اغتيال نورس بحري
كاظم فنجان الحمامي
جاورت أعدائي وجاور ربه
شتان بين جواره وجواري
عرفته نورسا بغداديا وديعا بهي الطلعة, يميل إلى الهدوء والتأمل, ويحب السفر والملاحة في عرض البحر, فتعلم فنونها وتعرف على أسرارها في مرافئ البصرة وأرصفتها القديمة. وواصل دراسته الجامعية في أكاديمية الخليج العربي, فتخرج فيها ملاحا يافعا فتيا , مفعما بالحيوية والنشاط, ويهوى الرحيل والانطلاق بمركبه البلوري نحو جزر الأحلام والشواطئ البعيدة, ليخوض غمارها, ويسبر أغوارها.
كان رافع عبد حمزة الحسناوي يتحرك مطمئنا على بساط الوطن كما النسيم العذب, فقرر العودة إلى بيته وأسرته, ليكون قريبا من زوجته الوفية, ويحتضن أطفاله الصغار, ويروي لهم آخر فصول حكاية السندباد الذي عاد مزهوا إلى بغداد , فعمل هناك في ممثلية التفتيش البحري. وربط مصيره المهني بمراكب دجلة الخير والعطاء, وزوارقها المنسابة مع انعطافات النهر الخالد. لكنه دأب على التسلل إلى البصرة مع زميله ورفيقه (رياض مولة) من حين إلى آخر, ليلتحقا بأسراب النوارس البحرية المحلقة في بحار الجنوب, ويزورا قلعتها البحرية الشامخة في (المعقل) بقبتها الزرقاء, ويؤديا طقوس الوفاء والمحبة لشرايين شط العرب وبساتينه المزدانة بظلال غابات سيد الشجر.
زارني الاثنان في شتاء العام الماضي, فاستقبلتهما في بيتي وصومعتي. ولم أكن أعلم إنه سيكون اللقاء الأخير بهذا النورس البغدادي الودود. فقد تسربت خفافيش الشر والظلام إلى مسجد الشروفي في ضاحية الشعب (شمالي شرقي بغداد), وهو بيت من بيوتات الله, يؤمه المسلمون لأداء فريضة الجمعة, وامتدت أيادي الغدر لترتكب جريمة أخرى من سلسلة جرائمها النكراء, التي طالت الجسور والأسواق ودور العبادة, وهكذا استشهد هذا النورس الجميل المغرد بأناشيد الذكر والدعاء, والمتبتل في محراب العبادة والتهجد, واغتالته قنابل الشراذم الظلامية, التي نسفت المسجد بالمتفجرات المحرقة, وتجرأت على حرمات الله, وأزهقت الأرواح البريئة الطاهرة بغير حق, وما كانت هذه الكلاب البشرية المسعورة لتجرؤ على ارتكاب فعلتها الشنيعة لولا تلقيها الدعم والتوجيه من جهات حاقدة على العراق وأهله, ولولا تلقيها التشجيع من جهات منحرفة تحاول أن تعيد الاصطفاف الطائفي والعنصري إلى خندق التناحر, وتجر البلاد إلى حرب طائفية ضروس. .
لكن هذا لن يحصل أبدا أبدا. فقد انتبه العراقيون لهذه المخططات, وأدركوا أبعاد هذه الألاعيب القذرة, وفطنوا لغاياتها العدوانية المسمومة. وتعرّفوا على نواياها الرامية إلى تدمر العراق كله. .
اللهم أحفظ العراق وشعبه, واخذل كل من يتربص بهم سوءا, ولا حول ولا قوة إلا بالله الواحد الأحد الفرد الصمد. .
تغمدكم الله يا شهداء المساجد العراقية بواسع رحمته, وعظيم مغفرته, وأسكنكم الجنان العلى مع النبيين والصديقين والشهداء, وحسن أولئك رفيقا, ونسأل الله, جلت أسماؤه, أن يلهم عوائلكم المفجوعة المحتسبة الصبر والسلوان, وان يخلف عليهم في مصابهم خيرا وبرا وإحسانا وفضلا. .