ذهبتُ لزيارته بعدما جاءتني والدتي وأخبرتني أنه مريض جداً ..شَكّيتُ لها أن ظروفي المالية لا تسمح بالذهاب إليه الآن .... فقالت لابد وأن تقوم بزيارته إنه لا يحتاج منك مالاً هو فقط يريد أن يراك .. ولم يسأل إلا عنك ، وظل يتحدث عنك كثيراً ......... وذكرت لي الكلام والوصف الجميل الذي قاله عني أمام كل الحضور الذين جاءوا لزيارته ....... كلامها أثلج صدري ، وعزمت النية على أن اثبت له أني كما يقول عني بل وأكثر ...... نعم فهو ( خالي ) وكان أيضاً رجل طيب القلب جداً ، صافي ... لم يحقد أبداً على أي شخص ..... دائما مبتسم حتى في أحلك الظروف .... كثيراً ما تجده يحدثك عن الخير الذي عنده والأموال التي في متناوله ، بل ويقوم بعرض خدمات مالية عليك إن كنت تحتاج .. لدرجة تشعرك أنك لو طلبت أي مبلغ سيعطيك ما تريد .... بينما في الحقيقة ربما قد يكون استدان أجرة الطريق .... وبيته يكاد يخلو من طعام لأهل بيته ... حنون على أهله وأقاربه ... ودود ... أبيض الوجه مستدير كالبدر .. تتوسطه شامة سوداء تزيده جمالاً ... تزينه ابتسامة دائمة لا مكر فيها ولا رياء ....نعم فهو كذلك بل وأكثر ..... بعدما قمتُ بتدبير مبلغ من المال وقامت زوجتي بكي ملابسي ... ركبتُ الطريق المؤدي إليه .... وكلي شوق لتلك اللحظة التي سأدخل عليه فيها ويقوم من بين كل الحضور ليأخذني بالأحضان .... كلما انصرمت مسافة من الطريق يتغير مشهد اللقاء كما أتخيله .... فمرة يقوم من فراش المرض ليستقبلني أمام الناس فيعرفون قدري عنده ... مرة ثانية يقول لي مرحب يا أمير يا بن الأُمرا ... مرة ثالثة يقول مرحب يا غالي يا بن الغالية .... إلى أن وصلت لمنزله .. في البداية استقبلني بناته الأربع بالأحضان والقبلات والشوق ..لم يكن ذلك بالأمر الغريب فقد اعتدت منهم ذلك فقد اكتسبن كل حنان والدهن لكن ما أحرجني هو وجود أزواجهن الواقفون أيضاً لاستقبالي فمنهم من اتسعت حدقتيه تستهجن ما يحدث ومنهم من رأى أن ذلك أمر طبيعي و مودة أشقاء ... ثم أخذتني إحداهن ودخلت بي على والدها الذي كان ينام على سرير في غرفة واسعة تكاد تكون مظلمة .... لم أستطع الوصول للسرير الذي يرقد عليه خالي من كثرة النساء اللاتي كن يجلسن في أرضية الحجرة ..... معظمهن من العجائز فوق السبعين والثمانين عاما ..... كنت أعرف بعضهن فانحنيت لمصافحتهن وتقبيل أيديهن وتلقي عبارات الترحيب منهن وحرارة اللقاء بعد مرور فترة من الزمن لم نتقابل ...... وسمعت همز بعض ممن لا يعرفنني من هذا ؟ فترد واحدة ألا تعرفيه إنه ابن ...... ؟؟؟ التي كانت هنا في الصباح ....... فترد بلهفة وطيبة ( يا حبيبي والله كبرت يا ولا ربنا يحميك لشبابك تعالى يا ود سلم عليا دانا ياما حملتك في حجري وانت صغيّر ) فأجلس أمامها لتمص خدودي كطفل رضيع يمصمص في خدود أمه فلا أسنان تحمل شفتاها المترهلة ..... كل هذا ولم أسمع كلمة ترحيب واحدة من خالي الذي لا يُبعد عني سوى خطوة واحدة .... وكأني غير موجود أصلاً .... شعرت ببعض من خيبة الأمل لما لقيته من معاملة خالي لي فما تعودت منه إلا حرارة اللقاء حتى وإن كن على سرير المرض ....وضعت يدي في جيبي لأخرج المال الذي أردت أن أضعه في يده وأنا أصافحه.. وهممتُ إليه قائلاً أهو نائم ؟ كنت أتمنى أن يكون في نوم عميق فلم يشعر بقدومي لذلك لم يرحب بي ..... أجابتني ابنته التي جلست بجواره تمّلس على جبهته لا إنه مستيقظ ... انحنيتُ عليه .. كيف حالك يا خالي ؟ فلم يرد عليّ .... تعجبتُ !!!!!!! رفعت صوتي أكثر .. لكنه لا يجيب !!!!!! إنه ينظر إليّ ..... لكن أبدا عيناه زائغتان لا تلتقي بعيَنّي ... حاولت أن يرد عليّ ولو بإشارةٌ حتى من إصبعه أشعر بها أنه يراني ... لكن أبداً .... عَرفتُ أن بصره يخترقني !!! نعم فقد أصبح بصره حديد ... فاعتدلت بعدما قبّلته وأخرجت يدي من دون نقود فما عاد يحتاج نقودي ... وقفت أتأمله ..أنظر في وجه المشرق ... فتملصتا من عيني دمعتين كنت قد حاولت حبسهما .... جلست بجواره أتأمل تلك النساء اللاتي نكسن رؤوسهن وأقفلن أفواههن كأنهن يرتقبن قدوم الموت .... ألتزم الجميع الصمت ... مكثت أنظر نحو الباب مرة والشباك ثانية أترقب قدوم الموت ... وكيف سيدخل علينا ؟ ربما تهب علينا ريحاً الآن تحمل ذلك الموت الذي سيأخذه من بيننا !!!! ربما يخطئ الموت ويأخذ واحدة من تلك العجائز... ثم أنظر لخالي .. ماذا عسانا نفعل لنمنع عنك الموت ؟؟؟؟ ستفارقنا بعد قليل ... كيف يمكننا أن نخبئك في مكان لا يستطيع الموت الوصول إليه ؟ " قل يدرككم الموت ولوكنتم في بروج مشيّدة " ثم قطع شرودي هذا صوت خالي الذي علا فجأة فهرول الجميع إليه ...!! فطلب منا أن نخرجه من تلك الحجرة كأنه يحاول الهروب من الموت!! فتسارع اثنين من أصهاره ليحملاه لكنه أبى وأراد أن يمشي .... يريد أن يتشبث بالحياة التي ربما شعر بقرب مغادرتها ... فتأبطه رجلان وحاول هو أن يتعلق بهما .... ثم جاهد أن يرتكز برجليه على الأرض ... فكان يخطو خطوة ثم تنهار ساقيه معلنة قرب نهاية خدمتها ... فيحاول مرة أخرى ... وتكرر ذلك ... ظل يتجول في البيت محاولاً طرد الموت الذي حلق حوالينا ... كنت أنظر إليه ولا أملك أن أبعد عنه الموت أو أبعده عنه تذكرت قول الله تعالى " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " ثم طلب الاستحمام و تغير ملابسه .... فعلنا كل ما أمر به ثم أشار لشقيقه على جيبه و نطق بحروف غير مفهومة تفيد بأنه يحتفظ بثمن الكفن وتجهيز لوازم الغسل ... بعدها طلب الرجوع لنفس الغرفة ونفس السرير .... فنام نوما هنيئاً ....
فمات
وما شعرنا كيف ومن أين أتى الموت
إنا لله وإنا إليه راجعون