل في التاريخ أو سيرة ابن هشام تحت عنوان ولادة إسماعيل عليه السلام مع الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين لملاحظة الاقتباس الحرفي. وقد جاء في ذلك الإصحاح أن سارة, التي كانت قد طلبت من إبراهيم التسري بهاجر جاريتها عله يرزق بطفل, وقد عادت بعد أن رزقت هي بولدها إسحاق وطلبت من إبراهيم أن يطرد هاجر وولدها إسماعيل: فقالت لإبراهيم اطرد هذه الجارية وابنها, لأن أبن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق. (الإصحاح الحادي والعشرون, سفر التكوين).

فبكر إبراهيم صباحا واخذ خبزا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر واضعا إياهما على كتفها والولد وصرفهما. فمضت وتاهت في برية بئر سبع (التكوين: الإصحاح الحادي والعشرون: 10). فإبراهيم لم يصحبها لمكان يبعد مسيرة شهر, ولم يؤمنها بمؤونة تكفي لسفر طويل, وكل ما أعطاها قليل من الزاد وقربة ماء. ويكمل النص اليهودي القصة بأن هاجر قد اهتدت إلى بئر ماء في الصحراء وأنها سكنت في تلك البرية التي تسمى فاران مع ابنها حتى كبر وتزوج بفتاة ممن كان يعرف بمصرايم.

....................................هام جدا جدا..........

وقد اختار المؤرخون المسلمون أن يحوروا في القصة قليلا, وهذا النص الذي أوردوه: وعندما أخرجتها (أي هاجر) سارة غيرة منها, وهو الصحيح. وقالت سارة: لا تساكنني في بلد. فأوحى الله لإبراهيم أن يأتي مكة وليس بها يومئذ نبت, فجاء إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر فوضعهما بمكة بموضع زمزم, فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ضرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس؟ قال: ربي أمرني. فقالت: فانه لن يضيعنا. فلما ولى قال: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم".