د. عبدالله بن سليم الرشيد
ذكر المسعودي - ونقل عنه الذهبي - أن هارون الرشيد الخليفة العباسي (ت 193ه) رام أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم (بضم القاف والزاي وسكون اللام) مما يلي (الفرما) وهي بليدة في مصر، فقال له يحيى البرمكي: ان فعلت فسيختطف الروم الناس من الحرم، وتدخل مراكبهم الحجاز.
وبحر الروم هو المسمى اليوم (البحر الأبيض المتوسط)، وبحر القلزم هو (البحر الأحمر)، وفي هذا الخبر يستوقفني أمران:
الأول: أن أول من فكر - أو صرح بتفكيره - في حفر (قناة السويس) هو هارون الرشيد، وهذا يضيف الى سيرته الحافلة مأثرة عظيمة جداً، ولم أجد من أشار إليها مع ما فيها من دلائل على سعة أفق الرشيد، وتطور تفكيره.
الثاني: مشورة البرمكي بألا تحفر القناة مع ذكر العلة تدل على بعد نظره، وقراءته للمستقبل؛ لأن لقناة السويس اليوم من التأثير السياسي والاقتصادي ما هو ظاهر، فهي منفذ قوات عالمية، وطريق تجارية لا غنى عنها، والمتابع للتاريخ المعاصر يجد ما يصدق أهمية هذه القناة من جوانب عدة.
وبالإمكان أن يحلل موقف البرمكي تحليلاً آخر يستند الى ما قيل في تاريخه مع الرشيد - وأمر نكبة البرامكة مشهور مستفيض -، فقد يكون له مآرب أخرى، كأن يمنع الرشيد من أن يحظى بنسبة هذا العمل الجبار إليه، وللمتخصصين في التاريخ الكلمة الفصل في هذا الموضوع.
من عجائب التاريخ أن تولد الفكرة فتجهض، ولا يتسنى لها أن تكون حقيقة إلا بعد أكثر من ألف عام، فقد حفرت القناة ما بين 1859- 1869م بإشارة من سعيد باشا، وتولى حفرها فريق ضخم من العمال بإشراف فردينان دي ليسبس، وطولها 168كم.
المصدر