بيان ماركيز يعيد وجه الثقافة الغائب
2002/03/20
رياض أبو عواد
كشف البيان الذي أصدره الكاتب الكولومبي "جابريل غارثيا ماركيز" -الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982م- والذي يعلن فيه تضامنه مع الشعب الفلسطيني عن عجز المثقفين العرب عن القيام بمبادرات شبيهة.
وكان صاحب رواية "مائة عام من العزلة" قد أعرب عن إدانته للمجازر التي يرتكبها جلادو شارون والكيان الصهيوني؛ ليعيد الاعتبار للثقافة العالمية الإنسانية، ويعرِّي أمامنا ضمير أمتنا النائم، ويثبت أن الأدباء المتميزين يتحملون مسؤولية خاصة أمام ضمائرهم حماية لمستقبل البشرية.
وقد جاء هذا البيان في وقت بالغ الأهمية، خصوصًا بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر في نيويورك وواشنطن، وهمجية الجيش الإسرائيلي بارتكابه لمذابح متتالية ضد أبناء الشعب الفلسطيني؛ مستفيدًا من متغيرات الرأي العام الدولي ضد العرب والمسلمين.
وكان من أوائل ردود الفعل الإيجابية على البيان المقال هي خلقها حافزًا قويًّا دفع برلمان الكتاب الدولي إلى تشكيل وفد من المثقفين والكتاب العالميين لزيارة الأراضي المحتلة، وتحديدًا رام الله -في الفترة من 24 - 27 مارس 2002م- تضامنًا مع الشعب الفلسطيني في مواجهة المذابح التي يتعرض لها أبناء الشعب الفلسطيني يوميًّا على أيدي قوات الاحتلال، ومن أبرز من سيضمهم الوفد اثنان من حملة جائزة نوبل للآداب، هما: الكاتب النيجري "أوول سونكا"، والأديب البرتغالي "ساراموغو"، وهو الموقف الذي أيده ماركيز فورًا، وإن أبدى أسفه لعدم قدرته على المشاركة بسبب أوضاعه الصحية.
ويرى البعض أن موقف ماركيز كاشف لموقف المثقفين العرب الذين لم يبادروا باتخاذ مبادرات شبيهة إلا بعد نشر مقال أو بيان ماركيز في الصحف العربية التي سرعان ما امتلأت صفحاتها بعدة مقالات، تقارن بين موقف ماركيز وموقف "نجيب محفوظ" الأديب العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل؛ ليسارع محفوظ إلى التعبير عن سعادته بموقف غارسيا، وإن لم يقم بمبادرة مشابهة في هذا الشأن.
شكرًا ماركيز
بيان ماركيز إنما يدلِّل على موقف إنساني أعاد خلاله قراءة تاريخ الكيان الصهيوني في المنطقة؛ ليحدد في بيانه مجموعة من النقاط التي ما زالت تشكِّل جوهر النضال الوطني الفلسطيني، وإن تخلى عنها البعض.
افتتح ماركيز بيانه بمخاطبة الضمير الإنساني بمقارنة بين المشروع النازي والمشروع الصهيوني قائلاً: "نحن الذين نقاوم فقدان الذاكرة"؛ إذ رأى الوعاء الفكري لممارسات النازية متماثلاً مع الصهيونية، حيث ارتكز هتلر على نظرية المجال الحيوي لتحقيق مشروعه التوسعي باحتلال أراضي الآخرين، وتماثل بيجن مع هذا الموقف بقوله صراحة: إن الأراضي المحتلة عام 1967م هي ممتلكات يهودية ليس من حق أحد أن يطالب باستعادتها.
وأضاف أن: "ما أسماه هتلر الحل النهائي لمشكلة اليهود بوضعهم في معسكرات الاعتقال سيئة السمعة -هو ما رآه المخرج المناسب بالنسبة له- قد استند إليه الإسرائيليون من خلال الاستطراد في سرد وقائع الإبادة الجماعية لتبرير إبادة جماعية أخرى (وهي إبادة الفلسطينيين)".
لقد رفض "ماركيز" الابتزاز الصهيوني في قضية المحرقة قائلاً: "أما حكاية الملايين الستة من اليهود ضحايا هتلر، فمن الممكن إحالتها إلى ترسانة الخرافات اليهودية".
ويشير ماركيز إلى أن نظرية المجال الحيوي الصهيونية ارتكزت إلى أن اليهود شعب بلا أرض، وأن فلسطين أرض بلا شعب. هي ما قامت عليه الدولة الإسرائيلية غير المشروعة في 1948م، ولما تبين أن هناك شعبًا، وأن هذا الشعب الفلسطيني يسكن في أرضه، كان من الضروري حتى لا تكون النظرية مخطئة إبادة الشعب الفلسطيني، وهو ما تم بصورة منهجية منذ 50 عامًا.
نوبل غطاء للمذبحة
كانت هذه ثاني النقاط الهامة في بيان ماركيز؛ إذ أبدى استغرابه ودهشته بقوله: "من عجائب الدنيا حقًّا أن يحصل مثل مناحيم بيجن على جائزة نوبل للسلام تكريمًا لسياسته الإجرامية، فقد أعطته الجائزة في البداية الغطاء اللازم لأن يذبح، وبسلام وأمان، أكثر من 2000 لاجئ فلسطيني في المخيمات داخل بيروت عام 1982م، التي تطورت، في الواقع، خلال السنوات اللاحقة على يد مجموعة من أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية الحديثة، مع حتمية الاعتراف بأن الذي تفوق على الجميع هو التلميذ النجيب إريل شارون".
واعتبر ماركيز فوز بيجن والسادات بجائزة نوبل للسلام عام 1978م نوعًا من المكافأة على اتفاقية خادعة أرست قواعد السلام من طرف واحد وهو الطرف العربي، وهي الاتفاقية التي أودت بحياة السادات، وفتحت الفرصة أمام بيجن وتلامذته لارتكاب مزيد من المجازر.
"على الغرب أن يفيق من وهم اللاسامية" كانت هذه ثالث النقاط؛ إذ يحكي لنا في رواياته قائلاً: تصادف أن كنت في باريس، عندما ارتكب شارون -بغطاء من جائزة نوبل للسلام- مجازر صبرا وشاتيلا التي قتل خلالها ما يقرب من 3 آلاف فلسطيني في لبنان.
وتصادف أيضًا أن كنت في باريس، عندما فرض الجنرال "ياروزلسكي" سلطة العسكر ضد إرادة الأغلبية من شعب بولندا، أصابت الأزمة البولندية أوروبا بصدمة جعلتها تترنح من الغضب، وقمت شخصيًّا بالتوقيع على عدد كبير من البيانات التي تندد باغتيال الحرية في بولندا، وشاركت في الاحتفالية التي أقيمت تكريمًا لبطولة الشعب البولندي بمسرح (بير آدي بار) تحت رعاية وزارة الثقافة الفرنسية.
وعلى العكس من ذلك تمامًا ساد نوع من الصمت الرهيب عندما اجتاحت القوات الشارونية لبنان. علمًا بأن أعداد القتلى أو المشردين هناك لا تسمح بأية مقارنة مع ما حدث في بولندا.
وأدان ماركيز الصامتين على امتداد العالم الخائفين من الإعراب عن موقفهم، واحتجاجهم ضد هذه المجازر المستمرة حتى الآن رعبًا من اتهامهم بمعاداة السامية، وهم يبيعون بمثل هذه الطريقة أرواحهم في مواجهة ابتزاز رخيص كان عليهم أن يواجهوه بالاحتقار.
ضد التطبيع
ومن خلال بيانه أدان "ماركيز" مواقف مثقفين عرب نادوا بتطبيع العلاقة مع إسرائيل، وهو ما يدفعني إلى التفكير في بعض مواقف عدد منهم، وبشكل خاص الكاتب العربي الوحيد المساوي لمستوى مركيز على الصعيد العالمي الأديب المصري الكبير/ نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1988م، الذي لم يجد ما يعلق عليه سوى الجانب الشكلي للبيان بقوله لأسبوعية "أخبار الأدب" القاهرية - في عددها السابق الصادر في 17-مارس-2002م- قائلاً: "إن قيمة هذا المقال أنه يجيء من كاتب غير عربي؛ إذ كتب الكتاب العرب ويكتبون وسوف يستمرون في إبداء رأيهم، ولكن لا يُصغى إلى أصواتهم في الغرب؛ لأنهم طرف في الصراع".
وذكرنا محفوظ بما كتبه عن القضية الفلسطينية في كلمته التي كتبها بمناسبة حصوله على نوبل وقال: "إن ماركيز صوت قوي لا يمكن اعتباره معاديًا للسامية، إنما هو معبِّر عن الضمير الإنساني، وإنه يشكر الذين أيَّدوا مقال ماركيز وأيضًا الذين أحسنوا الظن به، وطالبوه بموقف مماثل، وقال: إنه عبر عن موقفه من قبل وفي مواقف عديدة".
في حين تجاهل محفوظ -في رأيي- الجوهر الذي تضمنه مقال البيان تجاه كامب ديفيد والتعامل مع إسرائيل ككيان صهيوني، وضمن هذا السياق يستلفِت النظر أن محفوظ في كل مشواره الإبداعي ورغم وصوله إلى التسعين، ومعايشته أحداث المنطقة كاملة لم يكتب كلمة واحدة عن القضية الفلسطينية التي أثرت وما زالت تؤثر بشكل عميق على كل المنطقة العربية، وخاصة مصر، في أي رواية من رواياته، كما يؤكد الباحث والناقد المصري "صبري حافظ"!!
وكان الأولى -من وجهة نظري- أن يندفع محفوظ إلى جانب الشعب الفلسطيني في محاربته إسرائيل، بدلاً من كونه أول المثقفين الداعين إلى عقد الصلح مع إسرائيل، وذلك في حديث له أثناء لقاء المثقفين المصريين مع الرئيس الليبي معمر القذافي في عام 1972م؛ مبررًا ذلك بعدم قدرة العرب على محاربتها.
وهو ما جعله يشذّ عن موقف غالبية المثقفين المصريين إثر توقيع اتفاقيات كامب ديفيد؛ ليعلن عن تأييده لها دون أن يرى تأثيرات ذلك على المدى البعيد على المصالح الإستراتيجية المصرية أو العربية، وقد عانى محفوظ كثيرًا؛ بسبب هذا الموقف، حيث منعت أعماله من دخول الدول العربية، ولم يرفع الحظر إلا بعد حصوله على نوبل، كما جاءت مواقفه تجاه الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية تفتقد -في رأيي- الصلابة والتضامن المنتظرين ممن مثله.
وينطبق هذا أيضًا على غيره من كتاب عرب مشهورين، بعد أن أعلنوا عن مواقف مرحّبة في التطبيع مع إسرائيل، مثل: المغربي طاهر بن جلول الذي زار إسرائيل، ومحمد شكري الذي رحَّب بتوقيع اتفاقات مع دور نشر إسرائيلية لترجمة أعماله إلى العبرية، كما اندفع غيرهما لفتح الحوار مع الكتَّاب الإسرائيليين.
بيان ماركيز يجعلنا نتطلع لإجابة عما إذا كان يمكن لبعض مثقفينا أن يعيدوا قراءة مواقفهم، وهم أصحاب المصلحة الحقيقية في تبني مواقف "جابريل غارثيا ماركيز" الإنسانية والحقيقية فيما يتعلق بقضيتنا.
المصدر
http://www.islamonline.net/arabic/ar...rticle11.shtml