سبتمبر 1970 .. موت الحلم

--------------------------------------------------------------------------------





رجاء
أرجو ممن يحمل فكرا مخالفا أن يذهب بعيدا ويدعني مع أحزانى فى سلام
اعزائى
عادة لا أشارك الآخرون أحزانى أبدا
فانا أشارك الآخرون مشاعري وافراحى وغضبى واحلامى وآمالي
ولكنى أفضل أن احتفظ باحزانى لنفسي
وفى مثل هذه الأيام من كل عام اختفى فى غرفة مكتبى كثيرا وحيدا مع أحزانى
واستعيد ذكريات طفل صغير يعود من مدرسته ثائرا غاضبا مثل كل المصريين مما يحدث لإخوانهم فى فلسطين
وفى هذا اليوم يذهب الىفراشه ليلا لينام ومعه أحلامه الكبيرة
فقد كان يتعجل الأيام ليكبر وينضم إلى الرجال ويقدم نفسه للريس ويشاركه العمل والكفاح
كان يحلم أن يكون مثل الاسكندر يغزو العالم كله لينشر فكر الريس
كان يحلم أن يقود جيوشه إلى تحرير فلسطين
ونام ونامت معه أحلامه الكبيرة
وفجأة انتبه على صوت صرخات كثيرة تأتى من الخارج وصوت أنين مكتوم ياتى من الداخل وغادر غرفته متسائلا عما حدث
ولن ينسى أبدا وجه أبيه حزينا
يا اله الكون
حتى هذا الأب العملاق الذى لم يكن يسمح لهم أن يعرفوا انفعالاته يسمح لهم أن ينظروا إلى وجهه ويروا أحزانه !!!
وفوجىء بجدته تسأل أبيه أنت زعلان علشانه !!
وفوجىء أكثر برد أبيه
إذا لم نحزن على عبد الناصر فعلى من نحزن !!
وانتبه على صوت أنور السادات ياتى من الراديو فى الصالة الكبيرة
( فقدت الجمهورية العربية المتحدة وفقدت الأمة العربية وفقدت الإنسانية كلها ، رجلا من أغلى الرجال وأشجع الرجال واخلص الرجال ، وهو الرئيس جمال عبد الناصر الذى جاد بأنفاسه الأخيرة فى الساعة السادسة مساء اليوم 27 رجب 1390 الموافق 28 سبتمبر 1970 بينما هو واقف فى ساحة النضال يكافح من اجل وحدة الأمة العربية ومن اجل يوم انتصارها ..)
وانسحب الأب حزينا إلى غرفة المكتب ( يبدو أن الانسحاب بالأحزان إلى تلك الغرفة عادة متوارثة فى هذه العائلة )
وجاءت هتافات المصريين من الشارع الغاضب
يا ديان يا ديان عبد الناصر فى الميدان
أبو خالد يا جمال بكره نحرر القنال
ثم جاء هتافهم الحزين
الوداع يا جمال يا حبيب الملايين
ولحظتها شعر ذلك الصبي بالغضب الشديد
كيف سمح لنفسه أن يموت قبل أن انضم إليه
فلحظتها أدرك ذلك الصبي أن كل أحلامه ماتت
والغريب انه رغم أن كل من فى ذلك المنزل بكى عبد الناصر إلا أن ذلك الصبي لم يذرف دمعة واحدة
فقد ماتت الدموع فى عينيه
ومن يومها
وأنا فى مثل تلك الأيام اختلى وحدي فى غرفة المكتب حيث يعود ذلك الصبي بكل أحزانه
يعود حزينا ويجلس وحيدا مع صورة ذلك الحلم الذى مات ويعتذر له كثيرا
آسف يا ريس كنت صغيرا ولم أتمكن أن أكون بجانبك
آسف يا ريس كنت صغيرا ولم أتمكن أن أفتديك بحياتى
آسف يا ريس كنت وحيدا وأنا أراهم كل يوم يقتلونك وهم يقتلعون كل ما زرعت ويهدمون كل ما بنيت
آسف يا ريس كنت وحيدا وأنا أراهم يقتلونك كل يوم وهم يهدمون فى قلوب المصريين كل القيم النبيلة والجليلة
آسف يا ريس كنت وحيدا وأنا أراهم يقتلونك كل يوم وهم يفرطون فى كل ما تركت
آسف يا ريس
وعند هذه اللحظة سمعت صوت ضحكة اعرفها جيدا تأتى من الخارج
ولم اندهش وهى تفتح باب المكتب
فلا يوجد غيرها من يمتلك الجرأة على أن يقتحم وحدتى
إنها ابنتى الحبيبة مها أحب أبناء العائلة كلها إلى وأقربهم إلى قلبى
وفوجئت باحزانى
وجلست وقالت أحكى لى عنه
وحكيت لها كثيرا وطويلا عنه وكيف انه كان إنسان مجرد إنسان
ولكنه كان يحب مصر
وكيف انه حمل روحه على كفه وثار من اجلنا
وكيف كان رجلا وهو يقف ويتحدى العالم ويعلن تأميم قناة السويس
وكيف كان رجلا وهو يصرخ من فوق منبر الأزهر أثناء العدوان الثلاثى
إذا كان قد فرض علينا القتال فلن يفرض علينا الاستسلام
سنقاتل ..سنقاتل ..سنقاتل
وكيف كان رجلا وهو يبنى السد العالى
وكيف كان رجلا وهو يتحمل مسئولية الهزيمة ويعلن تنحيه على مناصبه وانه يتحمل ل المسئولية عن الهزيمة
وكيف كان رجلا وهو يعود بناء على رغبة المصريين ويقف شامخا متحديا
ما اخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة
وحكيت لها كيف خذلته وكيف أنى كنت صغيرا ولم استطع أن أكون بجانبه
وكيف أنى كنت وحيدا وأنا أراهم يقتلونه كل يوم ورغم ذلك حاولت
ولكنى فشلت فى كل ما حاولته
وشعرت بانفعالاتها
ولم تقل سوى كلمة واحدة
اكتب كل ما ذكرت
فقلت لها يا ابنتي تعلمين أنى لم أتعود أن أشارك احد أحزانى
فقالت هى أحزان كل المصريين البسطاء الطيبين الذين تتحدث عنهم كثيرا
اكتبها لهم
وأصرت وحسمت الموقف بقولها لن أتحرك قبل أن تنشرها
وطلبت أن اصحبها فى بعض الزيارات الخاصة
فقلت لها سأنشر بعد عودتنا
وكتبت
هى صرخة حزن اعلم أنها غير مرتبه وأفكار غير مترابطة
ولكنها لم تكن أبدا للنشر
جمال النجار