كوابيس جنوبية


" أضاجع ليالي المتشحة بالبياض..

أهتك أعذارها.. أغتصب أسرارها..

تسفح لذتي الشبقية.. وعذاباتها المتبقية..

دما.. يثمل جنوبي..

فإذا أحلامه.. كوابيس..

ما أتعسه !

..أنى له بالبلج يذهب عنه سكرات احتضاره؟ "

****************

" لا خير في أم فرطت في جنب أبنائها و ألقت بهم في عرض الموت دونما اكتراث"



ازدمل الليل البهيم بدثره، وبسط رداءه الحالك على كل الأرجاء..فلم تعد تصدر عن أجسادهم المتحفزة إلا وقع خطوات شريدة، متلاحقة وغير منتظمة قبل أن تبطئ حركتها لتشل تماما.
طفقوا يلملمون أشتات أنفاسهم الضائعة، وقد غازلت أنوفهم رائحة أرض داستها أقدامهم امتزجت في ألفة مع نسائم خريفية أفرجت عنها أشجارتين متناثرة.
ولكن ما العمل ؟ صرخ بمرارة وانكسار من أبعد نقطة في أعماقه..ليلتفت إلى رفيقيه وهويقول:
- لو أن السماء جادت قليلا على القرية لما اخترنا هذا الطريق..ولكن..لاحيلة لنا.
وأدركوا انهم كالطيور إذا أكرمت قرت وإذا أهينت فرت
تبادل الثلاثة نظرات قلقة..حائرة ما عتمت تتقد شررا لفح وجوههم الصبيانية الصغيرة وقد توحدت مشاعرهم عزما اليوم كما بالأمس البعيد، حياة تقاسموا أشواطها بين انقطاع مبكر عن المدرسة كغيرهم من أبناء قريتهم عرجوا من بعده على الحقول..والأرض اعطها تعطيك، وهي العرض فلا تفرطوا في أعراضكم" تعسا للأيام..وسحقا لها من أقاويل".
أومأ إليهم بحركة من رأسه بأنهم قد دنوا من الوادي..ورأوا كل ما سبق وسمعوه عن الوادي العجيب..وادي الأحلام.. فكل من ينجح في عبوره وتكتب له النجاة من مقالبه ومثالبه تشرع له الجنة أبوابها..فألفوه هادئا، ساكنا وقد صفت صفحته كما بدا صفاء قعره على ضوء البدر المستحي، فتمثل لهم فاردا أذرعه كأنه شيخ سمح اليد استعد في أريحية لضم كل مريديه.
- لا لا أستطيع أن يكون مصيري كمصير قدور.. وأحمد.. و...، لقد أطفأ ماء هذا الملعون جذوة الحياة فيهم وهم بعد صغار، سأعود ..إنه الموت اتفهمون ما الموت..؟ والحياة شيء مقدس علينا أن نصونه، وأن نعش في رغد أو في مهانة لايهم..المهم أننا أحياء.
حاولا إقناعه عبثا، فلم يستطيعا ثنيه عن تشبته بالعودة ثم ضماه في حرارة وصمت.. وودعاه.
- يا للجبن..فحياة الجوع تقضي بان يجازف الإنسان في طريقه نحو الأفضل..وأهلنا أليس الموت البطئ هذا الذي يحيق بهم من كل جانب بعد أن شحت السماء ؟
- فليعد إن أراد للمآسي أما نحن فطريقنا واضحة...والعربي لم يكن محظوظا طول عمره..اعجب لقريتنا الميتة تخشى المنايا.
ثم التحقا بآخرين فقصدوا جميعهم الوادي في تردد و أمل.
* * * * *
راح يتفحص المكان بعينين مثقلتين أعياهما الأرق والإجهاد...ولم يخطر بباله قط انه سيكون يوما على مثل حاله تلك من الترقب والخوف والجوع..وهو الذي أمضى حياته السالفة رغم قصر ذات اليد كما شاء، وهاله تواجده بمفرده في هذه الرقعة الباردة من الأديم الغريب، وتساءل في يأس وحنق وهو ينظر إلى الوادي الهادئ.
- أين ذهب الباقون ؟
واختنق السؤال بداخله ليتلاشى دوي صرخة ارتدت بأحشائه.. ثم شرع يقلب المكان من حوله وقد بلغ منه الإعياء مبلغا عظيما بقلب متوجس يقظ متحفز لكل طارئ فاعترت جسده رعشة قوية لينتفض من مكانه، وقد أحس ببرودة تسري في عروقه..فتملكته رغبة منكسرة في الصراخ والنواح.. ولم يملك إلا أن يتمنى شيئا واحدا أوحدا..أن يضم أمه إليه كما تعود عند الشدائد يطلب دفأها.
شعر بيد باردة تجره من قفاه، فاومض عينيه في الظلماء ثم وصوصهما، فتحسس مع الدمس وجه أمه بتجاعيده المقعرة الجافة، ونتوءات عظامه البارزة، وتبين صوتها المحشرج.
- العربي وبوشتة في الخارج.
ترك كوخه ليجدهما في انتظاره..واستندت الأم العجوز بهيكلها المقوس إلى عصاها ترقبهم إلى أن ترعرعت من بين ناظريها أشباحهم الثلاثة تهدج في اتجاه الشمال.

عبدالسلام المودني