الخوف الآخر ..
تشرق الشمس كعادتها , ليبدأ معها خوف من نوع آخر .. المدرسة تفتح أبوابها كل صباح .. لتغلق في مساء اليوم ذاته .. الأيام كانت رتيبة طويلة .. لكن ذات يوم تغير شيء ما .. شعرت باهتمام لافت نحوه .. قال لي المدير بنبرة هادئة كما عهدته , و كان غير مكترث :
- لقد تعينت عندنا معلمة جديدة من خارج منطقتنا , اسمها إيلاف .
إلا أن مشاعري شاركت مشاعره بعدم الاكتراث , أجبته بلا مبالاة :
- أهلاً و سهلاً بها .. جميل أن تتغير الوجوه ..
مضت الأيام و نحن الزملاء و الزميلات نعمل بصمت , بهدوء ظاهري كأسرة واحدة , نلقي لبعضنا كلمات المجاملة المهذبة هنا و هناك , ثم ينصرف كل إلى صفه بدون ضجيج , إلا أن تلك المعلمة الجديدة كانت شابة من نوع آخر , و بدأ وجودها يغرس في أوصالي ذاك الخوف الغريب .
ذات صباح طرقت باب غرفة الإدارة كعادتي بهدوء
, ثم دخلت قبل أن أنتظر الجواب بالدخول , دخلت , فانبعث من خلفي القليل من النور في الغرفة المظلمة , لم يلبث أن زال بعد إغلاقي الباب ثانية .. كان المدير كعادته قابعاً خلف طاولته الخشبية القديمة .. وحده , يجتر ساعات الروتين الطويلة .. و مع اقترابي نحوه , بدأ يتمتم بكلمات هادئة , في محاولة لكسر ذاك الروتين المميت , يحاول مرهقاُ جعلها معبرة دافئة , مع ابتسامة عريضة , و سلام حار , ليبدد آثار الجو الكئيب , قال و هو يهم بالوقوف : تفضل بالجلوس .. و تناثرت من ثنياته قطع من الكلمات .. تائهة , و أخرى مبهمة , تخللها نفث الدخان المنبعث من سيكارة تكاد لا تنطفئ , و أومأ لأبي حسيب ( المستخدم ) لعمل الشاي كالعادة .
و كلماي حان موعد الدرس , يبدأ المعلمون و المعلمات بجر أقدامهم المتثاقلة في الممر المظلم تجاه الصفوف , و المدير يقف بدوره على باب الإدارة , يرمقهم بنظراته , و كأنه يقول : بسرعة بسرعة .
صف تلك المعلمة كان قرب صفي
, فكنت أسمع طوال الدوام خلجات صوتها الأنثوي القوي .. الممرع بضوع الطفولة , يضج حيوية و شباباً .. و أحياناً يمتزج بعصبية .. فأسمع تهديداتها بقلع عيني هذا و شق فم ذاك .. و أنا و خلال إعطاء الدروس لتلاميذي .. لا أزال أستمع , و كأن صوتها أصبح جزءاً من دروسي .
و عندما ينقطع كلامها , تبدأ تكتكات طبشورتها المعتادة على السبورة , و كأنها بدأت بعزف مقطوعة أخرى , ذات إيقاع مختلف , لكنه متماسك , متناسق , و يخفت صوت تلك التكتكات رويداً رويداً , ليرتفع صوتها مرة أخرى .. و عندما نسمع صوت الجرس , تتداخل الأصوات كلها بشكل فوضوي , تلاميذ يصرخون و يصيحون : فرصة , و المدير يصيح على هذا التلميذ أو ذاك , و المعلمات يحزمن حقائبهن الجلدية الصغيرة استعداداً للخروج من صفوفهن ليجتمعن في أحد الصفوف , و تخرج المعلمة إيلاف بهدوء كعادتها , فينير وجهها المضي كل أركان الممر الطويل , و تتلألأ أضواء باهرة للحظات قبل أن تدخل في أحد الصفوف للاستراحة مع زميلاتها , أجواء الريف التي نشأت بها , و تنسمت عبيرها , جعلتها تحس بكبرياء هادئ , و مع كل ذلك , أبت خصلات شعرها .. أبت على الخروج من تحت الحجاب .. لكن تلك العينين الخضراوين الحالمتين بمساء رومانسي , عذب , رائق , في ذاك الوجه الأبيض المنير طغت على ما سواهما .. و أحياناً تدخل الإدارة لطرح استفسار ما على المدير ببراءة و عفوية , فأحاول في كل مرة أراها تتكلم أو تستفسر لتضفي على عملها طابعاً أكثر تكاملاً , أحاول أن أشكرها , لكن إحساسي بالعجز يجعلني أهز رأسي و أحرك رموش عيني كطريقة وحيدة للتعبير عن ذاك الشكر و الامتنان على همتها العالية , إلا أن هواجسي تحتار من جديد , أتذكر أن الأيام الرتيبة الطويلة حولتني إلى مجرد رقم في هذا المكان , في هذه المدرسة , أؤدي فيها واجبي , أنتظر ساعة دق الجرس بالانصراف .. لأغادر و في قلبي ذاك الخوف الآخر , و الذي يمتزج فيه الأمل أحياناً أخرى , لكنه أمل غامض هو الآخر .. يشعرني بالفرح و السعادة أحياناً , إلا أن أحاسيس الخوف تعاود هجمتها الشرسة , لأعود إلى تلك الزاوية المظلمة و ذاك التقوقع الآمن .
و كان يغمرني في كل مرة
, ذاك الشوق , و تلك الرغبة في النظر إلى وجها , و عينيها طوال مدة حديثها مع المدير , كأنني أراها للمرة الأولى , لكنني أكبح جماح نفسي كي لا ألفت نظرها , و أجعلها تسوء الظن بي , أتأمل يدها البضة و هي تتلمس القلم لتوقع في أول النهار و في آخره , و نور وجهها يفرش بهاءه على الطاولة العتيقة , فأنسى أن هناك أناساً غيري , أو بالأحرى لا أراهم , لأن النور الدافق من ثنايا ذاك الوجه و تلك اليد يطغى على ما سواه , و على صفحات قلبي و في إحساسي الدفين , حيث يعمر الخوف , يلح سؤال بل أسئلة لاهثة تريد جواباً :
- من أي عالم أنت أيتها الآنسة ؟
- هل لك أصدقاء و صديقات ؟- ماذا تحبين أكثر شيء ؟
- هل تحبين الموسيقا و الغناء و العتابا ؟
- هل تحبين البحر و الصيف و الركض في جنبات كروم العنب ؟
- هل تتمنين أن تشنق تعاسة الإنسان في مساحات الأبد السحيق ؟ ..
إلا أن هذه الأسئلة الحائرة سرعان ماتتلاشى على وقع كعب حذائها الثقيل و هي تغادر غرفة الإدارة , ليعود كل شيء إلى طبيعته , الظلمة في كل مكان , فلا تميز بين شخص و آخر , فتصبح الكلمات بيننا خرقاء , خالية من أية حياة , لأن تعابير الوجوه لم تعد ترى .
و في إحدى المرات , و كانت كل هذه الخواطر تتزاحم بلا منطق في مخيلتي , تتباعد ثم تقترب بلا تسلسل منطقي , و أنا أمني النفس بنظرة منها , علها تأخذني إلى مجهولها المترامي الأطراف , المتنوع جغرافياً كالقارة السمراء .. أخيراً نلت ما أردت , رأيتها تنظر إلي و كأنها تريد أن تسألني عن شيء , تسألني أنا هذه المرة و ليس المدير , استعددت للجواب , و بسرعة خيالية , أخذت مخيلتي جاهدة تلتقط الكلمات و تجمعها من هنا و هناك .. ليرد لساني الجواب المناسب , لكن يداً قوية تناولتني بعنف , و بلحظة انقضت على كاهل جسدي المنهك , شعرت أنها ستسحقني , و قد حصرتني بين أصبعين ضخمين , تصدر من أظافرهما لمعات كلمعات السكين الحاد , و تنهال بي على إحدى الصفحات بقسوة , فتسمع لها صريراً حاداً , و كأنها تعاقب بجسدي كل أحاسيس العالم , صرخت لأول ولهة , ثم تلاشى صراخي , و بعد هنيهات شعرت و أنا أودع آخر خيوط الضياء في عتمة تلك الحقيبة , أن الظلمة أحياناً أفضل من النور , إذا كانت في قلب المساحة الواسعة لاستيعاب كل شيء .. الحب و الأمل و الخوف .
من المجموعة القصصية
( و أزهر الحب ) لصاحب هذه المشاركة
منبـج في 5 / 12 / 2009 م