(قصة واقعية)
عرفتها من بعيد ، فرأيت فيها الحسن كله ، و كانت إلى حسنها ناعمة رقيقة ،و مرفهة لم تعتد العيش إلا في حضن الثراء و على وسائد الترف .
عاشت معزولة عن العالم حولها ، يفرض والدها عليها طوقاً من حديد خشية أن تخالط من لا يخالطون ، فباتت تمضي أكثر أوقاتها وحيدة ، دون أنيس أو صديق
كوردة ذابلة تأخر عنها ساقيها زمناً .
وكان والدها ذا نزعة تجارية طامحة ، لم تفارقه في شؤون بيته ولا سيما شؤون ابنته ، فقد وقف في وجه كل خاطب لا تروقه قدرته المادية ، فعسر على الحسناء المسكينة النجاة من سجنه سنوات عديدة .
إلى أن أتاها القدر بشاب بهي الطلعة ، رزين ، على خلق ودين ، عمله جيد و إن لم يكن جيداً بالقدر الذي يرضي والدها ، فعلقت بأسباب منه وعلق منها بأسباب ورأى الأب رغبة ابنته فلم يشأ أن يكسر قلبها كما تعود .
لكم كانت تحبه ، ولكم كانت مستعدة للتضحية برغد عيشها لتكون معه ، ولكم كانت مشتاقة للحظة التي يضمهما بها بيت صغير يصيرانه بعشقهما وسع الكون كله بل أشد اتساعاً .
ولكم كان مسروراً بفتاة أحلامه ، وفاتنة قلبه ، وقد غدا و إياها جسداً واحداً بعدما صارا روحاً واحدة ، وأغلق العاشقان على نفسيهما باب بيتهما ، وعاشا سنة كاملة في هناء ويسر تامين كاملين.
وكان للشاب أخت عثر بها حظها فطلِِِقت من زوجها ، رآها والد زوجه فوقعت في نفسه ، وأخذ يصطنع الأساليب والحيل ليصل إليها، ولما طلب يدها رفضت بشدة ، فأرغى و أزبد حتى غدا كثور هائج لا يخفف هيجانه شيء ، ثم تفتق ذهنه آخر الأمر عن فكرة فيها من فساد الأخلاق ما يخجل المرء منه ، هي الضغط على أخيها بتحريض زوجه عليه تحريضاً شديداً لكي يجبر أخته على الموافقة على عمه زوجاً.
وبدأت حملة الإفساد يقودها الأب ويسيِر فيها زوجه المسكينة غير العالمة بسببها ،فرفضت الفتاة الاستجابة أول الأمر ، لكن كثرة الكلام بدأت تحول أفكارها شيئاً فشيئاً ، فصارت تتغير نحو زوجها يوماً بعد يوم ، وأحس زوجها بذلك دون أن يدرك سببه ، فسارع بطيبته نحو أبيها يشتكي إليه ، وهو لا يعلم أنه الشيطان الأكبر محرك الشر والفتن .
وعندها كانت الصاعقة ، قال له أبوها بكل صراحة : إذا زوجتني أختك كففت ابنتي عن إزعاجك ، وكأن السموات السبع تساقطت فوق رأس الشاب واحدة بعد أخرى ، وصرخ في وجهه سؤال كبير : هل الذي أمامه عمه أبو زوجته أم قواد ؟، و رجل ذو تدين وأخلاق أم ديوث؟......ووجد نفسه ينفجر بما لم ينتبه إليه من الكلام ، فيما الأب يبتسم له بخبث شديد.
ولما عاد إلى بيته وهو شبه مشلول متهالك من هول ما سمعه و عرفه لم يجد زوجه ولا ابنته الصغيرة التي رزقه الله إياها ، ففتش عنهما في كل جزء من المنزل وحين لم يجدهما أدرك أن والد زوجته ضغط عليها و أجبرها على ترك المنزل .
عندئذ اتصل ببيت حميه وهو في حالة من الغضب غير الواعي ، وحين ردت عليه زوجه انفجر في وجهها بكلام ملؤه الشتائم لأبيها والتوبيخ لها لتركها بيتها ولما استعاد وعيه انتبه إلى أنها أغلقت الهاتف في وجهه منذ زمن .
أحس أنه في دوامة ، وأن كل شيء حوله يتبدد ويضيع كحفنة رمل سفتها الرياح ، وأن حبيبته تضيع منه إن لم تكن قد ضاعت ، وأنه أمام عصابة لا أمام عائلة راقية كما كان يظن ، ودفعه كل هذا إلى حالة من الهستيريا والتشتت ، ورأى أن ليس أمامه إلا الاستجارة بالأقارب والمعارف والمحبين.وسبقه لسانه إلى رواية القصة للقاصي والداني ، و إعلام الجميع بما قاله له الأب ، فكانوا بين مصدق و مكذب و غير آبه ، فيما كان هو يحترق وحده كعقب لفافة تبغ ، دون أن يتمكن أحد من مساعدته في حل مشكلته .
ولما أحس بفقدانه كل وسيلة كانت عنده للتغلب على واقعه السيء ، أوى إلى نفسه و أخذ يفكر في السبيل التي يمكنه سلوكها لإعادة زوجه وابنته إلى بيته ، و أخذ يسرد في عقله لحظات الحب والصفاء التي عاشاها قبل أن يدبر أبوها مكيدته الملعونة ، والساعات التي كانا يقضيانها يتأمل كل منهما في عيني الآخر وينظم ألف قصيدة غزل دون أن يتفوه منها بحرف ، واللحظة التي دخل فيها عليها في المشفى حاملاً ثمرة حبهما ، البنت الصغيرة الجميلة التي أسمياها اسماً مستوحى من حبهما السعيد . ولحظات قبلها ولحظات بعدها كان يخال فيها أنه امتلك السعادة كلها ولم يعد ما يحجز بينه وبينها .
فجأة أخرجه صوت جرس بابه من جلسته الشاعرية تلك ، سحب نفسه سحباً إلى الباب ففتحه ليجد رجلاً بلباس الشرطة يقدم إليه ورقة ويطلب التوقيع على استلامها ،نفذ الطلب بآلية وعيناه على الورقة يترقب استلامها ، وحين بدأ بقراءتها تجمدت عيناه عند أول كلمتين فيها ، حاول الصراخ لكنه فقد صوته ، وأحس أن كل خلايا جسمه تيبست وآلت قطعاً من خشب ، وظل بؤبؤا عينيه ثابتين عند الكلمتين الأوليين في الورقة (طلب خلع مقدم إلى المحكمة الشرعية) حاول أن يتحرك ، أن يبكي ، أن يصرخ، أن يلوح بيديه في الهواء ، لكنه أحس أنه يتلاشى في الفراغ، .....ثم انطفأ النور الذي كان حوله، وأظلم كل شيء .