ويتابع حديثه خلال المبحث الثامن لنفس الكتاب "البلاغة العربية في ثوبها الجديد علم المعاني "، وعنوان الفصل هو " الإيجاز والإطناب والمساواة "
فيعودإلى المقدمة التي بدأ بها كتابه فيقول :
( وخرجنا بنتيجة أن البلاغة ليست في الإيجاز، ولا في الإطناب ...إنما البلاغة أن نخاطب الناس على قدر عقولهم ...تحدث العلماء بلغة العلم، والأدباء بلغة الأدب، والصغار بما يحبه الصغار، والنساء بما تفهمه النساء وتهفو إليه قلباً وعقلاً. ....)
ونجد أنه يثبت لنا أن الذكاء والفطنة قادرة على أن تبلغ هذا العلم فيقول :
( البلاغة فن رفيع، وذوق مرهف، وكلمة مجنحة، وروح عذبة شفافة، وذكاء حاد عظيم .
إني لأميل إلى تغليب أثر الذكاء على العوامل الأخرى، فالذكي وحده يبلغ ما لا يبلغه العالم والغنيّ والأديب وسواهم من العالمين )
ويضرب لنا أمثلة في ذلك فيقول :
( يتكاثر الخصوم السياسيون على عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه - وشنوا عليه غارات كلامية . وغارات حربية، حتى وصلوا إلى الكوفة، وفعلوا بأهلها الأفاعيل ..والكوفة عاصمته، وأهل شيعته ...ونادى بالناس : حيّ على الجهاد في الصيف، فاعتذروا إليه بشدة الحر، فأمهلهم إلى الشتاء، وجاء الشتاء، فدعاهم إلى الجهاد، فتعللوا بالبرد، واقتحم عدوهم عليهم قلب بلدهم، فلم يتحرّك لهم ساكن، ولم تَثُرْ فيهم نخوة، ولا كرامة ......
أفبعد هذا كله يحدّثهم عليّ - كرّم الله وجهه - حديث الوداد، أو يكلمهم بعبارات المحبة، أو يوجز لهم القول المؤنّب ....
لقد وقف – رضي الله عنه – وألقى خطبة مسهبة، لا أعظم منها ولا أروع .. رماهم بشهب وصواعق، وتركهم سبّة الأجيال على مدار الزمان ....
" يا أشباه الرجال ولا رجال، حُلُومُ الأطفال، وعقولُ ربّاتِ الحِجال ..لوَدِدْت أنّي لم أرَكم، ولم أعرفكم، معرفةٌ جرّتْ – والله – ندمًا، وأعقبت سدمًا ...قاتلكم الله ...يُغَارُ عليكم، ولا تُغيرون، ويٌعْصى الله وترضوْن ..."
أفليس المقام الذكي موجبًا لهذا السباب، ولهذه اللعنات،
ولهذه الكلمات النارية القاتلة ؟؟...
ومن ثم نجد يعود بنا إلى الحديث النبويّ فيقول :
( في حديث نبوي شريف لخّص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الدين الإسلامي بكلمة واحدة فقال : الدين المعاملة
ولو حاولنا أن نفسر ما تعنيه هذه الكلمة لوجدناها تنطوي على جوهر الدين كله، عبادةً، وتعاملًا، وسلوكًا ..
هذا الإيجاز جاء ليحفظه الإنسان على ظهر قلب، وليعرف دائمًا قيمة عمله ...أهو من الدين أم من غير الدين ...
بهذه الكلمة استطاع الرسول العظيم أن يجمع المعنى الكبير تحت لوائها ...وهذا هو الإيجاز الرائع، والبلاغة الحقّ....
ومن ثم يتابع ليبيّن لنا تقويم جديد للإيجاز والإطناب فيقول :
( يخيل إلينا أن الإيجاز والإطناب يصبّان في مجرى واحد، هو
" المساواة ".
والذي نعنيه بـ " المساواة " موافقة المعاني لمقدار الألفاظ، لا يزيد بعضها على بعض .
فالرجل الذي وقف أمام ملك، أو عظيم، أو وزير، أو عالم، وعبّر عن حاجته بكلمات معدودة، هو في ظاهر الحال رجل موجز، كلامه القليل أدّى مراده، وفعل فعله في نفس سامعه الذكّي العظيم ... وكان ذلك هو المطلوب ...
والسياسي الذي يقف أمام جماهير بلده، ويخطب فيها، مبيّنا لها السياسة التي ينهجها، والخطة التي يرسمها، والمستقبل الذي ينتظرها، والعقبات التي يواجهها، والأعداء التي يحاربها، والأصدقاء التي يسالمها ...يحتاج إلى كلام كثير، وشرح وتفصيل، وأدلّة وبراهين، لأن هذه الجماهير خليط من الناس، فيها المتعلّم، والجاهل، والمغفّل، وذو الفهم السقيم ....
إذن الغاية التي سعى إليها الرجل أمام الملك، والسياسي أمام الجماهير :
واحدة.ٌ .
فالأولى رمى إلى قضاء حاجة، أو جرّ منفعة، ووصل إلى ما أراد بكلامه الموجز، والثاني رمى إلى كسب ودّ الجماهير، وطاعتها، أو سوقها إلى حرب أو سلام، ووصل إلى ما أراد بكلامه الطويل .
أفلا نستطيع بعد هذا كله أن نقول :
إن الإيجاز والإطناب يؤدّيان إلى غاية واحدة، ويصبّان في مجرى واحد، هو " المساواة ". )