عندما قدر الله تعالى على خلقه - في العقود الثلاثة الأخيرة - التّوجّه إلى التّديّن في كل مكان وفي كل ملّة ؛ لم ينبت غراس ما سمّي بالصحوة الإسلامية في مجالس العلم الشرعي، ولا اعتنى بها علماؤه، ولا قادها الدعاة إلى الله على بصيرة بالآية من كتاب الله تعالى ولا بالحديث من سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم ولا بالفقه في الدين من أهله في القرون المفضلة بل أراد الله -ولا رادّ لقضائه وهو أعلم وأحكم- أن ينبت التوجه العالمي إلى التديّن -فجأة وبلا سبب ظاهر- في أرض سبخة لايوجد فيها علم ولا عالم بشرع الله، فتيسر للشيطان -أعاذ الله الجميع منه- أن يحرفها عن الوحي إلى الفكر وعن اليقين إلى الظنّ والعاطفة، ظهر الاتجاه إلى التّديّن -أول ما ظهر- في أمريكا وعلى الأخص في ولاية كاليفورنيا حيث يتوفر فيها - أكثر من أيّ مكان آخر- الوقت والمال والثقافة للبحث عن جديد.
وكان أول دعاته المتصوّفة الوثنيّون من طائفة كريشنا الهندوسية، وتركّزت دعوتهم على ضرورة البحث عن إرضاء الرّغبات (والتطلّعات الإنسانيّة) من داخل النفس لا من خارجها، من الروح لا من الجسد، أو كما يقول النّصارى: (من الرّوحانيات لا من الماديات).
ولمّا كانت أمريكا تقود العالم إلى كل تجديد في سبيل الحياة اليومية، وكانت ولاية كاليفورنيا (مدينة لوس أنجلس على الأخص) تقود أمريكا إلى التجديد المادّي والفكري بإنتاج (هوليود) وجاذبيتها بدأ التوجه إلى التدين هناك، وقدّر الله أن أشهد بدايته وتطوره.
ولأن النّصرانية الحاضرة -مثل الهندوسية- تدعو إلى تغليب الجانب الموصوف بالرّوحي على الجانب الموصوف بالماديّ كانت أوّل من استجاب لدعو كريشنا (للبحث عن الذات) فظهر ما سمّي (بالولادة من جديد)، أي: العودة إلى النّصرانيّة أو الاتجاه إلى التدين النّصراني بعد سنوات من انبعاث حركة كريشنا.
وبعدها- بما لا يزيد عن سنتين- ظهر الاتّجاه إلى التدين بين الطّلاب المسلمين في أمريكا، وبدأت (جمعيات الطلاب المسلمين) تحتل مكان (جمعيّات الطلاب العرب) الذي احتكرته الأخيرة فيما مضى.
لقيادة أفرادها- فضلاً عن بقية الأمة- إلى الدّين الحق؛ فلم يكن بين قادتها ولا أعضائها عالم بشرع الله، وإنما قامت الجمعيات من قبل على الفكر السياسي والقومية العربية، ثم قامت بعد تغيير عنوانها على الحركيّة والفكر السياسي الموصوف بالإسلامي، منشغلة بذلك- وشاغلة غيرها به- عن الوحي والفقه فيه.
وكان أبرز فكر أنتجه من يصفون أنفسهم بالإسلاميين: فكر سيّد قطب تجاوز الله عنّا وعنه، وكان ألحن المفكرين المسلمين بلسان الصّحافة السلس الذي تستهل النّفس قبوله والتأثر والتأثير به، والنّفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي؛ فتلقّفه دعاة الصّحوة الإسلامية الفكرية الحركية في البلاد العربية يشغلون به مجالس الذكر والعلم في المساجد (الاجتماعات وخطب الجمة والمكتبات ودور القرءان) وفي المدارس (جمعيات التوعيّة الدينية وبرامج التّربية الدينية والثقافة الإسلامية والرّحلات والمراكز الصيفية).
واستغل الحزبيون الحركيّون إقبال الشباب - بخاصة- والنّاس - بعامة- على التّدين العاطفي، فقادهم إلى مناهجهم وأهدافهم وتنظيماتهم.
وبفضل الله كثرت المساجد وكثر المصلّون فيها، ولكن أُهمل جانب نشر الاعتقاد والسنة والأحكام الشرعية والتحذير من الشرك والابتداع، وانتشرت جمعيات تحفيظ القرءان، ولكن أُهمل تدبّره.
وكثر طلبُ عرضُ وسائل نشر الدين الفكري من كتب وتسجيلات ولقاءات وندوات ومهرجانات ومحاضرات وقلّت دروس العلم.
وكثر الخطباء والمحاضرون والمفتون والواعظون من القصّاص، وقلّ الإقبال على العلماء بشرع الله وعلى فتاوى العلم الشرعي ودروسه.
وكما مضت سنة الأولين عاد الأقلّون من الناس شيباً وشبّاناً إلى الحق واليقين (من الوحي والفقه فيه)، واتجه الأكثرون شبّاناً وشيباً إلى الفكر والعاطفة والظنّ كما قال خالقهم عز وجل: {وما يتّعُ أكثرهم إلا ظنّاً} سورة يونس آية(36)، {ولا تجد أكثرهم شاكرين} سورة الأعراف آية(17).
وسعيت الحركات والجماعات والأحزاب الموصوفة بالإسلاميّة منذ البداية للاستفادة من هذا الحدث العظيم في تكثير عدد أفرادها وتحقيق ظهورها وغلبتها وكانت (جماعة الإخوان المسلمين) في ولاية إنديانا من الولايات المتحدة الأمريكية-بعد (جماعة المسلمين السّود)-أوّل من تنبّه للحدث وحاول استغلاله لصالح حزبه، ولعلّ هذا هو السبب في اختيار فكر سيد قطب في البلاد العربية وفكر المودودي في البلاد الأعجمية-وهما وجهان لعملة واحدة- منهاجاً للتوجّه الجديد إلى التدين بحُسْن نية وسوء عمل.
وفكر سيد قطب ومثله- بدرجة أقل- فكر المودودي- تجاوز الله عنّا وعنهما- صالح لاحتزاب النّاس- وبخاصة الشباب- إلى التدين عامة، ولكنّه قاصر -بدرجة مخزية- عن قيادتهم إلى الدين الحق- كما أوحى الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفقهه متبعوا سنته، ولم يكن أيٌّ منهما مسلح بالعلم الشرعي ولا بالمنهاج الشرعي لتبليغه؛ فلم يظهر في كتبهما أيّ اهتمام بمنهاج النبوة في التدين ولافي الدعوة إليه، ولم يسع أيّ منهما لمعرفة أو تعريف الناس بأهم وأول ما بعث الله به كلّ رسله في كلّ زمان ومكان وحال: إفراد الله تعالى بالعبادة ونفيها عمّا سواه؛ بنشر توحيد الله بعبادته، ومحاربة أوثان المزارات والمشاهدات والمقامات التي عاش كلٌّ منهما بينها منذ الولادة حتى الموت، ولم يكن أكبر همّهما- فيما يظهر من منهاج وإنتاج كلّ منهما- نشر السنة في: العمل بأحكام الشريعة ولا العلم بها، ولا محاربة البدع المسيطرة على القلوب والأعمال والمساجد في بلديهما.
كان أكبر همّهما في إطار الأحكام الشرعيّة عامّة ما سُمّي بالحاكميّة وهي جزء من توحيد الربوبية أُسيئ عرضه ووضع في غير موضعه الذي اختاره الله له.
وكان أهم وسائلهما- ومن تبعهما- التفسير والسيرة، والتفسير الحديث- في أحسن أحواله-: تكرار واختصار وتهذيب لمؤلفات المفسرين الأوائل، وهو في أسوأ أحواله: قول على الله بغير علم.
والسيرة يختلط فيها الصّحيح والضعيف والحقيقة والخيال، وهما- وأتباعهما- غير مؤهلين لتمحيصها وتميزها.
وكان لابدّ- والحال على ما ذكرت- من أن تنـزلق (الصحوة الإسلامية) في مزالق الفكر السياسي الضيف ووسائله العلنيّة والسريّة وكان من أبرزها: التكفير والاعتزال والهجرة، والتعصب لمناهج الحزب والإعجاب به وانتقاص غيره، والاغتيال والتفجير، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، من المسلمين أو من غيرهم، وزعزعة الأمن، وبث الرّعب ونشر الفتنة.
وكان أبرز مطية لهذا الفساد في الأرض؛ قضية فلسطين؛ ركبها الموصوفون بالإسلاميين كما ركبها القوميّون والشيوعيّون والنّصارى.
وبدأت التفجيرات في أوروبا، واختطاف الطائرات الأوروبية والأمريكية وتدميرها، وساءت سُمْعة العرب وهي أهون النتائج سوءاً.
واتهم جماعة التكفير والهجرة- ربيبة فكر سيد قطب- بقتل الذهبي العالم المسلم، واعترف أفراد حزب الجهاد (الإسلامي) بقتل السّادات ولي الأمر المسلم، وعدّ مفتي الحزب قتله طاعة لله وتقرباً إليه، واغتيل عدد من المسلمين في فلسطين بتهمة التعاون مع اليهود، وحدث أن أعلن القتلة أن المقتول شهيد بعد ثبوت براءته بعد أيام من قتله، والله أعلم بعدد من قتل بريئاً ولم يُمنح الشهادة ممن لا يملك حقّ القتل ولا حقّ الحُكم بالشهادة، فهي لله وحده ولشرعه، ولكن ّ الظّنّ هو الحَكَم.
وركبت (الصحوة الإسلامية والقومية) مطايا أكثر إغراقاً في الخيـــال:
1) العمّال الكوريّون الذين أشاع قادة الصّحوة أنهم جنود مدّربون أعدّتهم أمريكا لاحتلال النّفط، ولا تسأل: لماذا تحتاج أمريكا لذلك أو أوروبا؟ وهم من اكتشف النّفط واستخرجه واستعمله لمصلحة الجميع، فالعقل عند الحركيين مثل الشرع في إجازه.
2) وجاء الخميني، وأعلنت وسائل إعلامه أن من أهم أهدافه: تحرير فلسطين، وتسابق الحركيون لتأييده طمعاً- فيما يظهر- في الحصول على نصيب من نجاحه في الاستيلاء على الحكم باسم الدّين، ولمّا خذلهم سعوا لتقليد حركته: الإخوان في سوريا، وأتباع جهيمان في البلد الحرام، وجبهة الإنقاذ في الجزائر بالوسيلة الديمقراطية ثم بالاغتيالات.
3) وجاءت قضية الخلاف على الأرض والسّلطة في أفغانستان، ثم (البوسنيا هِرْتزكوفينا) ثم (الشيشان)، وتسابق الحركيّون لاستغلالها- ولم تتحرك قلوبهم- فيما ظهر منهم- ولا جوارحهم- من قبل- لإصلاح المعتقد والدعوة إلى السنّة ومحاربة البدع التي يتقرب بها المجاهدون إلى الله من قبل ومن بعد، بل كان قائد المجاهدون العرب الإخواني يحثهم على تأجيل الدعوة إلى التوحيد والسنّة حتى تتحرر أفغانستان من روسيا ومن جاءات لحمايته من أهلها، ومات تجاوز الله عنّا وعنه قبل أن تحرّر البلاد وقبل الدعوة إلى الله على بصيرة.
4) واحتل البعث العراقي الكويت بحجة تحرير فلسطين، وفرح الحركيون بنكبة الكويت، ودعوا الله في خطب الجمعة أن تمتدّ النّكبة إلى جيرانها، وأعلنوا ولاءهم لصدّام الدين حسين حامي حزب البعث (ومعلّمه الأول ميشيل عفلق النّصراني)، مع أنّهم يحكمون على الحزب في سوريا وعلى معلّمه بالإلحاد، وخذلهم (صدام الدّين) فلم يعطهم نصيباً في الحُكْم، ولكنّه كافأهم ببعض المظاهر (الإسلامية) مثل كتابة (الله أكبر) على العَلَم ليجدوا عذراً في تأييده، وبقي نائبه الأوّل نصرانياً ونائبه الثاني صوفيّاً أكثر مناهضة لمنهاج النّبوّة في الدين والدعوة، وبقي حزب البعث يحكم (الأغلبية الشيعة، والأقليّة المنتسبة إلى السنة واليزيدية - عبدة الشيطان- والنّصارى عبدة المسيح) بعقيدته و منهاجه.
ونعق الحركيون بدعوى حزب البعث أن القوات الدّوليّة (التي سخّرها الله لردّ عدوانه) إنّما جاءت للتنصير والاحتلال، كأنهم يجهلون أنّها علمانيّة- في وصفهم لها- وأن الاحتلال العسكري انقرض قبل عشرات السنين، ولم ينكروا بقاء الأوثان تملأ السهل والجبل في بلاد العرب والعجم؛ في العراق وأفغانستان والبوسنيا والشيشان، وهي أكبر الكبائر؛ لا تحوجهم إلى اختراع هدف خيالي لحروبهم المبتدعة.
5) وجاءت القوات الدولية مرّة أخرى ونجحت في تحرير العراق من طغيان صدام الدين وحزبه وبطانته، وعاد الحركيون يرددون إشاعة (هولاكو الجديد صدام حسين) القديمة المتجددة بأن هذه القوات جاءت للتنصير ولاحتلال، وعدّوا قتالها من الجهاد في سبيل الله.
6) أضيفت أسماء جديدة للأشباح الذين يرفعهم الحركيون أعلاماً وقدوة منذ المعتصم الحاكم الغاشم الذي عاش ومات وهو كارهٌ للعلم الشرعي، تولّى كبره في فرض بدعة خلق القرءان وسجن الإمام أحمد-رحمه الله- وتعذيبه، إلى عزّ الدين القسّام الذي لا يُعْرف له سابق في الدعوة إلى التوحيد والسنة بل لا أحد يهتم بمعرفة مدى التزامه بهما، إلى محمد الدّرّة طفل قتل في أحد الاشتباكات بين اليهود والمنتفضين عليهم، لا يُدْرى أيهم قتله، ولم يكن من المشاركين في الانتفاصة، ولمّا وَجَد المصوِّر أنّ آلته التقطت مشهد موته، عرف أنّ عن كنز من كنوز الإثارة والمنفعة، وأخيراً خرافة (منقاش) في سلسة الأشباح التي يحرك الجهاديون المبتدعة بها عواطف الغوغاء ويسيّرونهم في طريقهم المنحرف.
ولا تعْجب إذا دافع أحد المعلّمين الجامعيين عن هذا التخريف والخداع بحجة التّشجيع والإلهام- ولو كانت باطلة، واستدل ( بإعجاب العرب بخرافة (وامعتصماه) منذ أكثر من عشرة قرون رغم أنه لا أحد يملك القدرة على إثبات الرّواية)؛ وهذه نتيجة عدم الرّدّ إلى الكتاب والسنة والفقه، بل إلى العقل والفكر حتى اتحد المعلمون والمتعلّمون في الضّلال والخيال.
وأعجب من هذا أن يتكلم بعض المعلمين الجامعيين في إحدى الفضائيّات عن احتمال ضرب الكعبة بالقنبلة الذّريّة كأن القنابل الذّريّة سلاح يكثر استعماله بل وكأنه استعل مرّة واحدة بعد تجربته في اليابان قبل خمسين سنة، يا حسرة على العباد وعلى الشرع والعقل.
وفي رأيي، لا أعدى للمسلمين من أنفسهم وشياطينهم، ولا خطر على الإسلام أكثر من خطر المنتسبين إليه المنشغلين عن يقينه بفكرهم وظنّهم.
7) وحتّى تستمر مكيدة الشيطان والنفس والهوى صرف الثلاثة الحركيين وأتباعهم عن علماء الأمّة فاختاروا بعض طلبة العلم القاصرين عن مراقيه العالية (ولمن حملوا ألقابه الغربية أو لم يحملوها) وكافأهم هؤلاء بالفتاوى التي ترضيهم تعدّياً على شرع الله وتجاوزاً لحدوده.
وختاماً أرجو الله أن يتجاوز عن الجميع ويردّهم إلى دينه ردّاً جميل.
وعلى كبار علماء التوحد والسنّة- لا المثقفين ولا المفكّرين، وأكثر حملة الألقاب الدّراسية منهم- تحمّل مسؤولياتهم وأداء الأمانة التي حملوها (وسيحاسبون عليها) والسعي حثيثاً لتصحيح الاتجاه الدّيني وبيان الحقّ للناس- ولو غضب أكثرهم- ومحاولة صرفهم- بالجدّ والمثابرة- عن الفكر والظنّ والخيال إلى الوحي واليقين
وعلى ولاة أمر المسلمين أن يطهّروا وسائل الإعلام العامّة والخاصة من الفكر المنحرف- ولو وُصف زوراً بالإسلامي- ومن دعاته المخدوعين المخادعين به، ومن تدخّل غير علماء الأمّة المعتدّ بهم في أمور الدّين من فتوى وتأويل وانتقاد استجابة لأمر الله وشرعه.الشيخ سعد الحصين