مع الموت
أرى قبر نحام بخيل بماله
كقبر غوي في البطالة مفسد
(طرفة بن العبد)
أرانا موضعين لأمر غيب
و نسحر بالطعام و بالشراب
عصافير و ذبان و دود
و أجرأ من مجلحة الذئاب
( امرؤ القيس)
هل الموت يوحد بين كل الوجوه ؟ ........ و هل الموت جسر للعبور من أرض إلى أرض ؟ ........ أم إنه عالم جديد فيه غير كل ما شهدناه في هذه الحياة الدنيا المشوهة التي عشناها ؟
الموت الذي صورته خيالاتنا الطفولية التي استقيناها مما كان يملى علينا بكرة و أصيلاً ، و نشهده أينما حللنا أو ارتحلنا ، هيكلاً عظمياً مروعاً حاملاً فأساً يلاحق بها البشر الآمنين الوادعين فيسلبهم أعز ما لديهم ، ثم يدعهم جثثاً هامدة لا حياة بها و لا شعور .
و على كثرة ما عرفنا و رأينا من بعد ، ظلت الصورة في أذهاننا قريبة مما تعودناه إن لم تكن نفسه ، ولم يغيرها إلا الأفق الأزلي الغروبي الذي عرفه بعضنا فكان شمس نفوسهم التي غزتها فتغلغلت بها و خلقت فيها الحياة من جديد ، وكان الموت عندهم ظلالاً ليلية تصنع خفقان روح و وجدان ، بدل الخوف الذي رسمته في مخيلاتنا حكايات الجدات و أقاصيص السهرات الشعبية .
ففي الموت سمو لا تفقهه العقول التي نبتت و أينعت في مراتع الحياة الشهوانية ، و لو أدركته لتدرجت في سلالم الروح حتى تبلغ غيوم السموات ، لكنَّها أخلدت إلى ما ارتاحت إليه ، فبالموت تصل النفس قمة توهجها و إشراقها ، وفي اللحظة التي تفارق فيها الروح الجسد يكون الاتصال قد بلغ ذروته بين البشرية و الألوهية في نفس الإنسان ، و آل الصراع بين شهوات الإنسانية و آفاق الروحانية توافقاً مطلقاً بل اتحاداً لا فكاك له ، و لذلك كله وقت واحد لا بديل له ولا شريك ،هو لحظة الموت العظيمة.
و الموت ساعة تتحد فيها النفوس الإنسانية كلها ، برها و فاجرها ، و سيدها و عبدها ، و قويها و ضعيفها ، لأن عالم السماء لا مكان به لتقطيعات البشر وتصنيفاتهم التي ابتدعها بعض منهم و سايرهم بها من تبقى ، حتى غدت شريعة و قانوناً مخالفته عند كثير من الناس كفر ما بعده كفر ، فتتوحد الإنسانية التي نشأت من فرد واحد لترتد من بعد كفرد واحد في الموت و الفناء كما كانت في النشأة و الخليقة ، ذرة من حمأ مسنون نفخت فيها الروح فدبت بها الحياة .
و الموت فراق و لوعة ، لكنه تألق الإنسان المطلق الذي يعجز عن فهم كنهه أكثر الناس إلا من أوتي فكراً ، و ذلك ما بذلت شرائع الأديان جهودها لإيضاحه ، لكنّ سوء فهم البشر لمصطلحي الجنة و النار الخالدتين أضاع عمق الإدراك لهذه المعاني ،فأضحى الموت إشعاراً بقرب الحساب و العذاب و الأهوال فحسب ، دون أن يكون بشرى بوادي الحقيقة الذي لا يضيئه سوى نور الذات الإلهية الأعلى ، و تملؤه نسائم الروح و مزامير التسبيح الملائكية ، و قيثارات الألحان السماوية التي لا تنتهي ولا تزول ، ولو فهم الناس ذلك لطاروا بجناح الشوق دون إبطاء إلى مناهل الخير و جداول الإحسان يعبون منها ما استطاعوا ، و لفارقوا عالم الشر و تلاله الموحشة نفوراً منها و ابتعاداً ، و لآل الخوف من العقاب كراهة لما يوجبه لا رهبة و فزعاً من آلامه ، و لعم الخير هذه البسيطة بعد أن يعم نفوس ساكنيها و تصير أرواحهم طيوراً مغردة تبث ألحان الحب و الفرح و الجمال حيثما حلت .
تلك شاعرية الموت ، و الرؤية التي تخفف وطأته على من يهابونه ، و لو انتشرت بين كثير ممن يرددون ما يشبهها لكان فهمهم للحياة كلها مختلفاً ، و لكنّ من الناس من يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، و يزعمون أنهم عالمون وهم في الحقيقة جاهلون ......... و كثير ما هم ، و أولئك الذين يقفون من بحر الحقيقة عند شاطئه ، أما الذين يغوصون فيه فليتهم يرجعون ليخبرونا ما رأوا ، إذن لكنا في حال غير هذه ، و لعرفنا الوجود الذي نحن منه بدل أن نخبط فيه على غير هدى ، كأنما سكرت أبصارنا أو نحن قوم مسحورون ، لكن لعل قدرنا رأى الخير بما نحن عليه فأبقانا كذلك ، فرب صاحب عينين عمياوين أوعى و أدرى من صاحب ألف عين مفتوحة.