نمني النفس بكيف كنا ، ونمارس إسترجاعا مرضيا وليس مجرد إستشهاد بالأمس والأسلاف ، فننكص بحضارتنا الآن كما ينكص الهرم إلى أيام الطفولة ، ونقحم أشباح عظمائنا في حاضرنا كي لا نحس بالغبن والوحدة في عالم يزيح المتأخرين إلى هامشه وإلى الخروج منه ، نقحم غصبا بعض الأفذاذ من الأولين فيما يحدث من تغيرات فكرية حاضرة في يومنا ؛ نضع إبن خلدون دون وجه حق مع علماء الإجتماع وهو الذي كان إبن فكر وواقع مغاير وأجواء مختلفةٍ، لكن حبنا لخلط الأشياء سيجعلنا نضعه مع علماء النفس والذرة كي لا تبقى الساحة فارغة من وجود عربي، ونأتي بإبن رشد وبإبن سينا والخوارزمي والمعري …. لنوزعهم على إختصاصات حديثة لم يكن لهم علم بها لأن نبوغهم الفكري يظل ببريقه على غبائنا الحالي ، فنعمل لتخفيف هذا التواري المشين إلى الوراء بترديد أساميهم للعالمين لأنها محترمة وتعطي للآخر فرصة لإعادة ترتيب أوراقه عن تأخر الحضارة العربية .
تقتصر المهمة على هذا العمل الذي لا جهد لنا فيه ، فنكون كمن يترجى من الضيف البقاء مدة أكثر في البيت رغم أن ساكنة آخرى إحتلته وفكر آخر ، فنبحث في القبور الماضية عن الأسياد ونحملهم مالم نستطيع حمل أعبائه … من نقل أسماء الأسلاف للأبناء وللأحفاد إلى تأسيس جمعيات سلفية فكريا ودينيا إلى الدوران غير المنتهي حول الحجارة السوداء لمعالم الحضارة العربية والإسلامية سابقا ، هكذا نلف ونلف لنسمع من الآخر المتزعم كلمة تنويه مقتضبة لبعض الذين آسروا العالم بفكرهم وأدبهم منا …. في كل هذا لا نتأمل خداع كلمة *الماضي* التي نولع بها والتي غالبا ما تكون خيط الأمل ليس لجعل الحاضر مثل الماضي وأحسن لكن لخنق هذا الحاضر بسبب تضخم الماضي في ذواتنا ، فنجلس عاجزين عن إلاتيان بأي شيء يسرق من الحالي إعترافا بنا نحن وبما قدمنا وليس بأجدادنا .
المجاز والصور المتنتهية الصلاحية هي ما يحكم المشهد الفكري المغربي والعربي عموما ؛ ستحتفل جامعة بذكرى وفاة إبن رشد وتأتي بالمحاضرين في فكره وخزانة المكتبة لا تتوفر على كتب له لأن لا أحد بات يقرأ وطلبة الفلسفة منشغلون إلى حدود غير مفهومة بتعريف الفلسفة … ، سيشرع محاضر في تقديم المقدمة الرائعة لإبن خلدون لطلبة لا زالوا لا يميزون بين النكرة والمعرف وما الإعلال والإبدال وكيف لعلم البلاغة أن يلتحم مع خيال الكاتب ويأتي في صورة آخرى ليس ضروريا أن تكون قواعدية …، سيعرف أهل الرياضيات الخوارزمي إسما فقط ويرددونه حين غبنهم الشديد بتأخر حضارتهم في هذا الإختصاص ناسبين له إبتكار الصفر فقط دون أن يعرفوا أو يقرأوا -وهم المتخصصون مثله في الرياضيات - شيئا له … وفي كل إختصاص فكري وعلمي وأدبي ستجد من يمد يده إلى جراب الماضي ليأتي بأحد الأجداد مستشهدا به على نبوغ الحضارة العربية وستسمى دو نشر بإسمه وملتقيات بإسمه دون أن يعمل أحد على إعداد الطريق لفهم ما أتى به هؤلاء ، كي نكون على أقل تقدير في نفس المحجة التي كانوا بها وإن لم نصل إلى مصافهم .
إذا كان التفكير البشري يراكم بعضه ويستفيد لاحقه من سابقه ويضيف إليه وعليه أشياء أكثر ومعلومات، فإن الفكر العربي ثبت حيث هو ولم يغادر القرون الأولى من هجرة الرسول ، إنه فكر إسترجاعي يستعمل مقولات متغايرة لنفس الفكرة الأصل ويسعى لوضع الحاضر تحت منظار حلول الماضي … هكذا نجد من يجعل سياسة الأولين حل لنزاع السياسي العربي الحاضر ولتيهه الكبير ، ويخضع مشاكل من صميم الحاضر لبعض حلول الجماعات الفكرية الأولى من معتزلة وأشاعرة دون أدنى مراعاة للهوة الزمنية بين الزمنين … إنه ببساطة الإستيلاب الفكري الذي جعلنا لا نرضى باللآخر رغم معقولية فكره الحالي ونرتمي في فكر الأسلاف رغم أنه جاء مرتبطا بزمنهم الذي أبدعوا في جعله ملكا لهم ولعظمتهم . حتى الأدب هذا الذي لا يخضع إلا للإحساس المرهف وبراعة الأديب والشاعر لم يتقبل جهابذة التشبت بالأصل بحلته الحالية إلا بعد صراع مرير مع المتنورين ؛ فكم هي الحروب التي خاضعها عشاق الشعر الحر والقصيدة النثرية وقيصدة التفعيلة والأدب العابر للأجناس والتجريب مع جامدي الشعر العمودي والأوزان المرهقة والبحور وأدب الرسائل والمقامات والتنميق الكتابي المصطنع ؟؟؟؟
لو كانت هناك إمكانية لجلب ألارواح من عالمها البرزخي وإعادة تشكيل أصحابها أجسادا جديدة لما تأخر المستلبون بالماضي عن جلبهم إلى الحاضر وإرغامهم على إيجاد حلول ناجعة للمشاكل العديدة التي يشهدها كل قطر عربي ؛ مشاكل فهم الدين بشكل سوي دون إفراط أو تفريط ، مشاكل في تسيس أمور العباد ، مشاكل في إنارة العقول بفكر فلسفي متسامح ، مشاكل في الأدب والفكر والثقافة عموما …. هيهات .. لكل عصر رجاله ونحن في عصر رجاله الذين يسيرون السفية أشباه رجال ، فلا أحد يعلم لما هو على رأس هذا الإختصاص أو القطاع سوى أن فرصة حملته إليه .
أحيانا يبدو لي أن الأجداد الذين حكموا العالم يوما ما لا يحبون قبورهم لأنهم غير مرتاحين فيها ، فكيف يرتاحون وهم يشاهدون خلفا لهم أكثر أمانيهم أن يشتروا ويقرأوا ويشاهدوا كل ما يأتي من الآخر ، ويحكموا بمثل حكم الآخر دون أن تكون لهم أخاصة بهم من وحي موادهم الرمادية في رؤوسهم والتي يبدوا أنها ذابت بفعل العري الكامل والإختباء وراء النقاب .