صفحة 4 من 6 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 الأخيرةالأخيرة
النتائج 37 إلى 48 من 68

الموضوع: مع رجاء النقاش

  1. #37 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 34 ) رجاء النقاش‏..‏ عليك سلام الله

    بقلم : صلاح عيسي
    .........................

    ليس في سيرة‏-‏ ومسيرة‏-‏ رجاء النقاش ما يختلف كثيرا عن مسيرة غيره من النخب الثقافية والفكرية والعلمية التي ساهمت في صنع مشروع النهضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتي اليوم‏.‏
    جاء مثلهم أو جاءوا مثله من آلاف القري والكفور والضيعات التي تنتشر علي خريطة الأمة‏,‏ ليجدوا أنفسهم رعايا في بلاد يحتلها الغزاة‏,‏ ويحكمها الطغاة‏,‏ ويحاصرها الجدب والجوع والفقر والمرض من كل اتجاه‏..‏ وانحدروا من أصلاب أسر مستورة تنتمي للشرائح الصغري من الطبقة الوسطي‏,‏ من ذلك النوع الذي لا يبيت علي الطوي‏,‏ ولا ينام‏-‏ مع ذلك‏-‏ ممتليء المعدة‏,‏ يتملكها رعب من السقوط في هاوية الحاجة‏,‏ ويقودها إصرار عنيد علي أن تصنع لأولادها مستقبلا أفضل وحياة أكثر سعادة‏,‏ في ربوع وطن لا احتلال فيه ولا طغيان‏,‏ يصبحون تحت علمه مواطنين احرارا لهم حقوق مرعية وملزمة لا رعايا ينتظرون المكرمات والعطايا‏,‏ ويتلقون الركلات والصفعات وهم يهتفون فيمن يضربهم‏:‏ ضربك فينا شرف لينا يا افندينا‏!!‏
    هؤلاء هم الأفندية‏..‏ أولاد الأفندية من صغار التجار وكتبة الدواوين وطلاب المدارس واسطوات الفابريكات وباشكتبة المحاكم وصغار علماء الأزهر‏,‏ ووكلاء مكاتب البريد وشاويشية الجيش والبوليس الذين قدر لهم أو لأبنائهم فيما بعد أن يقودوا الحلقات المتتابعة من مشروع النهضة العربية في كل المجالات‏,‏ من السياسة والحكم إلي الإدارة والحرب ومن الأدب والفن إلي العمارة والتشييد‏.‏
    من أصلاب هؤلاء جاء رجاء النقاش حين كان الزمن منتصف ثلاثينيات القرن الماضي وبينما كان الجيل السابق من الأفندية أولاد الأفندية يقود معركة ضارية ضد ديكتاتورية إسماعيل صدقي ويسعي لاستكمال مسيرة التحرر والديمقراطية التي بدأها عام‏1919.‏
    وما كاد رجاء النقاش يتعلم معني الكلمات حتي شغفته مجلة الرسالة التي كان والده‏-‏ مدرس اللغة العربية الذي يكتب الشعر‏-‏ يحتفظ بكل اعدادها القديمة ويحرص علي قراءتها كل أسبوع علي الرغم من قلة المال‏..‏ وكثرة العيال‏.‏
    كانت الرسالة‏-‏ التي أصدر أحمد حسن الزيات عددها الأول عام‏1932‏ قبل مولده بعامين‏-‏ منبرا لجيل من المثقفين المصريين والعرب‏,‏ تفتح وعيهم وازدهرت مواهبهم علي مشارف وفي أثناء وعقب الثورات الوطنية التحررية التي اشتعلت شراراتها في الأقطار العربية‏,‏ بعد الحرب الكونية الأولي في مصر‏(1919)‏ والعراق‏(1920),‏ وليبيا‏(1923)‏ والسودان‏(1924),‏ وسوريا‏(1925),‏ وفلسطين‏(1929),‏ يتعايشون علي صفحاتها علي الرغم من اختلاف منابعهم الفكرية‏,‏ ويتحاورون فيما بينهم حول مشروع للنهضة العربية يجمع بين الأصالة والمعاصرة‏,‏ وبين الموروث والوافد وبين الشرق والغرب وبين الوطنية والقومية‏.‏
    وعلي صفحاتها وعلي صفحات غيرها من المنابر والمنتديات الثقافية والفكرية والسياسية اكتشف رجاء النقاش موهبته وعرف طريقه واختار موقفه وتخلق ذلك الجيل من الأفندية أولاد الأفندية الذين سيقدر لهم فيما بعد أن يقودوا مشروع النهضة العربية في مرحلته التي بدأت حين نهضت الأمة‏,‏ من بين طيات ظلام‏-‏ وركام انقاض‏-‏ الحرب العالمية الثانية تهتف للاستقلال والحرية والعدل والوحدة‏.‏
    وكان رجاء في الثامنة عشرة من عمره يستعد لدخول الجامعة ليدرس في قسم اللغة العربية بكلية الآداب‏,‏ حين قامت ثورة‏23‏ يوليو‏1952,‏ ليتأكد له ولجيله أن تضحيات الأجيال السابقة من الأفندية أولاد الأفندية لم تضع هدرا وأن الزمن لم يتوقف والوطن لم يعقم والشعب لم يكف عن الحلم‏,‏ ولتفتح أمامهم أبواب الأمل في أنهم يستطيعون استكمال ما صنعه الأسلاف واستئناف مسيرة النهضة علي الرغم من كل العقبات‏.‏
    ومع أن الذين صنعوا الثورة وقادوا المشروع‏,‏ كانوا‏-‏ كذلك‏-‏ من الأفندية أولاد الأفندية‏,‏ ومن صغار الضباط أولاد صغار الموظفين و التجار وفي أحسن الأحوال أولاد عمد الأرياف‏,‏ ولم تكن الثقافة من بين همومهم الضاغطة أو الملحة‏,‏ فإن أبواب الأمل التي فتحوها علي مصراعيها‏,‏ سرعان ما اجتذبت إليهم‏,‏ كل المتخصصين والموهوبين والحالمين في كل المجالات‏:‏ من أبناء الشريحة ذاتها‏,‏ ليشاركوا في صياغة الحلم‏,‏ فلم يصدوا أحدا‏,‏ ولم يرفضوا فكرة‏,‏ طالما أن صاحبها لا ينازعهم الحق في قيادة المشروع‏,‏ وفي حيازة السلطة‏..‏
    هكذا حانت الفرصة لـ‏'‏ رجاء النقاش‏'‏ وجيله لكي يعبروا عن حبهم للوطن‏,‏ وانتمائهم للشعب بأن يشاركوا في صياغة المشروع الثقافي لثورة يوليو‏!‏
    وكان قد أخذ نفسه منذ البداية‏,‏ بالحزم الذي يليق بأصحاب الرسالات‏,‏ فعشق العمل‏,‏ وآمن بأنه مصدر كل الطيبات‏,‏ ولم يكف علي امتداد عمره‏-‏ منذ غادر الطفولة‏-‏ عن العمل الشاق صبيا وشابا وكهلا وشيخا‏,‏ يقرأ بعمق ويكتب بغزارة‏,‏ ويناقش بحرارة‏,‏ وكان أقسي‏,‏ ما يتعرض له‏,‏ هو أن تجبره تقلبات السياسة وعواصفها‏,‏ علي أن يكف عن العمل‏..‏ ولأنه كان يملك حيوية عقلية خارقة‏,‏ فقد كان ذهنه المشتعل لا يكف طوال الوقت عن الابتكار‏,‏ وعن توليد الأفكار والأحلام‏,‏ ولم تكن الثروة تشغله‏,‏ إذ كان ماهرا‏-‏ وموهوبا‏-‏ في تبديد ما يكسبه‏,‏ ولم تكن السلطة تعنيه‏,‏ إلا بمقدار ما تتيح له من فرصة للتأثير في الناس‏!‏
    ومنذ البداية‏,‏ وحتي النهاية‏,‏ ظل رجاء النقاش يخوض المعركة علي جبهة الثقافة والوعي‏,‏ انطلاقا من إيمانه بأنهما أساس وحدة الأمة وبأن الانتصار في ميدانهما‏,‏ هو الذي يقربها من حلمها‏-‏ وحلمه‏-‏ المراوغ‏:‏ الوصول إلي صيغة للنهضة تجمع بين الأصالة والمعاصرة وبين الموروث والوافد وبين الشرق والغرب‏,‏ وبين الوطنية والقومية‏..‏
    وهكذا نهض مع جيله‏,‏ لتجديد لغة الكتابة في النقد الأدبي‏,‏ ليخلصها من بقايا الزخارف اللفظية‏,‏ ومن التقعر الأكاديمي الذي يعني بالمصطلحات أكثر من عنايته بالأفكار والرؤي‏,‏ وساند بقوة كل تيارات التجديد والتحديث في الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والسينما علي صعيد الأمة بكل أقطارها‏,‏ وخاض المعارك في صف أصحابها ونيابة عنهم‏,‏ وجدد في شكل ومضمون المطبوعة الثقافية‏,‏ لتجمع بين الجاذبية والعمق وبين الفرجة والفكر‏,‏ وتبني الأجيال التي جاءت بعده‏,‏ وتحمس لها وسلط عليها الأضواء‏,‏ إذ كان يدرك منذ البداية‏,‏ أنه وجيله مجرد صفحة من صفحات مشروع النهضة العربية وأن عليهم أن يسلموا الراية لمن يأتي بعدهم‏,‏ كما تسلموها ممن جاء قبلهم
    رجاء النقاش‏..‏ عليك سلام الله والوطن‏!‏
    .......................................
    *الأهرام ـ في 14/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #38 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 35 ) رجاء النقاش‏..‏ حضرة المحترم

    بقلم: محمد حسين أبوالحسن
    .............................................

    كان ـ علي الدوام ـ شابا متمردا في غير جلبة‏,‏ متفجرا بالجديد الذي يغلي في العروق قبل أن ينتقل إلي أصابع اليد‏,‏ واعدا غاية الوعد‏,‏ مع أنه فقير غاية الفقر‏,‏ لا يحتمل عملا غير الحياة الممزوجة بالفن‏,‏ طاف الأزقة علي مدي عمره متنصتا إلي وعيد الحلاج وهو يساق إلي الصلب‏,‏ وسمع المتنبي وهو يتمتم بأبياته راسما دوائر نارية ومشعلا الحرائق أينما حل‏,‏ والقتلة يطاردونه من بقعة إلي أخري‏,‏ وتعلق بأهداب شكسبير و تولستوي وجوتة ونجيب محفوظ‏,‏ ومد عروق مودته إلي عبدالمعطي حجازي ومحمود درويش والماغوط وغيرهم‏.‏
    هكذا كان حضرة المحترم ـ بحق ـ رجاء النقاش كائنا مشعا تسبقه استنارته أينما ذهب‏,‏ لتفسح له المكان وتجذب إليه النفوس التواقة إلي العلم والمعرفة‏,‏ ما أن يحل في مكان حتي يتخلق مجلس علم وتلاميذ وأنداد وأفكار كبيرة كالنجف يبعث الضوء والبهجة‏,‏ رأيت هذا في احتفاء نقابة الصحفيين به أخيرا والحشد الهائل الذي تحلق حوله‏,‏ مما ذكرني بقصة طريفة وقعت للسيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد وابنة عمه‏,‏ عندما كانت تطل من نافذة قصرها بمدينة الرقة علي نهر الفرات‏,‏ ووجدت حشدا كبيرا من الناس يجتمعون علي شاطيء النهر‏,‏ سألت في دهشة عن السبب‏,‏ فقيل لها إن الناس اجتمعوا للترحيب بأحد كبار العلماء الذي وفد علي الرقة‏,‏ فقالت زبيدة‏:‏ هذا هو العز‏..‏ لا عزنا تساق إليه الناس بالسياط‏!‏
    ما أجمل ما قالته زبيدة وما أصدقه‏,‏ فعز العلماء قائم علي اختيار الناس ومحبتهم وإقبالهم دون فرض ولا إرغام‏,‏ وهذا هو العز الحقيقي لأنه نابع من القلوب المتحررة من كل الضغوط‏..‏ إن رجاء النقاش هو واحد من أهم نقاد زماننا‏,‏ واصل مسيرة طه حسين والعقاد مضيفا إليها تفرده الخاص عندما يقرأ الأعمال الأدبية والفكرية بعين الناقد المالك لأدواته‏,‏ بما يمكنه من وضع الكاتب والنص في المكان الصحيح‏,‏ دون أن يتخلي عن محبته الغامرة وهو يلتقط بمهارة مكامن القوة والموهبة‏,‏ مميزا بين الأصداف واللآلئ‏,‏ وكم سلط ضوء محبته علي كتاب لايعرفهم أحد‏,‏ فصاروا ملء الأسماع والابصار‏.‏
    وتكفي الإشارة برءوس أسهم إلي أبرز محاور مشروع النقاش النقدي والفكري بداية من الانحياز للتجديد واكتشاف المواهب وليس انتهاء بالمطالبة بالاصلاح الديني وإعادة النظر في حال اللغة العربية‏,‏ بكل ما في تلك المحاور من مباهج فكرية وروحية غمرنا بها كقراء وكتاب‏,‏ ومع أنه يضرب بسهم في مناهج العلم المنضبطة فإنه يظل أقرب لروح الفن من خلال الصحافة الأدبية التي شكلت النافذة الرئيسية التي انطلق منها للقارئ العربي‏,‏ مشبعا ظمأه الثقافي‏,‏ ومبقيا جذوة التفكير مشتعلة‏,‏ بكثير من متعة السرد ودقة العرض وعمق الفكرة وبراعة الربط بين الشخصيات والتجارب والأفكار والرؤي‏
    مقدما في ذلك كله خلاصة دقيقة واعية لمسئولية المثقف الحقيقي في مجتمعه‏,‏ في معرض حديثه عن الأديب الروسي العظيم ليرمنتوف‏,‏ فالمثقف ليس من مهمته ولا في قدرته أن يقدم الدواء لكل داء‏,‏ أو أن يصلح الدنيا بلمسة سحرية‏,‏ أو أن يكتشف حلا لكل مشكلة‏,‏ فهذا كله مستحيل وخطأ في التقدير‏,‏ فالمثقف الموهوب الصادق مهمته أن يضع يده علي المشكلة وأن يسحبها من الظلام أو الضباب ليضعها أمام كل العيون‏,‏ فإن أحسن المثقف التشخيص فعلي الجميع بعد ذلك أن يشتركوا في البحث عن حل سليم‏.‏
    وإذا كان بعض الفاعلين في الساحة الثقافية قد وجهوا يوما ما سهامهم صوب النقاش‏,‏ فإن الجميع علي تنوع مشاربهم ظلوا متفقين علي حقيقة جوهرية تقول إن رجاء النقاش كان ـ وسيظل ـ أحد الأقطاب الكبار في كوننا الثقافي والنقدي‏,‏ بعدما استصفي الماضي والحاضر الفكري العربي بقدرة نبوئية عالية‏,‏ ترسم ملامح مستقبل في طور التشكل والتكوين‏!‏
    ....................................
    *الأهرام ـ في 13/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #39 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 36 ) عاشق السودان

    بقلم: عبدالرحمن عوض
    ..............................

    في أقل من شهر فقدت الثقافة السودانية والعربية عاشقين متيمين مصريين د‏.‏يونان لبيب رزق‏1933‏ ـ‏15‏ يناير‏2008,‏ والأديب الكبير رجاء النقاش‏1935‏ ـ‏8‏ فبراير‏2008,‏ لقد كان د‏.‏يونان لبيب رزق حجة في تاريخ السودان من خلال أطروحته للدكتوراه‏,‏ وأما الراحل المقيم الأستاذ رجاء النقاش فقد قدم للأدب العربي المعاصر أهم أديب روائي في السودان والأقطار العربية بعد مرحلة نجيب محفوظ ألا وهو الأديب الروائي الكبير الطيب صالح‏.‏
    لم تكن صلة الأديب الكبير رجاء النقاش صلة عابرة‏,‏ بل كانت صلة حميمة‏..‏ وطدها مع الأدباء السودانيين أبناء جيله‏:‏ الفيتوري ـ جيلي عبدالرحمن ـ تاج السر الحسن ـ محيي الدين فارس ـ الطيب صالح ـ علي أبوسن ـ محمد المهدي المجذوب ـ د‏.‏عبدالله الطيب ـ محمود عثمان صالح مدير مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي بأم درمان وغيرهم من الكتاب والصحفيين الذين فتح لهم الطريق في مجلة الدوحة القطرية إبان رئاسته التحرير وغيرها من الصحف والمجلات المصرية وتواصل معهم بحميمية‏.‏
    لقد ألم الراحل المقيم بخريطة الأدب العربي في السودان إلماما دقيقا من خلال قراءاته الواسعة والعميقة ومن خلال أصدقائه السودانيين من جميع التيارات الثقافية المتعددة في السودان‏.‏
    كلنا يذكر مقالته الشهيرة منذ عامين ليلة بكي فيها العقاد وقد كانت ليلة استضاف فيها الأدباء السودانيون الأديب العملاق عباس محمود العقاد في الأربعينيات‏,‏ وفيها أنشده الشاعر السياسي السوداني محمود الفضلي إحدي روائع العقاد من قصائده حتي تأثر العقاد وانسابت دموعه النادرة‏!‏
    لاشك أن السودان قد فقد برحيل الأستاذ رجاء النقاش هذا التواصل الثقافي الحميم بين القطرين الشقيقين بهذه الدقة في التناول والصدق في المشاعر الدافئة نحو الثقافة السودانية والعطاء الفكري عامة‏.‏
    كلنا يذكر منذ عامين اكتشافنا لأستاذ آخر يحمل اسم أحمد لطفي السيد‏,‏ ولولا يقظة ووعي والحس التاريخي عند رجاء النقاش لالتبس علينا الأمر بين الاسمين‏!‏ تذكرت الآن صدق أحاسيس الشاعر عبده بن الطبيب في مرثيته الخالدة لقيس بن عاصم‏:‏
    فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
    كنت انتظر أهرام الأحد لكي اقرأ مقالته الأسبوعية فإذا الناعي ينعيه مساء الجمعة حارما جماهيره العريضة علي أرجاء الوطن العربي من مقاله الذي يدافع فيه عن حق أو يدفع به ظلما أو ينير شمعة أو يجلو حقيقة وينفض الغبار عن منسيين ومتوارين خلف زوايا الإهمال والنسيان التاريخي‏.‏
    لم يكن الراحل المقيم رجاء النقاش عليه سحائب الرحمة وشآبيب المغفرة كاتبا انسانا فحسب بل كان جامعا للقلوب مؤلفا بين الثقافات العربية فكتب عن شعراء وأدباء المهجر وأبي القاسم الشابي وشعراء المقاومة الفلسطينية وغيرهم من أصحاب القضايا العربية‏.‏
    رحم الله تعالي المؤرخ الكبير د‏.‏يونان لبيب رزق والناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش وأسبغ عليهما من رحمته ومغفرته ورضوانه التي وسعت كل شئ‏.‏
    ونسأل الله تعالي أن يعوضنا عنهما خير العوض والخلف لهذين العالمين الجليلين من عشاق السودان وأنصار وحدة وادي النيل وعروبته‏.‏
    ....................................
    *الأهرام ـ في 13/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  4. #40 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 37 ) كان شعاعا متوهجا

    بقلم: د‏.‏ محمد المخزنجي
    ...............................

    لقد فقدنا ركنا جميلا ونبيلا من أركان الجمال المصري‏,‏ متمثلا في مثقف انسان رفيع الانسانية‏,‏ وناقدا ذي بصيرة ومعرفة لاتقف عند حدود المعرفة النظرية‏,‏ بل تتعداها الي المعرفة بشجون القلب وفتون الروح‏.‏
    وهذا يجعل من رجاء نقاش ناقدا متفردا يجيد لغة الوصل ما بين المبدع والمتلقي‏.‏ لقد كان فنانا فيما كتب وفيما نقد‏.‏ وانا أعتقد ان كل كاتب وكل شاعر وكل فنان مصري يناله شعاع من ضوء رجاء النقاش كفيل بأن يسبغ عليه اضاءة لاتتكرر وتظل مصاحبة له علي امتداد عمره الابداعي‏.‏ كان رجاء النقاش مستكشفا او مكتشفا‏,‏ ملهما للابداع الناجح والمبدعين النادرين‏.‏
    لقد أسعدني حظي مرتين عندما كتب عني رجاء النقاش مرة دون ان يعرفني فنلت بكتابته وساما تتضاءل الي جواره كل الجوائز والأوسمة‏.‏ أما المرة الثانية فهي معايشتي لرجاء النقاش لعدة أيام متواصلة‏.‏ وقد أذهلني هذا الروح الجليل‏,‏ وأكاد أقول الخارق‏.‏ فقد كان يعيش علي ملعقتين من العسل وملعقتين من الزبادي فقط في اليوم‏,‏ ومع ذلك يظل متوهجا ليرسل فيما حوله اشعة وضياء من المعرفة والتاريخ ويكشف عن ظاهر وباطن الجمالات في الأدب والفن والتاريخ‏.‏ وكان يرسل ذلك بذاكرة من حديد ورؤي ثاقبة‏.‏ لقد كان روحا خالصا‏.‏
    وأنا أشعر الآن بقدر هائل من الوحشة‏,‏ وأخشي اننا نفقد في هذا الزمان اعمدة للحق والخير والجمال‏.‏
    رحم الله رجاء النقاش واعاننا علي افتقاده
    --------------------------------------------
    *الأهرام ـ في 12/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  5. #41 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 38 ) ماذا يبقي ؟
    رجاء‏..‏ الصرح والقلم

    بقلم: ‏ سامي فريد
    ......................

    تفاجئنا الايام كدأبها دائما بما قد يحزن او يسر او يستغرب‏..‏ المفاجـأة هذه المرة كانت حزينة عميقة الحزن‏.‏ كلنا الي موت هذا صحيح لكن فقد عزيز من وزن وقيمة وقامة رجاء النقاش امر يحدث فينا شيئا كالصدمة‏,‏ لم اكن تشرفت بمعرفته في شخصه وإن تمنيت هذا وقد كنت واحدا من قرائه المتابعين لمقالاته وكتبه بالتقدير والاعجاب‏,‏ فهو الكاتب صاحب الرؤية والاسلوب وهو القريب جدا من قرائه‏,‏ لا يتعالي عليهم فيخاطبهم من قمة البرج العالي ولا هو المسف الذي يهبط بهم الي مهاوي الضلالة والتجهيل والخداع‏,‏ لم اقرأ له يوما ولا أظن غيري قد قرأ له مقالا لا يخاطب فيه هما من هموم الناس او قضية تشغلهم علي اي صعيد فكري كان‏..‏
    فهو الأديب السلس الذي يسكن قلب وعقل قارئه‏.‏ من الحياة يكتب يغمس قلمه في مداد الحياة إن جاز التعبير‏.‏ هذا هو الكاتب الذي يعرف معني ان تكون لكل صاحب قلم رسالة يعيش من اجلها‏..‏ أن يشهر قلمه من أجل ما ينفع الناس فيقول رجاء النقاش في مقدمة الطبعة التاسعة لكتابه الشهير التماثيل المكسورة الصادر ضمن سلسلة كتب مكتبة الاسرة تحت عنوان تأملات في الانسان‏:(‏ انني احب هذا الكتاب أكثر من أي كتاب آخر لي‏,‏ وذلك ببساطة لأنني كنت احاول في اثناء كتابته ان اعالج نفسي من الحزن والضيق بالحياة‏
    كنت احاول ان انتصر علي عوامل الهزيمة الروحية التي اوشكت يوما ان تسد امامي كل الطرق ان تسلب مني اي حماس للحياة او ابتهاج بها وكلما عدت الي فصول هذا الكتاب تدفقت في روحي عزيمة ان تنتصر علي الحزن والاسي والتشاؤم وبمرور الايام اكتشفت ان الكثيرين يشعرون نحو هذا الكتاب بنفس مشاعري وذلك لأنهم اصطدموا في طريق الحياة ببعض الاحزان الكبيرة ودخلوا مع هذه الاحزان في صراع حاد وارادوا ان ينتصروا فيه وان يواصلوا حياتهم رغم عدوان الاسي والاكتئاب‏.‏
    وحده رجاء النقاش الذي كان يحس هذه كله ولهذا كان انسانا قريبا جدا من كل انسان يعرفه او لم يعرفه‏,‏ ومن منا لم يعش مشكلة الخصومة مع الحياة حتي هؤلاء الذين يظنون انهم توافرت لهم اسباب السعادة والثروة وراحة البال يتساءل رجاء النقاش‏:‏ كيف يعيش الانسان في سلام مع نفسه وفي سلام مع الناس؟ وما الطريق الي ذلك ؟ وما العقبات التي تقف في طريقه وكيف يتصرف المهزومون في معركة الحياة وكيف يتصرف المنتصرون وما الأمل وما التفاؤل وما التشاؤم وما الاسي وما الفرح؟ نحن يحزننا ولا شك فراق رجاء النقاش بشخصه وسمته وروحه وفكره لكن يعزينا اكبر العزاء ان الصرح الذي خلفه من بعده سيظل يغمرنا نوره وسيبقي فينا ما خطه قلمه من اجل سعادتنا ما دمنا نحفظه ولا نضيعه‏...‏
    .......................................
    *الأهرام ـ في 14/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  6. #42 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 39 ) كان زهرة أبناء جيله

    بقلم: محمد إبراهيم ابو سنة
    ......................................

    صديقي رجاء النقاش زهرة أبناء جيله‏.‏ كان صوت هذا الجيل في النقد الأدبي‏,‏ وهوالذي رشحه لتبوؤ الريادة في الخمسينيات والستينيات‏.‏ وكان أستاذ النقد المبدع والثقافة بالاضافة الي أنه كاتب صحفي قدير‏.‏
    عرفته في بداية الستينيات عندما كان مراسلا لمجلة الأداب البيروتية‏,‏ واتصلت صداقتنا حتي النهاية‏,‏ لأنه في واقع الأمركان يعين أبناء جيله وجيلنا‏,‏ وأنا بالتحديد‏,‏ في نشر اعمالنا الأولي‏.‏
    واستمرفي هذا التقليد الجميل طوال حياته‏,‏ فمد لي العون عام‏1963‏ وكان له الفضل في أن نشرت عددا كبيرا من القصائد في مجلة الكاتب والهلال والكواكب والدوحة‏.‏
    واذا كان تولستوي يقول الأخلاق أندر من العبقرية فقد جمع النقاش بين الميزتين‏:‏ الأخلاق والعبقرية‏.‏ فلا يوجد صوت أدبي من جيلنا إلا ويدين بموقف او مساعدة وعون من رجاء النقاش‏.‏
    ومن أعماله التي لاتنسي ما كتبه عن العقاد ونجيب‏,‏ ومقدمته الرائعة للديوان الأول لأحمد عبد المعطي حجازي مدينة بلا قلب عام‏1958‏ وهي التي قدمت حجازي للقراء‏,‏ لقد استطاع النقاش أن يلعب ادوارا عدة كناقد وكرئيس تحرير عدد من المجلات‏,‏ فكان مؤثرا وفاعلا في الحركة الثقافية ومدافعا صلبا عن حركة الحداثة والأجيال الجديدة‏.‏
    وكان يتسم بالدماثة وبشخصية لابد أن تقع في حبها بمجرد ان تتعرف عليها‏.‏
    واذا كان الموت اختطفه وهو في قمة النضج فانه سوف يظل في الذاكرة الأدبية والثقافية نجما لامعا وثاقبا‏,‏ لأن انجازه لايعرف النسيان‏,‏ فجيلنا كله سواء شعراء او روائيين او نقاد يدين لهذا الناقد الرائع الجميل الذي قدم لمصر ولثقافتها أفضل العطاء وليتنا نعيد نشر أعماله ليعرف الجيل الجديد اية قامة أدبية رفيعة فقدناها‏.‏
    -------------------------------------
    *الأهرام ـ في 12/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  7. #43 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 40 ) فتنة اللعب في «المناطق الآمنة»

    بقلم: سيد محمود
    ......................

    تكشف السيرة المهنية للناقد الراحل رجاء النقاش جملة من الملاحظات المرتبطة بأوضاع الصحافة الثقافية في مصر التي كان أحد أبرز فرسانها طوال نصف قرن، فمنذ بداياته الاولى ربط النقاش نفسه بالثقافة العربية كما جسدها مشروع مجلة «الآداب» البيروتية والتي عمل النقاش مراسلاً لها من القاهرة سنوات عزها.
    وفي يقيني أن ارتباطه المبكر بهذا المشروع رسم خطوات حياته كلها ومكنه من الاطلاع على أعمال إبداعية ونقدية خارج مصر، الامر الذي جعله يتعافى من «الاحساس الشوفيني» الذي وسم مجايليه ومن جاءوا بعده من الصحافيين والنقاد المصريين الذين لم يفلح أحدهم في التكريس لأي موهبة عربية في مجال الإبداع الأدبي مقارنة بالدور الذي لعبه النقاش في تكريس مواهب في حجم محمود درويش وسميح القاسم والطيب صالح، هذا من ناحية،
    ومن ناحية أخرى أعطته تجربة «الآداب» فرصة التعرف على المواهب العربية في سياق شامل حرّر طريقة تعاطيه معها من التصورات الجاهزة التي تقيس كل ما ينتج خارج مصر على ما كان ينتج داخلها.
    وقد يكون صحيحاً أن الانتماء القومي كان السمة المميزة لعصر جمال عبد الناصر، إلا أن النقاش مارس طقوس هذا الايمان بطريقته الخاصة التي لم تكن نتيجة لتورط أيديولوجي مباشر يدفعه الى التماهي مع خطاب الثورة الناصرية بالكامل، أو الى العداء لها.
    وفي تقديري إن هذه «المسافة الآمنة» التي صنعها مع النظام الذي شكك دائماً في نيات من يعملون في ظله، مكنته من صناعة مشروعه المتكامل في الصحافة الثقافية والحفاظ عليه من دون خسائر كتلك التي دفعها مجايلون نتيجة صدامهم المتوالي مع السلطة، اذ يلفت النظر في سيرته انه لم يخف قط تبنيه للخط السياسي للنظام، ولعل ذلك يفسر أيضاً كونه واحداً من قلة من المثقفين والنقاد لم يصبها أذى الدولة الناصرية الذي طاول النخبة المصرية بأطيافها كافة، على رغم أن تصوره النقدي لم يكن مغايرا تماماً للتصورات النقدية الشائعة والتي روجت لها أجهزة الدولة التي كانت تغلب السياسي على الجمالي، على رغم رفضه العنيف للنقد الماركسي وآلياته.
    وبحسب تعبير صبحي حديدي كان النقاش «شديد الميل إلى إسقاط السياسة على الظواهر الإبداعية» بما في ذلك من تعسف. إلا أنه اتسم بالمقابل في ممارساته المهنية بكثير من الرحابة التي تقوم على الايمان بالتنوع الخلاق.
    ولعله أول من غامر بتقديم شعراء السبعينات في مصر من خلال الملف الذي نشرته مجلة «الهلال» ولا شك في ان من يتأمل المواد الصحافية التي نشرتها المجلة خلال الفترة التي تولى فيها النقاش رئاسة تحريرها يكتشف على الفور ملامح هذا المشروع وأركانه التي تواصلت فترة توليه رئاسة تحرير مجلة «الدوحة» القطرية في النصف الاول من ثمانينات القرن الماضي. وهو مشروع ينتصر للغة الصحافية السهلة ويراهن عليها في بناء جسور بين القراء والكتّاب من دون التورط في الخطاب النقدي النظري الجاف ومتاهاته.
    غير أن من اللافت أن النقاش بعد عودته إلى مصر نهاية ثمانينات القرن الماضي لم يشأ الاستمرار في هذا الدور النقدي الفعال على رغم خلو الـــساحة من الأسماء التي ساجلها ولعب معها طوال نصف قرن بعد رحــيل معظمها، لكنه فضل العودة إلى ذاكرته الحية والتقليب في صفحات التاريخ المصري بالكتابة عن بعض الرموز الثـــقافية والفكـــرية التي جرى تغيــيبها وهي «استراحة محارب» طويلـــة لم يرض عنها الجيل الجديد من المبدعين الذين اعتبروا انجازات النقاش شيئاً من الماضي، بينما كتابات علي الراعي وعبد القادر القط وفاروق عبد القادر التي التفتت إليهم كانت الأقرب والأكثر استجابة لتحولات المشهد الأدبي في مصر.
    ...................................
    *الحياة ـ في 14/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  8. #44 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 41) رجاء النقاش وعروبة مصر

    بقلم: ماجد السامرائي
    ...........................

    قبل اكثر من نصف قرن بدأ رجاء النقاش رحلته مع الكلمة. ومن مقالاته الأولى في «الآداب» البيروتية تعرّفنا إليه، كاتباً عروبيّ النزعة، والفكر، والروح، وناقداً يحمل في إهابه صوتاً مختلفاً. فهو إذ يقف مع الجديد، وينادي بالتجديد، كان يتصدى بروحه النقدية وبقلمه النافذ الكلمات، لما عُدّ يومها «تيارات متطرفة»، إن في الأدب أو في الفكر والسياسة.
    ويوم كتب مقدمته المطوّلة للديوان الأول لرفيق دربه الثقافي الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي «مدينة بلا قلب»، وقعنا، نحن قراءهما من خلال تلك المقدمة في أسر «الناقد الواقعي» الذي ينظر في الأدب من خلال الواقع، ويضمّ الأدب والإنسان الى هذا الواقع، جاعلاً من الإنسان قضية، ومن الواقع مرجعاً ومعاداً للاثنين، الإنسان والأدب، وخرج بالاثنين الى بهاء الموقف.
    وهو ربط الإنسان والأدب والفكر والواقع بمنظومة النظرة العروبية الجوهر التي كانت أساس الموقف القومي لرجاء النقاش حياة وفكراً وكتابات، كما كانت أساس الفكرة القومية ومنطلقها. ومن خلال الأدب والفكر النقدي عُرف رجاء النقاش في مصر والوطن العربي: كاتباً وناقداً عربي الموقف، بل من دعاة الموقف القومي في الثقافة.
    ويوم انكسر الحلم العربي في ستينات القرن الماضي (بانهيار أول تجربة وحدوية، ثم نكسة حزيران)، وجرت محاولات تصفية ما تبقى من هذا الحلم على أرض الواقع، باتفاقية كامب ديفيد، برزت يومها «الأفكار الانعزالية» تحاصر الحلم وحامليه أكثر، فتصدى رجاء النقاش لتلك «الموجة العارضة» في كتابه: «الانعزاليون في مصر»، ناقداً أفكارهم، وكاشفاً عن «أُصولها التاريخية»، وداحضاً اطروحاتها من خلال الوقائع والحقائق التاريخية، فكان بكتابه هذا أجرأ الأصوات الناقدة المنتصرة لعروبة مصر في تلك الحقبة الصعبة.
    وكما عمل على الانتصار للفكر الأصيل والفكرة الحية عمل أيضاً على إنصاف الأشخاص بإعادة ما كان لهم من تاريخ، وخصوصاً أولئك الذين كان يرى أن استمرار حضورهم رمزاً في الحياة الثقافية أمر مهم، للأفكار التي حملوها ونادوا بها. فكان كتابه «عباس محمود العقاد بين اليمين واليسار» يجلو صفحة، قد تكون غامضة أو مستورة، في حياة أديب ومفكر كالعقاد، معيداً الكثير من تفاصيل الصورة إليها، قبل أن تتبدد، وتضيع في زحمة «فوضى الأفكار» و «تداخلات الوقائع» كما ضاع الكثير، فإذا بالعقاد الذي وضعه رجاء النقاش بين تيارين متعارضين ومتناقضين، اليمين واليسار، يبدو لقارئ الكتاب بالصورة التي كان عليها في حياته السياسية والفكرية.
    ويوم تعرض نجيب محفوظ لبعض حملات التشكيك، والهجوم بأفكار غير ثقافية، ما كان من رجاء النقاش إلاّ أن يكتب «في حبّ نجيب محفوظ» واقفاً من خلال هذا «العنوان العاطفي» – أو هكذا يبدو – وقفة تعاطف مع سيد الرواية العربية وعنوانها التاريخي، في قراءة متميزة لحياة الرجل وأفكاره والبعد الإبداعي لوجوده.
    هذا كلّه، وكثير سواه، وهو اكثر من هذا بكثير، أنجزه رجاء النقاش في رحلة ثقافية بدأها بكتابه التأسيسي لمساره هذا «في أزمة الثقافة المصرية»، متواصلاً في رحلة ثقافية – فكرية امتدت به، ومعه، أكثر من نصف قرن. وكما كان نصف القرن ذاك حافلاً بالعطاء الثقافي والفكري في غير مستوى، كان أيضاً نصف قرن حافلاً بحروب، معلنة وخفية، على رجاء النقاش: الشاب، والرجل، والكهل، والشيخ. ولم تكن حروباً نظيفة، إن لم نقل إنها من نوع «الحروب القذرة»، تولتها أكثر من «جهة» وشخص.
    إلاّ أنها، على عنفها في بعض الحالات والمراحل، لم تفتّ في عضده - كما يقال - ولا أبعدته عن طريقه الذي اتخذ فيه مساره.
    إلاّ أن أكثر تلك الحروب مرارة في نفسه، وقد ظلت مرارتها في نفسه على امتداد ما أعقبها من سنوات وتحولات، هي تلك التي تعرض لها بـ «أيدي الأصحاب» و«أقلام الأصدقاء»، من الذين كان قدّم الكثيرين منهم الى الحياة الأدبية أو الصحافية. ولكن، ما أن تمكنت أيديهم من القلم، أو الموقع، حتى طعنوه من حيث لم يكن يتوقع. فما كان منه إلاّ أن يأسف، وقد أسف كثيراً، لكنه لم ييأس.

    إلاّ أنه حزن طويلاً، وأحسب أنه ودعنا وهو بعد حزين!
    ........................................
    *الحياة ـ في 10/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  9. #45 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 42 ) عن الراحل رجاء النقاش ... شهادة ناقد لا تمثل مرثية

    بقلم: د.صلاح فضل
    ..........................

    قبل شهور قليلة استشعرتْ مجلة «الهلال» التي تدين لرجاء النقاش بأجمل لحظات توهجها الأدبي والثقافي، أنه بدأ يخبو بمطاردة المرض العضال، فخصصت عدداً تذكارياً له واستكتبتني كلمات فيه على سبيل الشهادة، ولم أعرف حينها ماذا كان وقعها على نفسه، وهل أرضته نغمة الحب والتقدير فيها، أم آلمته الصراحة النقدية في الكشف عن مواطن القوة والضعف لديه، في تقديري المتواضع.
    وعندما فقدنا رجاء النقاش الذي أضاء الصحافة الأدبية بإشراقة قلمه، وعمّر الحياة الثقافية العربية منذ إطلالاته الأولى في «الآداب» التي صنعت أجيالاً من طلائع المثقفين، حتى كلماته العذبة المقطرة المفعمة بالحب على صفحات «الأهرام» وغيرها من كبريات المنابر الأدبية. ولأن الشهادة لا يجوز تحويرها أو تغييرها أستأذن القارئ في أن أعيد سطورها تحية لواحد من ألمع نجوم النقد وأبرز رموزه في العصر الحديث:
    إذا كان النقاد عادة هم قضاة الفكر الأدبي، ورعاة العدالة الثقافية، الممسكون بميزان الإبداع، فإن تاريخهم يحفل عادة بأحكام القيمة، والزمن والجمهور وتطور الاتجاهات درجات لاستئناف هذه الأحكام أو نقضها، وتمحيص مدى نزاهتها، أو صدقيتهم، فإذا خرج الناقد من كل ذلك بريئاً من الهوى، بصيراً بأقدار الناس عزّز الثقة بمســتواه وترســخت قيـــمته في ضمير قرائه على مدى الأجيال المتعاقبة.
    ورجاء النقاش الذي تميز بنبوغه المبكر في مجال الكتابة النقدية، وهي تتطلب عادة نضجاً متمهلاً واستحصاءً بطيئاً، بهر قراءه بعين الصقر التي يمتلكها منذ صباه، فقد كان موهوباً في اكتشاف المواهب الكبرى والتنبؤ بمستقبلها الواعد، سواء كان ذلك في الشعر أو الرواية، وليس أدلّ على هذه المقدرة الفذة التي صدقتها الأيام من أسماء محمود درويش والطيب صالح وغيرهما، ولعل نشأة رجاء في أسرة حافلة بالإبداع والذكاء المبكر من الرجال والنساء أن تكون عاملاً مؤسساً لهذا الوعي الناضج والرؤية الثاقبة، لكن ما صاغه من التحيز الساذج والاندفاع وراء الهوى الشخصي في الدرجة الأولى هو براءته من العمى الأيديولوجي الذي كان سائداً في أوساط المثقفين من اليسار المصري في العقود الوسطى من القرن العشرين، فكم ضلل هذا العمى كبار النقاد وجعلهم يخطئون في النبوءة ويقدمون من لا يستحق التقدير على رغم ثقافتهم العالية وإخلاصهم الشديد، لكن احتكام رجاء النقاش إلى وجدانه الوضيء وضميره الفني الشفيف وضعه في زاوية الرؤية الصحيحة لمستقبل الإبداع، ومكّنه من احتضان الكتابة بعشق وحنان ودأب، وأتاح له فرصة امتلاك نعمة، إذا فقدها الناقد، اختلت البوصلة في يده، وهي الإصابة في معرفة أقدار الكتّاب، ونصيبهم من الإبداع، مهما كانت علاقته الشخصية بهم، وجعله في نهاية المطاف قادراً على الإسهام الفعال في صناعة استراتيجية الثقافة العامة. بيد أن هناك نعمة أخرى ظفر بها رجاء النقاش وتفادى ما تضمره من نقمة، وهي براءته من التقعر الأكاديمي الذي سقط فيه كثير من أساتذة الأدب والنقد، عندما سجنوا أنفسهم داخل أسوار الجامعات والمعاهد العلمية، فحرموا من الانصات لنبض الواقع الحي والكفاءة في قياس حرارته وجمالياته، وقد نذكر بشيء من الأسى بعض المناوشات الخفيفة التي قامت بينه وبين هؤلاء الأساتذة وكيف خرج منها منتصراً مؤمناً برسالة الفكر النقدي في التنوير والتحديث والتقدم من دون تعقيب أيديولوجي أو تقعر أكاديمي ممقوت.
    لكن نقطة الضعف التي حالت بين رجاء النقاش وتصدره مشهد النقد الأدبي بعد محمد مندور ولويس عوض وكان مؤهلاً لذلك، أنه لم يعبر محنة الاتصال المباشر بالثقافة الغربية في إحدى عواصمها الكبرى ولم يتقن بالقدر الكافي إحدى لغاتها باعتبارها منفذاً للتواصل الخلاق مع روح العصر والحضارة المجسدة له، فظل معلقاً بما يقدمه الآخرون من ترجمات من دون أن يصنع بنفسه أو يعجن بيديه «فطيرته» الخاصة معتمداً على فطرته ويقظته في التقاط ما يجود به الآخرون، وترتب على ذلك في فترة السبعينات المفصلية في تاريخ الفكر النقدي العالمي أن خرج صديقنا من دائرة القيادة للفكر النقدي العربي مع كفاءته العالية في ممارسته، ولم تشغله مشكلة المناهج المتغيرة بتطوراتها المعرفية المتوالية فاكتفى بمزاجه الشخصي وثقافته الموسوعية ونضارة حساسيته في تلقي الأعمال الإبداعية وإضاءتها بمقارباته الواعية. على أن إنجازات رجاء النقاش في مجال الصحافة الأدبية والثقافية سواء كان ذلك خلال رئاسته تحرير «الهلال» أو تخليقه لتيار عارم من الإبداع الصحافي والأدبي في مجلة «الدوحة» التي تعتبر من أنفس ما عمّر الذاكرة العربية من مطبوعات ثقافية، أسهمت في مضاعفة دوره في مجال الفكر والكتابة حتى أصبح اسمه يتوهج بالمعرفة والعطاء النبيل والمثمر في فلك التاريخ والتأصيل، ما جعله يحقق في نهاية الأمر إحدى أجمل رسالات الخطاب النقدي في حمل قارئه على عشق الفن والأدب والثقافة.
    احتفظ رجاء النقاش عبر مسارات متقلبة عنيفة في الحركة والعمل بقدر عظيم من التوازن محافظاً على طابعه الطفولي البريء حتى وهو في شيخوخته، فجعل من النقد الصحافي منبراً لتأكيد القيم العظمى في الوطنية والحق والخير والجمال، الأمر الذي جعل من كتاباته منبعاً ثرياً للمتعة الراقية ونموذجاً بديعاً للتواصل الجماعي الخلاق مع قرائه ومريديه.
    ...................................
    *الحياة ـ في 14/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  10. #46 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 43) نشــــارة الحيـــاة

    بقلم : د. جابر عصفور
    ............................

    يحكي رجاء النقاش ـ رحمة الله عليه ـ في كتابه الأخير أولاد حارتنا الذي صدر بعد موته أنه كان ذات يوم يشكو لنجيب محفوظ ضغوط عمله الصحفي وابتلاعه الوقت والعمر‏,‏ فنصحه نجيب محفوظ بأنه لايستسلم إلي ظروف الحياة مهما تكن صعبة‏,‏ ثم قال له‏:‏ اسمع أنا صنعت نفسي وأدبي كله من نشارة الحياة‏.‏ وقد هزت كلمة نشارة الحياة رجاء وعلمته أن لايشكو وان يحاول الانتفاع بكل دقيقة متاحة يستطيع فيها المرء ان يعمل وينتج‏,‏ فالشكوي لاجدوي منها ولافائدة‏,‏ انتهي كلام رجاء في الموضوع وهو بالفعل ظل يعمل وينتج إلي آخر أيام عمره‏.‏ وكان ذلك سبب الوفرة الاستثنائية التي يجدها المتابع لأعماله‏:‏ كتاباته وكتبه العديدة التي لا أزعم أنني قرأتها كلها لكني قرأت معظمها وأهمها علي السواء‏.‏
    لكن نشارة الحياة لم تكن تعني المعني نفسه عند رجاء النقاش فنجيب محفوظ كان يتحدث عن مادة الحياة الخام أو الغفل التي كان يستمد منها ابداعه‏,‏ والتي كان يحيلها من ركام لاتكف اكوامه عن التكاثر إلي ابداع لم تتوقف أعماله عن التزايد‏.‏ ولولا ذلك لما استطاع نجيب محفوظ ان يخلق عشرات النماذج البشرية التي حفرت لنفسها مواطن للتأمل والاعجاب في كل أعمال نجيب محفوظ‏,‏ ولا أريد ان احصي أو أن اقدم أمثلة‏,‏ فيكفي ان يسترجع قاريء نجيب محفوظ رواياته ليجد في كل رواية شخصية هي نموذج بشري يجمع ما بين العام والخاص علي نحو فريد وفي مشهد بالغ الاتساع يتميز بالتعدد والتنوع المذهل لنماذجه البشرية المستخرجة والمتحولة عن نشارة الحياة‏.‏
    أما نشارة الحياة عند رجاء النقاش فقد كانت تشير إلي معني آخر أقرب إلي طبيعة عمله وسياقات حياته العملية‏,‏ فقد كان ناقدا لامبدعا‏,‏ ومحررا أدبيا وليس أديبا‏,‏ ومفكرا سياسيا واجتماعيا وإداريا رأس أكثر من مجلة واحدي المؤسسات الصحافية‏.‏ وقد فرضت عليه ظروف الحياة أن يعمل وهو طالب وأن يظل يكتب في العديد من الصحف والمجلات علي امتداد الوطن العربي لاسباب يفهمها الذين يعرفونه عن قرب‏,‏ ولا أنسي أن متغيرات الحياة السياسية فرضت عليه المنفي الاختياري أو الهجرة في الزمن الساداتي الذي عادي التيارات القومية والناصرية‏,‏ وكان رجاء قوميا وناصريا فاضطر إلي قبول عرض للعمل في قطر التي رأس فيها تحرير جريدة الراية ثم مجلة الدوحة‏.‏
    وأتصور أن المعني السلبي الذي تنطوي عليه نشارة الحياة لاينفصل عن الأعمال المفروضة علي المرء دون أن يكون محبا لها أو حفيا بها‏,‏ أو حتي تدخل في دائرة اهتماماته الثقافية أو الأدبية أو حتي النقدية‏.‏ وقد كان صلاح عبدالصبور يسمي هذه الأعمال نثر الحياة الرديء وكان يشير بالتعبير إلي العمل الإداري الذي لابد من تأديته‏.‏ وكنت أتعاطف معه عليه رحمة الله‏,‏ كلما حدثني عن هذا النثر الرديء الذي اخذت اعاني منه تدريجيا علي المستوي الشخصي‏,‏ كما لو كنت قد وضعت قدمي علي حافة رمال متحركة تجر من يقوده قدره اليها إلي اعماقها التي يكمن فيها الموت المادي والمعنوي وكنت أرثي للشاعر المبدع العظيم صلاح الذي كان عليه ان يذهب كل يوم الي الهيئة العامة للكتاب ويحاول حل مشكلات عمال المطابع مرة ونقص الورق ثانية وانتهاء العمر الافتراضي لماكينات الطباعة ثالثة‏.‏
    والصراع اللاإنساني مع قيادات وزارة المالية فيما يخص بنود ميزانية الهيئة‏,‏ وأضف إلي ذلك عشرات المشكلات من النوع نفسه‏,‏ وذلك إلي الدرجة التي كنت أتخيل فيها صلاح‏(‏ الموظف‏)‏ بمثابة روبوت وظيفته التوقيع علي آلاف الاوراق ومراجعة آلاف موازية حتي لاينتهي مصيره إلي السجن‏.‏ وكنت أري مكتبه فوق ذلك كله تحول إلي قهوة يدخلها عابرو السبيل بلا موعد ولامطلب سوي الدردشة أو السلام أو طلب حاجة وما أكثر الحاجات والمطالب بالحق والباطل‏,‏ وما أكثر ما كان صلاح يلقي من طلاب الباطل جنبا إلي جنب المنافقين وذوي المواهب الصغيرة الذين لن تجد أكثر منهم تكالبا علي المطالبة بما لايستحقون من نشر أعمالهم الرديئة‏,‏ وقد كانوا ولايزالون كائنات بائسة ذبابية السمات والطبائع التي انتهت ولاتزال تنتهي بنشر الغث والتافه وما لاقيمة له‏.‏
    وكنت أري تحمل صلاح عبدالصبور لذلك الذي وصفه بأنه نثر الحياة الرديء‏,‏ ورأي رجاء النقاش بعض معناه علي نحو مضمر‏,‏ ولعله ترك لنا استنتاجه من عبارة نجيب محفوظ عن نشارة الحياة وهي المعني الذي نراه حاضرا في ابداع صلاح الشاعر‏,‏ خصوصا حين يتحدث عن كون خال من الوسامة‏,‏ أو رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة‏,‏ حيث المكرورون في زمن الحق الضائع‏,‏ الزمن الذي لايعرف فيه مقتول من قاتله ومتي قتله‏,‏ فرؤوس الحيوانات علي جثث الناس‏,‏ ورؤوس الناس علي جثث الحيوانات وصلاح الشاعر في هذا العالم الشعري لم يكن يختلف كثيرا عن صلاح الذي أجلسه حظه العاثر علي مكتب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب ونال ما لم ينله احد سواء من نشارة الحياة الثقافية وطفيلياتها أو من ذلك الكم الهائل من نثر الوظيفة الرديء‏.‏
    أذكر جيدا في سنوات حياته الأخيرة التي اقتربت فيها منه حين كنت أعمل نائبا لرئيس تحرير مجلة فصول عزالدين إسماعيل عليه رحمة الله بدوره وكنت أحمل عبء الاشراف التنفيذي للمجلة علي كاهلي وحدي بعد سفر النائب الثاني صلاح فضل وكنت انزل من إدارة المجلة في الدور الثاني أو المطابع وأشكو لصلاح في مكتبه بالدور الأول تكاسل عمال الجمع التصويري قبل أن تشيع أجهزة الكمبيوتر الاحدث أو أنفعل أمامه من تأخر عمليات فصل الالوان أو اعداد الزنكات وكان يقابلني دائما باسما في حنو الأخ الكبير ويعمل علي تهدئتي بحديثه عما كان يسميه الفقهاء زكاة البدن التي علينا ان نؤديها في أعمالنا أملا في أن نثاب بها وسرعان ما يترك ذلك خصوصا إذا كنا وحدنا ويحدثني عن مأساة حياته التي هجرها الشعر وتناوشها طفيليات المثقفين التي كان يشبهها بالإيرينيات المتوحشة أو الذباب المتوحش في مسرحية سارتر الشهيرة الذباب‏,‏
    وكانت الشكوي تنتهي عادة بعبارة يا جابر لقد تحولت حياتي إلي نثر لا نضارة فيه وها أنت تراني محاطا بنثر الحياة الرديء كل يوم‏,‏ وتكون النتيجة النهائية في الغالب أن اتعاطف معه وأنسي مضايقات عمال المطابع وغيرهم وأستمع اليه وهو يحدثني عن ضيقه بالوظيفة التي اضا عت منه الشاعر وعن حلمه بالسفر إلي جامعة هارفارد للبقاء فيها باحثا متفرغا لمدة عام في مناخ قد يبعث الشعر من تحت الرماد‏,‏ في وقدة لحظة كتلك التي عاناها في مانيلا عاصمة الفلبين‏,‏ حين حضر حفلا راقصا بوصفه رئيس الوفد المصري في قصر ماركوس‏,‏ حيث سمحت له جميلة الفلبين زوجة الرئيس السيدة إميلدا ماركوس بالرقص معها فأيقظت بعض الشعر من تحت الرماد وتفجرت فيه قصيدة الشعر والرماد الموجودة في آخر دواوينه الابحار في الذاكرة‏.‏
    ولكن سرعان ما انتهت اللحظة التي توهجت شعرا وعاد صلاح إلي القاهرة التي كان آخر ما قال عنها‏:‏
    مدينة كهذه المدينة الغريبة
    تكاثرت علي مدي الزمان كررت أيامها
    وخزنت في لحمها وجلدها المكررين
    تسع ملايين من المكررين‏.‏
    رحم الله صلاح الذي عاني من نثر الحياة الرديء بسبب قيود الوظيفة التي لم تمنحه البهجة قط‏,‏ ورحم الله رجاء النقاش الذي عاني مثل صلاح من نشارة الحياة التي لم يكن فيها سوء ما يئد الاحلام القديمة‏,‏ ورحم الله نجيب محفوظ الأكثر مكرا وحصافة وقدرة علي احالة النشارة الزائدة عن الحاجة إلي ابداع خالص يصوغه مبدع منضبط انضباط حضرة المحترم الذي كان الوجه الآخر من عرفة الساحر الذي خرج من الرمال المتحركة للوظيفة المعادية للابداع إلي جائزة نوبل‏.‏
    ........................................
    *الأهرام ـ في 10/3/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  11. #47 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 44 ) لم يعرفنا سطورا فقط

    بقلم: محفوظ عبد الرحمن
    ...............................

    صداقتي برجاء النقاش قاربت الخمسين عاما‏.‏ فقد تعرفت عليه ونحن طلبة في كلية الآداب‏,‏ ثم عمل مديرا لمكتب المجلة البيروتية التي كانت أهم منبر ثقافي في ذلك الوقت‏,‏ وكان ناقدا متميزا ومهما منذ البداية‏.‏
    ورأيي في رجاء أنه أهم نقاد الأدب في العالم العربي‏.‏ وقد استطاع ان يصل الي هذا بثقافة عميقة‏.‏ وكان يكتب بإحساسه فيصل الي القلب‏,‏ ويكتب النقد بطريقة أدبية‏,‏ لذلك كان مقروءا وممتعا‏.‏ وقد عايش الحياة ليري ظواهرها الثقافية ويتابعها ويحللها ليتعرف الناس عليها‏.‏ كان انسانا يتلقي ما يحدث حوله بانفعال شديد‏,‏ لكنه لم يكن انفعاليا بل كان العقل يسيطر عليه ويوجهه‏.‏ وعندما كان يشعر بأنه تجاوز الحدود يعود ويعتذر‏,‏ ولايعيبه ذلك الاعتذار‏.‏
    أعتقد اننا خسرنا صوتا ظل لآخر لحظة يعلمنا وينبهنا‏,‏ لكن عزاءنا أنه ترك للمكتبة العربية كتبا هائلة‏. ‏وقد قام بتعريف القاريء بالعديد من الكتاب‏,‏ ولم تكن معرفته بهم علي مستوي الكتابة فقط‏,‏ ولكن أيضا علي مستوي الاتصال بهم ومساعدتهم‏.‏
    فكل أبناء جيله استفادوا منه‏.‏ وأنا شخصيا استفدت منه كثيرا ونبهني لأشياء كثيرة‏,‏ وكذلك الأجيال التالية‏.‏
    نحن فقدنا علي المستوي العام جزءا مهما من ثقافتنا العربية‏,‏ وعلي المستوي الخاص‏,‏ فقدت صديقا قاربت صداقته الخمسين عاما‏.‏
    -----------------------------
    *الأهرام ـ في 12/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  12. #48 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 45 ) رجاء النقاش معلم أجيال وجسر محبة

    بقلم : محمد الشاذلي
    .........................

    لم يكن رجاء النقاش سوي أستاذ حقيقي ومخلص وملتزم لأجيال عدة وإذا كنت عرفته عن قرب اعتبارا من صيف العام‏88‏ أي ما يقارب عشرين عاما فإن ما خزنته الذاكرة الثقافية عنه لي ولجيلي قبل ذلك كانت كفيلة بأن أهابه مسبقا‏,‏ ولكن النقاش قطع كل هذه التفاصيل بتقريبنا منه كصحفيين شبان في دار الهلال‏,‏ وضمنا إليه مباشرة‏,‏ فوجدنا عنده ما كنا نبحث عنه‏,‏ سندا قويا‏,‏ معينا وناصحا لا يكل عن التبشير بنا وبمستقبلنا‏,‏ ولو كنا سمعنا نصف كلامه لكان لنا شأن آخر‏.‏ ربما كشف النقاش عن مواهب حقيقية في حياتنا الادبية مما اصبح تاريخا موثقا‏,‏
    وهوالمعروف والمقدر عند محمود درويش والطيب صالح واحمد عبد المعطي حجازي وجابر عصفور وأدباء الستينيات العظام وغيرهم‏.‏ ولكن اين نحن من هذا الجيل‏,‏ ربما احتاط رجاء بعض الشيء في تقييم المواهب الجديدة‏,‏ ولكنه لم يتوقف عن ذلك قط‏.‏ فهو دعم محمد المخزنجي في محنته الدراسية دون ان يقصد‏,‏ وحكي المخزنجي فيما بعد انه كان قد وصل الي طريق مسدود خلال دراسته الدكتوراه في روسيا‏,‏ إلي أن جاءته من مصر مجلة المصور مصادفة‏,‏ ليقرأ فيها مقالا نقديا عنه كتبه النقاش فغير مجري حياته‏.‏
    اكتشف في بلال فضل موهبة كبيرة كان يخجل فضل عندما يصفها النقاش بأن قلمه ساحر‏,‏ وقدم رواية لابراهيم عيسي بشر فيها بكاتب كبير‏,‏ وعندما انفجرت الموهبة الكبيرة علاء الاسواني قدم له قراءة متميزة‏.‏ لم يكن النقاش مجاملا إلا في حدود ولمن هم في البدايات‏,‏ ولكنه هو نفسه الذي خاض معركة بسبب قصيدة الشعر الحر مع عباس محمود العقاد‏,‏ وكتب عن يوسف أدريس الغاضب الوحيد بسبب رد فعل سلبي تجاه نجيب محفوظ لحظة إعلان جائزة نوبل في الأدب‏,‏ ورفض الكتابة عن يوسف السباعي صاحب النفوذ في الثقافة الرسمية‏,‏ كما كان في معركة مفتوحة ضد ادونيس بسبب صلابة موقف النقاش العروبي
    لانه لم يكن يهادن علي الإطلاق في مسألة انتمائه العربي وفي مواقفه القومية وللسبب نفسه كان ضد توفيق الحكيم ولويس عوض وغيرهما انتصارا لموقفه القومي العربي‏,‏ وإذا كان قد تصالح مع أدونيس فيما بعد فإن ذلك عن اقتناع واتفاق علي الشعر وإسهامات أدونيس الجديرة بالاحترام‏.‏ أما في بيت رجاء النقاش سواء بيته القديم في المهندسين أو الجديد في حدائق الأهرام فإنه قدم كثيرين منا الي كبار ضيوفه من الكتاب والمثقفين‏,‏ وجعل من محبته جسرا نلاقي في منتصفه أسماء كبيرة‏,
    ‏كما كنا نزهو عندما نقول إننا جلسنا الي الطيب صالح في بيت رجاء النقاش‏,‏ واستمعنا الي محمود درويش وإلي دفء حكايات جابر عصفور بعد ان يتحلل من سمت الاستاذ الجامعي والموظف الكبير‏,‏ وتعرفنا إلي محمد فائق ومحمد ابو الغار هناك‏,‏ كما قدمنا الي جميع أفراد أسرته المثقفة‏,‏ وقبل ذلك الي رفيقة عمره العظيمة الدكتورة هانية‏.‏ كتب النقاش وحدثنا طويلا في بيته عن أساتذته‏,‏ عن زكريا الحجاوي‏,‏ أنور المعداوي‏,‏ الدكتور محمد مندور‏,‏ وأحمد بهاء الدين‏,‏ وأمينة السعيد‏,‏ وعن أصدقاء الزمن الجميل في شبابه‏:‏ حجازي‏,‏ صلاح جاهين‏,‏ سعد الدين وهبة‏,‏ حمدي قنديل‏,‏ أما جدية رجاء النقاش رغم حرصه علي الآخرين ومتابعتهم فكانت بادية في محاولات‏,‏ نحت في معظم الأحيان‏,‏ نحو الخصوصية‏,‏ فتعمد انتزاع اوقات للقراءة والكتابة من براثن الزمن والاصدقاء‏.‏ وكما عرفت منه فإنه في البداية تأثر بقراءاته الدينية في مكتبة والده المدرس الإلزامي في مسقط رأسه بقرية منية سمنود القريبة من المنصورة‏,‏ هكذا بدأ عهدا بالقراءة لم يعرف حدودا‏,‏ وكانت مكتبته العظيمة التي كونها بدأب من أعظم وأدق المكتبات التي عرفتها في بيوت كبار مثقفينا‏.‏ وحسب ما فهمت مشروع رجاء النقاش الثقافي من خلال قراءتي لمؤلفاته ومقالاته ومن خلال حديثنا المباشر فإن رجاء يري في الثقافة سبيلا رئيسيا للنهضة‏,‏ فهو لم يكن يؤمن بأن الثقافة ترف او فعل مجاني وإنما لها غاية عظيمة هي بالضرورة لمصلحة السواد الأعظم من الناس‏,‏ وأن هذه الثقافة في الوقت نفسه ينبغي أن تكون متعة عقلية وبصرية‏,‏ وهو ما يفسر احتفال النقاش بالفن الحقيقي الذي جسدته في الأعماق أم كلثوم وفيروز والشيخ إمام وعفاف راضي وكل موهبة حقيقية في هذا الوطن‏.‏
    --------------------------------------------
    *الأهرام ـ في 12/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. أنيس النقاش
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11/01/2014, 10:43 PM
  2. رجال واقفون
    بواسطة وردة قاسمي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 17/05/2010, 11:36 AM
  3. تأملات في الإنسان - من أعمال رجاء النقاش
    بواسطة وليد زين العابدين في المنتدى فسيفساء المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 24/07/2009, 10:58 AM
  4. وفاة الناقد المصري رجاء النقاش
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09/02/2008, 09:19 PM
  5. رجال واشباه رجال
    بواسطة وائل في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 01/01/2008, 03:31 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •