ـ 12 ـ

لجأ إلى ملاذه الأمين حين تتعثر به السبل. مَن غيره يقدر على الاستماع إلى مزيد من الأخطاء والذنوب ؟ كان أمين لا يشكو من شيء، لكنه يندم على عدم تحصيله للدروس. ثمة مغاليق تستعصي على الفهم. أشار عَرَضا إلى بعض ما يعاني. تحول فتحي بالحديث إلى ما يقلقه، إلى ما أخطأ فيه. يسأله المشورة ! لا يملك أمين حلا لمشكلة صاحبه سوى أن يدع الأمور تمشي خبط عشواء. من العيب أن يفعل هذا، لكن ما حدث قد حدث.
ـ آه من وخز الضمير..
عبارة رددها فتحي كثيرا. قال أمين:
ـ لن تستطيع إعلان الحقيقة..
ـ إطلاقا..
غرق الصديقان في لجة الحيرة. انتهى اللقاء كمعظم لقاءاتهما دون حل. عاد فتحي إلى البيت مارا ببيت ليلى. لمحها وهي تدخل فنكس رأسه ناظرا إلى الأرض. أحس أنها كشفته. أحس أنه وغد، عديم الإحساس. كيف يتصرف إن هي واجهته بفعلته الدنيئة ؟ لكن ما الذي يجعلها تكتشف ؟ ربما خطه يفضحه.
لا.. إطلاقا.. إنه كتب الرسالة بيده اليسرى. كما أنها ليست خبيرة بخطه.
لم يسبق أن كتب أمامها شيئا، لا باليمنى ولا باليسرى. دخلت إلى البيت.
بدأ يرفع رأسه.. لحظات مريرة لم يواجه مثلها في حياته.
ساءت العلاقة بين أم أحمد وجارتها أم عثمان. بدأت الأولى تنعزل عن الجيران، بعد أن كانت تحب أن تسأل عن جاراتها..
بعد أسبوع من الخطاب المكيدة، أعلنت خطوبة ليلى على كويتي. اقتصر الحفل على الأسرة، ولم يدع أحد من الجيران. تلاحقت الأحداث. وعلم أن ليلى تزوجت بعد الخطوبة بأسبوع وسافرت مع زوجها إلى بلده.
احتضن الفراغ. من التفاهة أن يقدم المرء على فعلة حمقاء ثم يندم عليها. ماذا أفدت ؟ لم تظفر بها أنت أو جارك الأسمر. سافَرَتْ إلى بلد بعيد حيث لا يراها أحد. أم أحمد أراحتك من عواطفك المضطربة ونفسك القلقة. حسمت الموقف حتى تستر ابنتها من كل عين شامتة.
بدأ ينعزل عن العالم الخارجي.
يقبع بغرفته ويكتب أحاسيسه المضطربة. بدأ يكتب عن الملاك الذي طار بجناحين كسيرين إلى البعيد. لمن تغرد أيها الطائر المسكين ؟ من يسمع أناتك ؟ حكى لأمين فصول النهاية لمأساة حبه. تجرأ ـ هذا الكتوم ـ ليبوح بقصة حبه الصامتة لبنت الجيران عايدة. لأول مرة يتكلم. ماتت قصة حبه وهي جنين. ماتت لأنها لم تجد من يرعاها. هي قصة حب من طرف واحد. قال فتحي:
ـ لكنك لم تكتب مثل هذه الرسالة الحاقدة.
تنصت إلى حديث أمه مع جارتها عن الألم الذي لحق بها وابنتها من الرسالة الخبيثة التي حملها الموزع. مواجع لم تخطر على بالها، حتى إن أباها حرّم عليها الخروج من باب البيت أو أن تطل من الشرفة. حبسها في البيت وأتى لها بعريس الغفلة الذي طار بها إلى بلده فرحا بصيده الثمين ! كأنه شمشون الجبار هدم المعبد عليه وعلى أحبائه، لكنه لم يهدمه على أعدائه ! لم يواتِ أمها ذرة شك فيه، هكذا استنتج، وارتاح لاستنتاجه. لكن قوارص الندم عاجلته على فعلته التي لا تغتفر. ولا يملك تكفيرا لذنبه إلا كراسة اليومية يكتب سطور الندم على ما فعل، سطورا لا يقرؤها أحد غيره.
بل تعقدت الأمور أكثر، حين قالت له أمه إن جارتهم أشارت على زوجها ببيع البيت والانتقال إلى سكن آخر خارج إمبابة. كاد يعترف بأنه الجاني، دفعه إلى ذلك غيرته على ليلى.
أحس بضيق في صدره. حتى أمه لا يستطيع أن يقول لها شيئا.. كتم مواجعه، حتى ما باح به لأمين لم يفده بشيء.. اختلى بنفسه أشبه بالعائش في جزيرة معزولة عن البشر، ومن حوله تلاطمت أمواج عاتية. انشغل بقراءة المجلات القديمة التي يحتفظ بها. أدار المذياع وأنصت إلى برنامج الأغاني الخفيف "من كل فيلم أغنية". تسلى بأغنيات خفيفة ممتعة. ثم عاود الكتابة عن محنته في اليوميات التي خص بها نفسه لا يطلع عليها أحدا.
لن يريحه إلا كتابة اعتذار لليلى. لكن ليلى تعيش الآن في الكويت، ولا يمكن أن يسأل عن عنوانها، أو يكتب لزوجة غيره شيئا. هل يعتذر لأمها ؟ كيف يفضح سرا ستره الله؟ عثمان هذا الغريم بدا عليه أنه حرّم على نفسه الوقوف بالشرفة، ربما حذره أبوه أو أمه من دخولها..
كل الطرق للاعتذار مغلقة. كل الطرق الممكنة للبوح بما فعل لا يجرؤ على الاقتراب منها، سوى طريق واحدة هي كتابة أحاسيسه على الورق. مجرد يوميات يدونها ويشبع بها نفسه بالقراءة..


(يتبع)