بسم اله الرحمن الرحيم

جدلية التاريخ الإسلامي
بين
الأدب والسياسة
بقلم
أ.د: بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو اللجنة العالمية للغة العربية


كم ردد أساتذتنا على مسامعنا ، ونحن على مقاعد الدرس والتلقي ما كانت تمتلئ به الكتب المدرسية يومذاك من أن العصـور الأدبية في تاريخنا العربي والإسلامي محددة ، ومقننة .. وهي نفس العصور السياسـية التي مرت بها الأمة العربية سواء بسواء .. يرتفع الأدب إذا ارتفعت السياسة ، ويهبط إذا هبطت .. ويمكن أن نقول بكل بساطة : إن الأدب العربي ظل للسياسة العربية والإسلامية وتابع لها .
ويعدد معلمونا العصور السياسية فيقولون :
إنها عصر جاهلي : لا يُعرَف ابتداؤه ، لكن خاتمته معروفة ، وهي ظهور الدعوة الإسلامية .
وعصر إسلامي : وحدوده الأولى فجر الدعوة المحمدية ، وحدوده الأخيرة استشهاد آخر خليفة راشدي .
وعصر أموي : ويبتدئ من أيام معاوية بن أبي سفيان ، وينتهي بسقوط الدولة الأموية على يد العباسيين .
وعصر عباسي : وأوله يوم تولى الخلافة أبو العباس عبد الله بن محمد المعروف بالسفاح ، وآخره يوم اجتاح المغول بغداد عاصمة الدولة العباسية .
وعصر انحطاط : ويبدأ من تاريخ دخول التتار بغداد ، وينتهي يوم دخل نابليون بونابرت مدينة القاهرة .
وعصر حديث : وهو من دخول نابليون إلى يومنا هذا .

ودارت الأيام .. ودخلنا الجامعات ، والتقينا بأساتذة كبار ، وعلماء أفذاذ .. وطالعنا كتباً لم يكن يعرفها معلمونا في المراحل الأولى .. فإذا معظم تلك المعلومات عن العصور ، وتحديدها ، ووصفها ... فيها بُعْدٌ شاسع عن الحقيقة .
أدركنا أن هذه التحديدات التاريخية أمور وهمية ، لا حقيقة لها في حساب الأدب ، ولا في دراسة الإنتاج الفكري.. وإذا صح هذا التقسيم للعصور في عالم السياسة إنه لا يصح في نطاق الفكر والفن والإبداع .. ولا يجوز بحال من الأحوال أن تُربَط عجلة الأدب بعجلة السياسة .
قد يقول قائل : إن الأدب صورة للحياة السياسية ، ومرآة صادقة عنها .. يعلو بِعُـلُوِّها ، وينحط بانحطاطها .
ومِثْـل هذه المقولة شائعة عند المدرسين الأولين ـ كما بينا ـ وكثيراً ما يشرحون معانيها ، ويطلبون من طلابهم إنشاء موضوعات فياضة على أساسها ، وفي تأييدها .
لكنا نقول اليوم : إن تاريخنا الأدبي لم يكتب بعد بالروح العلمية الموضوعية التي يجب أن يُكتب بها .. وإنه لم يزد على كونه تاريخ ملوك ، وأمراء ، وقادة .. أما تاريخ الشعوب فلمّـا يُكتبْ بعد ُ .
والحياة السياسية في الماضي ـ كما هي في الحاضر ـ ليست حياة ملوك ، وأمراء ، وقادة فحسب .. وإنما هي حياة شـعوب ، وأجيال ، وآمال ، وآلام .
كذلك ، فإن ربط الأدب بالتاريخ السياسي وحده أمر خطير ، وفيه من النقص الشيء الكثير . إنه يسلط بعض الضوء على فهم بعض الحقائق ، ولكنه يشوه كثيراً من المظاهر والحقائق .
وهل يستطيع عالم أو عاقل أن يقول اليوم : إن الأدب ظل للسياسة دائماً ، وإنه في حكم الرعية ، أو التابع ، أو الظل .. يقوى بقوة السـلطان ، ويضعف بضعفه ، ويكون بين بين حين يكون الســلطان بين بين ؟.
ألا نخطئ كل الخطأ حين نزعم أن الأدب العربي في العصر الأموي قوِيَ واشتد لأن الدولة كانت في مثل ألَقِ الشعاع ، وفورة الشباب ، ورَيِّـق العمر ..
على حين لم يكن للأدب الأموي مثل هذه القوة ، ولم يبلغ أعلى ذراه ، ولم يدرك أبعد مراحله ، ولم يكن حظه من الإبداع والإمتاع بالحظ الكبير ؟ .
ألا ندرك أن الأدب في الأندلس لا يختلف عن الأدب في دمشق ، وأنه لم يبلغ أقصى قوته إلا حين انقسمت الأندلس إلى طوائف ، وتدنت قوتها السياسية إلى درجة الاضمحلال ، وراح ملوك الفرنجة يقتطعونها قطعة فقطعة ؟ .
ألا نؤمن أن الأدب العباسي لم يبلغ ذروته إلا في القرن الثالث والرابع للهجرة يوم بدأت الدولة تعاني شدائد وويلات ، والأتراك يمزقون البلاد والعباد ، ويفعلون الأفاعيل ، ويعيثون في الأرض فساداً ، ويسملون عيون الخلفاء ، ويبقرون بطونهم ، ويدسون لهم السم في الطعام ، ويسجنونهم في أقفاص من ذهب ، ويرمونهم على أبواب الجوامع يستجدون الناس ، ويستعطونهم صدقة ...
ومع هذا فقد كان في هذه الآونة المظلمة أبو تمام ، والبحتري ، وابن الرومي ، والمتنبي ، والمعري ، والشريف الرضي ، والجاحظ ، والتوحيدي ، والصاحب .. وغيرهم ؟ .


إن الارتباط بين السياسة والأدب غير صحيح ،
وهو ارتباط مصطنع ، وجدلية عقيمة .. فالأدب لا يعرف حدوداً جغرافية ، ولا سياسـية دقيقة وصارمة ، وإن العصور تتداخل ، والآداب تتشابك ، والنماذج تختلط ، وإنه ليس من سور حديدي بين أدب وأدب ، وعصر وعصر .
إن كل عصر أدبي ليمتد بعيداً في عصر آخر ، كما يمتد الرأس في البحر .. وإن عصراً آخر ليتراجع بعيداً ، كما يتراجع البر أمام الخليج ، وإن عصراً ثالثاً لَيَغيب بعضه فتبقى منه أجزاء متفرقة كالجزر الموزعة هنا وهناك على صفحة البحر ، أو يغيب أكثره فلا تبقى منه إلا ذرى ناتئة .. وليس في العصور الأدبية هذا الشاطئ الصخري القائم كحد السيف .. ولكنْ فيه الشطآن التي امتلأت بالتعاريج ، وغصت بالفجوات ، وتناوبت عليها الصخور والرمال ، ومضت في البحر كاللسان الممدود ، وتقهقرت إلى الوراء كاليد الشلاء .
وما لنا نذهب بعيداً ونحن نجد هذا التواصل والترابط في كل الكائنات في واقعنا؟
وهل نستطيع أن نفصل بين أدوار الطفولة ، والصبا ، والشباب ، والشيخوخة ، والعجز ؟
ومن الذي يقدر أن يقول : إن هناك حاجزاً أملس يسقط بين صباه وشبابه ؟
أليس في الشيخوخة عناصر من الطفولة ، وفي الشباب بذور الشيخوخة ، وفي الكهولة ظلال متلاقية من العجز والفتوة ؟

ومن هذا المنطلق الكبير ، وهذه الجدلية الواضحة بين العصور سوف نشرع في إسقاط ضوء على بعض العصور الداكنة في تاريخنا الأدبي والإسلامي .. ونستخرج منها آيات رائعات تبهر العالم ، وتنير الدنيا ، وتذهب بكل ما قال به كثيرون عن ربط السياسة بالأدب .. في حلقات متتابعات .. سوف ندعـوها جميعـاً : (بقعـة ضوء في عصر معتم ). إن شاء الله وأعان .
حلب المحروسة
25/2/1429 هـ بكري شيخ أمين
3/3/2008 م