كتابُ الضادِ من بيروت إلى بغداد*
أ.د. عماد الجواهري
توطئة
في إشارة إلى المقولة الشهيرة القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ ، زخرت مكتبتنا الصغيرة التي عُني بها الوالد الشيخ احمد بالكتاب اللبناني وحال الوالد الراحل حال غيره من المتنورين ، ممن نزع العمامة ، كانت مؤونته لغة الضاد وبضاعته كتابها وهو يظن أن الناشرين اللبنانيين خلافا لأقرانهم المصرين أطول باعاً في تجارة كتاب الضاد فالغلاف زاهي الألوان والورق ابيض واضح العنوان واللغة هشة سهلة البيان والسعر غير ممتنع في الحسبان . لأجل ذلك امتلأت متون الكتب اللبنانية بالحواشي العلمية والملاحظات الفنية ، وهذا ما لم يكن يفعله مع طبعات دار المعارف المصرية كونها عصية على المختصين فما بالك بأمثاله من المتأدبين .
بين تراث أبي العلاء ودواوين جمهرة الشعراء أصحاب المعلقات الطوال ومعاجم اللسان والرجال وتواريخ الأولين والآخرين ورسائل أساطين الفكر المتقدمين والمتأخرين نشأ كاتب السطور وقد أخذت بلبابه لغة الضاد وصار عونا لأبيه في تفقد مكتبات بغداد ، وتعلق كأبيه بالكتاب اللبناني وانطبعت في ذاكرته منذ ذلك الحين دار العلم للملايين ودار الحياة لمئات الأدباء والمفكرين والعشرات من دور النشر الأخرى يرتادها أهل العقول و أمصارهم شتى ، فينطلق الكتاب من البلد الصغير يجوب ارض الضاد يرمز للوحدة الكبرى .
اولا: الكتاب اللبناني وطلائع النهضة العراقية
في بواكير القرن العشرين ، وغب ثورة الاتحاديين، انطلقت الأقلام من عقالها في الحواضر والمدائن العراقية وذاعت بين المثقفين أفكار الحرية والعدالة والمساواة التي بشر بها دعاة العودة إلى الدستور ، وكانت صحافة البلاد تمارس تجربتها الأولى مع هذه الأفكار، تداعب بها خواطر سُراة القوم من الوجهاء والأعيان ممن ظل متمسكا بتقاليد العصور والخشية من رموز الحكم والسلطان . ولم يكن ثمة بد من أن يتم التداول بما تقدمه المطابع سرا وجهرا وكان للكتاب اللبناني حضوره في مجالس الأدب تتلقفه الأيادي كون ما كان يصل من بغداد إلى باقي المدن كالحلة والنجف وغيرها عزيز المنال مثيرا للجدل والقيل والقال ،هذا رواه الجواهري والشرقي والشبيبي وغيرهم من المجددين الراغبين غير الآبهين بما يثيره أصحاب المقاصد من الشاغبين .
في مثل هذه الظروف لمعت في سماء العراق أنجم ساطعة أقامت أواصر من الصلات الأدبية والفكرية المتألقة وكان صاحب العرفان الشيخ احمد عارف الزين في الطليعة من هؤلاء فقد وضع صفحات مجلة العرفان ودار النشر العائدة لها في خدمة هذه الأقلام فأينعت تلك الجهود عن حركه للنشر سلكت طريقها التاريخي من صيدا إلى بيروت فدمشق وبغداد .
حَفلت أعداد سنوات العشرينيات من مجلة العرفان بالعديد من قصائد الجواهري ، وطار صيت دار العرفان بما نشرته منذ الثلاثينيات من مؤلفات الحسني واخصها: العراق في دورَيْ الاحتلال والانتداب ، وتاريخ البلدان العراقية ، وتاريخ العراق السياسي الحديث ، والثورة العراقية الكبرى ، وتاريخ الوزارات العراقية فضلا عن مؤلفاته الأخرى التي تناول فيها الطوائف والأقليات في العراق كالصابئه واليزيديين والبهائيين والشبك والخوارج وغيرهم . وقد تعددت طبعات هذه المؤلفات حتى بلغت ست طبعات لتاريخ الوزارات العراقية بعشرة أجزاء ، وكان المكثرون من النتاج الأدبي خلال النصف الأول من القرن العشرين من أقران الحسني أمثال جعفر باقر محبوبة وجعفر الخياط وموسى كاظم نورس قد مالوا إلى دور النشر اللبنانية الصيداوية و البيروتية ويُعد المؤرخ والأديب عباس العزاوي استثناء بين هؤلاء فقد مد نتاجه الغزير شركة الطباعة والنشر المحدودة العائدة لأحد أعيان اليهود في بغداد .
ومن نافلة القول أن نشير إلى أن أساطين الشعراء وشيوخ الأدب والكلمة قد ربطتهم باللبنانيين من الناشرين والأدباء والأدباء الناشرين علاقات صميمية فهذا الجواهري يخاطب (1925) احمد عارف الزين صاحب العرفان قائلا:
أ""احمد"" ما أبثثتك الهم والجوى
مكاشفــة إلا لأنــك ""عـارف""
ألا لا تنل شكواي منك فأنها
تؤلم حـتى الصخـر هـذي القذائــف
يقولون مطبوع القريض لطيفه
فهل قوبـلت باللطـف تــلك اللطائـف
ألا لو يبوح الشعر مني بما انطوى
لـَهبَّـتْ على هذي الطروس العواطف
سيغنيك رسمي عن أمور كثيرة
فـظاهـره عـن باطـن الأمـر كـاشــف
أما الرصافي فكتب إلى الأديب اللبناني أمين الريحاني صاحب كتاب " ملوك العرب" يشكو جفاء ذوي السلطة والنفوذ في وطنه العراق املا في أن يشفع له عند جلالة الملك الهاشمي فقال:
فديتك هل تُصيخ فأن عندي
شـكـاة لا تـُصـيـخ لـهــا الخطــوبُ
إلى كم استغيث ولا مغيث
وأدعــــو مــن أراه فـلا يـجـيـــب
أقمت ببلدة ملئت حُقودا
عــلـــيَّ فــكــل مـا فـيـــها مـُريـبُ
أُمرُّ فتنظر الأبصار شذراً
ألـــيّ كـأنـمـــا قــــد مــرَّ ذيـــبُ
وكم من أوجه تبدي ابتساما
وفــي طـــي ابتســامتهــا قُطــوبُ
سكنت الخان في بلدي كأني
اخـــو سـفــر تـقـاذفـــه الــدروبُ
وعشت معيشة الغرباء فيه
لأنــي اليــوم فــي وطنــي غريــبُ
وما هذا وإن آذى بدائي
ولا هـــو أمـــره أمــر عــصــيـــبُ
ولكني أرى أبناء قومي
يُـتدَبــرْ أمترهــم مــن لا يُــصـيــبُ
يقدم فيهم الشرير دفعا
لــشــرتـــــه و يـحـتـقــر الأديـــب
وان أك قد شكوت فما شكاتي
إلـــى ذي خـلــة شـيء مـعـيــب
سأنصبُ للهواجر حُرَّ وجه
يعود إلى الشروق بـه الـغـروب
وللرصافي مدائح رقيقة حفلت بها مجموعته الكاملة المطبوعة في دار العودة البيروتية ، ألقاها في مجالس ذوي الفضل في لبنان أو بعد وفاتهم أمثال جبر ضومط وأمين نخلة ونخلة زريق وقيصر معلوف وأمين كاملة وغيرهم ومن ذلك ما قاله في قيصر معلوف وزوجه:
في آل معلوف الكرام خلائق
غرٌ يُضيىء بها الزمان الأكدر
يأبى الزمان دوال دولة مجدهم
مادام فيهم ذو المكارم قـيـصر
إني لأشكره على أفضاله
والحــر للحُــر المهـذب يـشـكر
أما حليلته الفتاة فإنها
بــدر بــأفــاق الجمــال منـــور
ما أحسن الحسنين إذ جمعا بها
نـفــس مهذبـــة ووجـه أزهــر
والجواهري على الرغم من علاقته الوطيدة بصاحب العرفان ، لم يشأ أن يطبع ديوانه الأول ( بين الشعور والعاطفة) (مطبعة النجاح بغداد /1928) في دار العرفان كما أن دواوينه الأخرى التي صدرت تباعا لم يحظ دار العرفان بأي منها ولعل السبب في ذلك يكمن في انقلاب الجواهري وتمرده على ذاته وتقاليد مجتمعه القديم وهو ما لم يكن موافقا مع توجهات الدار وأصحابها .
على أن لبنان بعامة وبيروت بخاصة لم تكن لتفارق أخيلة الشاعر فلطبيعتها وفتيانها ونساءها وأدباءها وسياسييها مكانة خاصة في شعره مما يضيق المجال عن ذكره في هذا البحث كونه يستحق لوحده دراسة ستكون خريدة من خرائد الضاد ، وليس أدل على مكانة لبنان و الكتاب اللبناني في نفس الشاعر هو مسعاه لطباعة أعماله الشعرية الكاملة في لبنان قبل بلده العراق ( طبعة وزارة الأعلام بسبعة أجزاء ) فظهرت لأول مرة عن دار الطليعة بجزأين عامي 1967-1968 ، كما ظهرت عن دار العودة عام 1982 بأربعة أجزاء . أما تلك الطبعة التي صدرت عن المطبعة العصرية عام 1967 فقيل ان الجواهري كان راغبا عنها .
يضم ديوان لبنان المنتقى من شعر الجواهري عددا من غرر قصائده لعل أبرزها : لبنان في العراق ، أمين الريحاني ، وادي العرائش ، شاغور حمانا ، لبنان ، عمر الفاخوري ، أخي الياس ، ناغيت لبنانا ، عبد الحميد كرامي ، لبنان ياخمري وطيبي ، إيه بيروت .
لعل من عيون شعره قصيدته "لبنان يا خمري وطيبي" التي أُلقيت في المهرجان الذي أقامه أدباء لبنان وشعراؤه عام 1961 تكريما للشاعر الكبير بشارة الخوري ( الأخطل الصغير) وجاء فيها :
لبنان يا خمري وطيبي
لا لامستــكِ يــد الخطــوب
لبنان يا غرف الجنا
ن الناضحــات بكـل طـيــب
متناثرات في المشا
رف والابــاطــح والــدروب
الفاتنات بما اقتبسـ
ن مــن الشروق أو الغروب
أَلقَ التوقــد بــكــرة
واصـائــلاً أَلــقَ الشــحــوب
يا بـنـت ساحـرة ارا
دت مـنـك معجـزةُ الحقــوب
نفثت أفانين الـرؤى
ما بـيـن صُلبِـك و الـتـريـب
بالشمس حالمة السنا
والــريـح ناعمــة الهبـــوب
سرّحتُ طرفي في نسيـ
ج الله والـصـنــع العجيــب
في سحر أنمُلةٍ جلتّ
تـوشـيِّ مطـرَفِكِ القشـيب
في السفح ، في قمم الثرى
في البحر، في خُضْر السهوب
فـجـهـلـــت أيــاً انــتـقـي
مــن حسـن أشتاتٍ ضــروب
لَطَفَ السوارُ بكِ الخضيبِ
أم لـطـفَ مـعـصـمـكِ الـذهيبَ
وكان بشارة الخوري نفسه على صلة وطيدة بشعراء الرافدين تأثر كثيراً برؤى الزهاوي الفلسفية التي عبرت عنها رباعياته المنشورة في بيروت بمطبعة دار القاموس العام سنة 1924 فلما وافت الشاعر الفيلسوف المنية عام 1936 ركب الأخطل الصغير إلى بغداد ليشارك دولة الشعر والأدب في العراق أحزانها بأربعينية رحيل الزهاوي وكانت لاجل ذلك قصيدته الجميلة التي عارضها الجواهري بعد مضي ربع قرن من إلقائها ، ها هو الأخطل الصغير ينوح مؤبناً شيخه الزهاوي في قصيدته (بغداد) :
قولي لشمسك لا تغيبي
وتـكبــدي فـلـك الـقـلــوب
بغداد يا وطن الجهـ
اد ومرضع الأدب الخصيب
غناك دجلـة والفــرا
ت قـصائــد الزمـن العجيـب
بغداد يا شغف الجما
ل وملعب الغـزل الـطـروب
بغداد ما حمل السري
مني ، سـوى شبـح مـريـب
أنا دمعة الأدب الحزيـ
ن رسـالـة الألــم الـمـذيــب
من قلب لبنان الكئيـ
ب لـقـلـب بـغـداد الكـئـيـــب
أتلمس الأشباح وال
أرواح مــن خــلل الحقــوب
وصفوة القول أن نهضة العراق الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين وجدت في الكتاب اللبناني موئلاً وملاذاً بدءا بالزهاوي ومرورا بالرصافي والجواهري وهم اساطين الشعر العمودي في العراق .
ثانياً / الكتاب اللبناني في خدمة حركة التجديد في الشعر العربي
تزامنت حركة التجديد في الشعر العربي (الشعر الحر) مع بلوغ الشعر العمودي المعاصر ذروة تألقه بشاعرية الجواهري التي وصفها الرصافي :
أقول لرب الشعر مهدي الجواهري
إلى كم تناغي بالقوافي السواحرِ
لأجل ذلك شهدت ساحات الوسط الجامعي البغدادية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مطارحات الشعراء المجددين أمثال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة و وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وغيرهم . وقد مضت دواوين هؤلاء الشعراء التي طُبعت لأول مرة في العراق من قبيل "أساطير السياب" و"عاشقة الليل نازك" و"أباريق البياتي المهشمة" وديوان نازك الآخر "شظايا ورماد" وكذلك ديوانا "ملائكة وشياطين" و"أشعار في المنفى" لعبد الوهاب البياتي ، أقول مضت هذه الدواوين متعثرة الانتشار خلا أنصار هذه الحركة وهم قلة من الشباب الجامعي بعد أن أثارت زوبعة من الانتقاد في الأوساط الأدبية التقليدية داخل العراق .
أن هذه الحركة لم تلبث أن انطلقت تجوب عواصم بلاد الضاد تحملها دور النشر البيروتية بخاصة واللبنانية بعامة من المحيط إلى الخليج فظهرت الطبعات اللبنانية من دواوين نازك الملائكة / "قرارة الموجة" 1957 و"شظايا ورماد" 1959 و"عاشقة الليل" 1960 و"شجرة القمر" 1968 ، كما تصدت دور النشر البيروتية لنتاج بدر شاكر السياب انشودة المطر في دار مجلة شعر 1960 و"المعبد الغريق" و"منزل الافنان" في دار العلم للملايين 1962 و1963 على التتابع و"ازاهير وأساطير" في دار مكتبة الحياة و"شناشيل ابنة الجلبي" و"إقبال" في دار الطليعة 1964 ، 1965 على التتابع ، أما دار العودة فقد نشرت الأعمال الشعرية الكاملة لنازك وعبد الوهاب البياتي عام 1971 كما نشرت بالاشتراك مع دار الكتاب العربي عام 1974 للسياب "البواكير" و"فجر السلام" . وجدير بالذكر أن رواد حركة التجديد وبسبب منهجهم السياسي المعارض للحكم اضطروا إلى مغادرة العراق إلى المنفى حيث واصلوا رسالة الفكر لمختلف اتجاهاته يميناً ويساراً والتي احتضنتها ربوع لبنان ومقاهي بيروت و صالوناتها ومجلاتها الأدبية (مجلة شعر ثم مجلة حوار ومجلة الآداب ومجلة الطريق) . لقد عاش السياب سنواته الأخيرة معتلاً في لبنان والكويت . واختارت نازك العمل في الكويت ثم غادرتها إلى أمريكا واستقرت قبل وفاتها في القاهرة . أما البياتي فانه اختار منفاه في أسبانيا وتنقل منها ليستقر قبل أن تدركه المنية في بلاد الشام .
يُعد سعدي يوسف آخر المبرزين الرواد من جيل حركة التجديد ، وكان تقلبه بين الشيوعية واليسار الماركسي قد جعله من المعارضين للنظام البعثي في العراق ، من ثم كانت دواوينه ونتاجه الأدبي والفكري وترجماته المنشورة في العراق والجديدة أذبان حقبة غربته عن الوطن بعد عام 1979 محط اهتمام دور النشر اللبنانية على اختلاف اتجاهاتها غير أن داري الفارابي وابن رشد استأثرتا بالكثير من هذا النتاج وفيما يأتي عرض سريع له :
قصائد مرئية ، المطبعة العصرية – صيدا 1965
بعيدا عن السماء الأولى ، بيروت دار الآداب 1970
نهايات الشمال الإفريقي ، بيروت دار العودة 1972
تحت جدارية فائق حسن ، بيروت دار الفارابي 1974
كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة ، دار الآداب 1977
قصائد اقل صمتا ، بيروت دار الفارابي 1979
الأعمال الشعرية ، دار الفارابي 1980
من يعرف الوردة ، دار ابن رشد 1981
يوميات الجنوب يوميات الجنون ، دار ابن رشد 1981
خذ وردة الثلج خذ القيروانة ، دار الكلمة 1987
محاولات ، دار الآداب1990
جنة المنسيات ، دار الجديد 1993
الوحيد يستيقظ ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1993
كل حانات العالم ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1995
حانة القرد المفكر ، دار النهار1997
اما اهم ترجماته للاعمال الشعرية فهي :
والت ويتمان ، أوراق العشب ، دار ابن رشد 1979
كافافي ، وداعا للاسكندرية التي تفقدها ، دار الفارابي 1979
يانيس ريستوس ، ايماءات ، دار ابن رشد 1979
لوركا ، ألاغاني وما بعدها ، دار ابن رشد 1981
غوناراكليف ، ديوان الامير وحكاية فاطمة ، دار ابن رشد 1981
فوسكا بوبا ، شجرة ليمون في القلب، دار ابن رشد 1981
اونغاريتي ، سماء صافية ، دار ابن رشد 1981
هولان ، قصائد ، دار ابن رشد 1981
ولأنَّ العديد من نتاجات سعدي يوسف قد زخرت بها حقبة الثمانينيات من القرن الماضي و هي حقبة بلغت فيها رقابة الفكر في العراق ذروتها ، فأن سلطات البعث في العراق فرضت قيوداً صارمة على الكتاب المستورد بعامة والكتاب اللبناني بخاصة ولم يعد يصل إلى العراق من أعمال المفكرين المعارضين ماركسيين وإسلاميين غير بضع نسخ تتسرب خفية إلى الأوساط الأدبية والثقافية ، لذلك شاعت بأرض الرافدين ثقافة جديدة عرفت بثقافة الاستنساخ , تم خلالها استنساخ معظم ما كانت تصدره أو تنشره و توزعه دور الكتاب اللبنانية و غيرها من قبيل الأعمال الشعرية و الأدبية لسعدي يوسف وحسين مروة وهادي العلوي و بلند الحيدري من الماركسيين ومحمد بحر العلوم وأحمد الوائلي وجابر الجابري من الشعراء الإسلاميين فضلا" عن حجب الأعمال الفكرية لقادة الفكر الإسلامي من قبيل محمد باقر الصدر ومحمد حسين فضل الله وصبحي الصالح وغير ذلك كثير مما يضيق المجال لعرضه و متابعته .
ولئنْ كانت ثقافة الاستنساخ تمثل شذوذا" في مسيرة الكتاب في العراق كونها تمثل سطوا" على حقوق الناشرين فأنها في المقابل تعكس العلاقة الصميمية بين القارىء العراقي والكتاب اللبناني مهما كانت الظروف وكيفما كانت محنة العقل العربي وهموم المثقفين .
ثالثا" / السياسيون العراقيون والكتاب اللبناني مسارات فكرية متضادة
في ظروف خاصة رأى بعض السياسيين أو المفكرين اللبنانيين أن يقدموا نتاجهم الفكري عبر الكتاب العراقي طباعةً وتصحيفاً وتوزيعاً , وهؤلاء لم يزد عددهم على أصابع اليد الواحدة , لعل من أبرزهم أنيس زكريا النصولي الذي نشر كتابه الدولة الأموية في الشام في بغداد عام 1926 , وقد أثار الكتاب زوبعة في المحافل الدينية والأدبية انتهت بطرد المؤلف من العراق مع بعض زملائه ممن عرفوا بنزعتهم القومية العلمانية .
أما الكاتب الآخر فهو الأديب الماركسي الشيوعي اللبناني المولد حسين مروة وقد طرد هو الآخر من العراق عام 1949 وأُسـقـطـت عنـه الجنسيـة العراقيـة . ويُـعد كتابـه عـن ( الثورة العراقية ) المطبوع في دار الفكر الجديد عام 1958 من المؤلفات غير المشهورة محدودة التداول كونه يبرز دور الحزب الشيوعي العراقي في الحركة الوطنية ، على أن نتاجا ته الأخرى التي تصدت لنشرها دور الكتاب اللبناني ، قبل وبعد أشرافه على مجلة الطريق ، تُعد نتاج ثقافته الأولى التي اكتسبها بالتعرف على قيادة الحركة الشيوعية في العراق ثم عززتها الثقافة الماركسية التي نهل منها بعد أبعاده إلى بيروت . وقد اشتملت كتاباته الأولى على " مع القافلة " بيروت 1952 و " دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي " دار المعارف بيروت 1956 و" دراسات في الإسلام مع آخرين " دار الفارابي 1979 و" الموقف الثوري في الأدب " منشورات دار الفكر العربي 1980 و" تراثنا كيف نعرفه " مؤسسة دار الأبحاث 1986. ويُـعد كتابه " النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية " بجزئين الصادر عن دار الفارابي عام 1978 اشهر مؤلفاته ، ويوصف حسين مروة في مؤلفه هذا بأنه أول من تصدى للتراث بمنهج ماركسي وفتح الطريق للطيب تيزيني وهادي العلوي وغيرهما . وقد قدم المؤلف الكتاب برسالة للحزب الشيوعي ذات مـغـزى جـاء فـيـهـا : " حزبي العزيز .. منك الهبات كلها : التربة و الغرس والرعاية .. فهل إلا إليك ، أذن ، القطاف ؟ .. " وقد أثار كتابه النزعات المادية جدلا" في الساحة الفكرية العربية فكتب عنه وعن مؤلفه محمد دكروب وطيب تيزيني ومهدي عامل و أحسان عباس ومحمود إسماعيل ومحمود أمين العالم وحنا مينه وغيرهم . وكان المؤلف قد أُغتيل في منزله عام 1987 .
أما ابرز من عاش و مات في العراق من اللبنانيين فهو رستم حيدر السياسي و الاقتصادي والوزير المشهور ، ذُكِرَمن مؤلفاته " سياسة الحكومة الاقتصادية " ومذكرات نُشرت بعد اغتياله عام 940 . وإذا كان الفكر اللبناني حراً بطبيعته فأن تسويقه عبر الكتاب العراقي بدا أمراً مستحيلاً في ظل واقع العراق السياسي والاجتماعي أبان القرن الماضي ،غير أن الحالة تبدو معاكسة تماماً عند تقويم دور الكتاب اللبناني في نشر الفكر العربي بعامة والفكر العراقي بخاصة ، فقد وجد الساسة العراقيون في دور الكتاب اللبناني مجالاً رحباً لنشر يومياتهم ومذكراتهم وبرزت من بين دور النشر اللبنانية دار الطليعة في بيروت التي نشرت مذكرات محمد مهدي كبة " في صميم الأحداث " عام 1965 و" مذكرات طه الهاشمي " عام 1967 و" مذكرات كامل الجادرجي " عام 1970 ثم " أوراقه" عام 1971 وكذلك مذكرات طالب مشتاق " اوارق أيامي " عام 1968 و" مذكرات ساطع الحصري في العراق " بجزئين ( 1967 ، 1968 ) . كما نشرت دور النشر الأخرى مذكرات خليل كنه " العراق امسه وغده " دار الريحاني 1966 و"ذكريات علي جودت " مطابع الوفاء 1967 ومذكرات توفيق السويدي " خمسون عاما من تاريخ العراق والقضية العربية " دار الكتاب العربي 1969 وغيرهم . وعلى ذكر أبو خلدون ساطع الحصري الذي اكتسب الجنسية العراقية عام 1921 ثم أُسقطت عنه عام 1941 ، فأنه اثر مغادرته العراق واصل نشر رسالة الفكرة العربية التي عده تلامذته العراقيون أبو القومية العربية . لقد تصدت دار العلم للملايين ودار الطباعة الجديدة ودار الطليعة ثم مركز دراسات الوحدة العربية فيما بعد لنشر مؤلفاته حول الفكرة العربية واخصها " آراء وأحاديث في القومية العربية " 1951 و " الـعـروبـة بـيـن دعـاتـها و مـعـارضيها " 1951و" محاضرات في نشوء الفكرة القومية " 1951 و " العروبة أولاً " 1955 و" دفـاع عن الـعـروبة " 1956 و" حول الوحدة الثقافية العربية " 1959 و " الإقليمية جذورها وبذورها " 1961 وقبل أن يقرر مركز دراسات الوحدة العربية إصدار الأعمال الكاملة لساطع الحصري ، أعاد المركز أكثر من مرة طباعة مجموعة الرسائل القومية لساطع وعددها سبعة عشرة رسالة وهذا لا يعني أن تلك الرسائل لم يعد طباعتها من قبل دار العلم للملايين التي أصدرتها وعلى سبيل المثال فأنه حتى عام 1959 صدرت ثلاث طبعات من " آراء وأحاديث في الوطنية والقومية " و " العروبة بين دعاتها و معارضيها " و " العروبة أولاً " و " آراء وأحاديث في القومية العربية" كما صدرت طبعتان من " محاضرات في نشوء الفكرة القومية " و " دفاع عن العروبة " . لقد عاش ساطع الحصري منذ التحاقه بحكومة الامير فيصل في سورية عام 1919 عروبياً داعيةًً للقومية العربية ويُعد العراق وطنه الأول ( أُعيدت له جنسيته العراقية عام 1953 ) و مصدر نجاح دعوته في أمصار العروبة فقد أرسى في العراق مدرسة قومية تحلق تلامذتها حوله وكُـتب لهذه المدرسة أن تكون مسؤولة عن الوجهة السياسية القومية الرسمية للعراق طوال القرن العشرين ، وكان من سماة هذه المدرسة ( الحصرية ) الحساسية المفرطة إزاء الأغلبية الشيعية في البلاد . وقد أُتيح لنا في دراسة سابقة نُشرت عام 2000 تقويم دوره السياسي في العراق انه سيبقى رهناً بوجود نظام سياسي يستمد توجهاته الفكرية والسياسية من تفكيره . وغني عن القول أن الحكومات التي تعاقبت على العراق بعد سقوط عبد الكريم قاسم عام 1963 حتى عام 2003 كانت تضم العديد من السياسيين المتأثرين بأفكار الحصري أن لم يكونوا من تلامذة مدرسته أصلاً ، لذلك وجدت مؤلفاته طريقها الصادرة بهوية الكتاب اللبناني طريقها إلى أسواق ومعارض الكتاب في المدن العراقية ، كما تم اقتنائها وإيداعها في مكتبات المدارس كافة .
وأخيراً لا يسعنا إلا أن نشير في ختام هذا المبحث إلى أن التغير السياسي الذي حدث في العراق بعد عام 2003 قد فتح الأبواب ليس أمام الكتاب اللبناني حسب بل أمام الكتاب من كل مكان في الشرق والغرب في موجةٍ من الغزو الفكري لا نظير لها في التاريخ العربي الحديث .
الخاتمة
نشدت هذه الورقة عرض صفحة متألقة من العلاقات العراقية اللبنانية عبرَ نافذةٍ فكريةٍ ساميةٍ هي لغة الضاد مُدبجة على صحائف الكتاب اللبناني ، الكتاب الذي وجد طريقهُ إلى العراقيين شعراء وكتاباً ومثقفين ، أو أن شئت فقل عامة قراء لغة الضاد على مختلف اتجاهاتهم السياسية ونزعاتهم الفكرية ، فكانت بغداد بخاصة وحواضر العراق بعامة سوقاً رائجة له بالرغم من بعض الهنات الطباعية التي لصقت به حتى منتصف القرن الماضي مقارنةً بالكتاب المصري الصادر عن دور النشر العريقة .
وكان من أهم النتائج التي خرجت بها هذه الورقة فضلاً عما ذُكر أعلاه هي تلك العلاقة الصميمية التي توثقت آصرتها بين شعراء وأدباء ومفكري البلدين الشقيقين لبنان والعراق ، وكذلك احتضان لبنان لأصحاب القلم وكلمة الضاد من الشعراء والأدباء والمفكرين في مختلف أحقاب التاريخ المعاصر وعلى أمتداد القرن الماضي فضلاً عن أهتمام دور النشر اللبنانية بعامة والبيروتية بخاصة بأعادة نشر نتاجهم من خرائد الضاد ونشر ما أستجد مما جادت به قرائحهم شعراً ونثراً ، أو أدباً وفكراً .
وأخيراً فأن دولة الضاد التي عبّر عنها الكتاب اللبناني لم تشأ ، بالرغم مما تحملته من أعباء الطباعة والتصحيف والتجليد والنشر والتوزيع ، أقول لم تشأ أن تبدي أية منة أزاء ما قامت به ، والحق لقد كان لبنان وكانت بيروت ولم تزل محجةً لرواد الكلمة ورافعي لواء الضاد عراقيين وعرباً ، وليس لنا في هذا المقام الا أن نغبطَ ذلك الحجيج ونقول لهُ الكلمة المأثورة " حجٌ مبرور وسعيٌ مشكور" ونقول لبيروت الخالدة طوبى لكِ صناعة بضاعة الضاد أنها " تجارةٌ لا تبور" .
* لم يشأ المؤلف أن يضع مراجع بحثه كونها ظاهرة على وفق دور نشرها وسني طباعتها في متون صفحات البحث .