( 34 ) رجاء النقاش.. عليك سلام الله
بقلم : صلاح عيسي
.........................
ليس في سيرة- ومسيرة- رجاء النقاش ما يختلف كثيرا عن مسيرة غيره من النخب الثقافية والفكرية والعلمية التي ساهمت في صنع مشروع النهضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتي اليوم.
جاء مثلهم أو جاءوا مثله من آلاف القري والكفور والضيعات التي تنتشر علي خريطة الأمة, ليجدوا أنفسهم رعايا في بلاد يحتلها الغزاة, ويحكمها الطغاة, ويحاصرها الجدب والجوع والفقر والمرض من كل اتجاه.. وانحدروا من أصلاب أسر مستورة تنتمي للشرائح الصغري من الطبقة الوسطي, من ذلك النوع الذي لا يبيت علي الطوي, ولا ينام- مع ذلك- ممتليء المعدة, يتملكها رعب من السقوط في هاوية الحاجة, ويقودها إصرار عنيد علي أن تصنع لأولادها مستقبلا أفضل وحياة أكثر سعادة, في ربوع وطن لا احتلال فيه ولا طغيان, يصبحون تحت علمه مواطنين احرارا لهم حقوق مرعية وملزمة لا رعايا ينتظرون المكرمات والعطايا, ويتلقون الركلات والصفعات وهم يهتفون فيمن يضربهم: ضربك فينا شرف لينا يا افندينا!!
هؤلاء هم الأفندية.. أولاد الأفندية من صغار التجار وكتبة الدواوين وطلاب المدارس واسطوات الفابريكات وباشكتبة المحاكم وصغار علماء الأزهر, ووكلاء مكاتب البريد وشاويشية الجيش والبوليس الذين قدر لهم أو لأبنائهم فيما بعد أن يقودوا الحلقات المتتابعة من مشروع النهضة العربية في كل المجالات, من السياسة والحكم إلي الإدارة والحرب ومن الأدب والفن إلي العمارة والتشييد.
من أصلاب هؤلاء جاء رجاء النقاش حين كان الزمن منتصف ثلاثينيات القرن الماضي وبينما كان الجيل السابق من الأفندية أولاد الأفندية يقود معركة ضارية ضد ديكتاتورية إسماعيل صدقي ويسعي لاستكمال مسيرة التحرر والديمقراطية التي بدأها عام1919.
وما كاد رجاء النقاش يتعلم معني الكلمات حتي شغفته مجلة الرسالة التي كان والده- مدرس اللغة العربية الذي يكتب الشعر- يحتفظ بكل اعدادها القديمة ويحرص علي قراءتها كل أسبوع علي الرغم من قلة المال.. وكثرة العيال.
كانت الرسالة- التي أصدر أحمد حسن الزيات عددها الأول عام1932 قبل مولده بعامين- منبرا لجيل من المثقفين المصريين والعرب, تفتح وعيهم وازدهرت مواهبهم علي مشارف وفي أثناء وعقب الثورات الوطنية التحررية التي اشتعلت شراراتها في الأقطار العربية, بعد الحرب الكونية الأولي في مصر(1919) والعراق(1920), وليبيا(1923) والسودان(1924), وسوريا(1925), وفلسطين(1929), يتعايشون علي صفحاتها علي الرغم من اختلاف منابعهم الفكرية, ويتحاورون فيما بينهم حول مشروع للنهضة العربية يجمع بين الأصالة والمعاصرة, وبين الموروث والوافد وبين الشرق والغرب وبين الوطنية والقومية.
وعلي صفحاتها وعلي صفحات غيرها من المنابر والمنتديات الثقافية والفكرية والسياسية اكتشف رجاء النقاش موهبته وعرف طريقه واختار موقفه وتخلق ذلك الجيل من الأفندية أولاد الأفندية الذين سيقدر لهم فيما بعد أن يقودوا مشروع النهضة العربية في مرحلته التي بدأت حين نهضت الأمة, من بين طيات ظلام- وركام انقاض- الحرب العالمية الثانية تهتف للاستقلال والحرية والعدل والوحدة.
وكان رجاء في الثامنة عشرة من عمره يستعد لدخول الجامعة ليدرس في قسم اللغة العربية بكلية الآداب, حين قامت ثورة23 يوليو1952, ليتأكد له ولجيله أن تضحيات الأجيال السابقة من الأفندية أولاد الأفندية لم تضع هدرا وأن الزمن لم يتوقف والوطن لم يعقم والشعب لم يكف عن الحلم, ولتفتح أمامهم أبواب الأمل في أنهم يستطيعون استكمال ما صنعه الأسلاف واستئناف مسيرة النهضة علي الرغم من كل العقبات.
ومع أن الذين صنعوا الثورة وقادوا المشروع, كانوا- كذلك- من الأفندية أولاد الأفندية, ومن صغار الضباط أولاد صغار الموظفين و التجار وفي أحسن الأحوال أولاد عمد الأرياف, ولم تكن الثقافة من بين همومهم الضاغطة أو الملحة, فإن أبواب الأمل التي فتحوها علي مصراعيها, سرعان ما اجتذبت إليهم, كل المتخصصين والموهوبين والحالمين في كل المجالات: من أبناء الشريحة ذاتها, ليشاركوا في صياغة الحلم, فلم يصدوا أحدا, ولم يرفضوا فكرة, طالما أن صاحبها لا ينازعهم الحق في قيادة المشروع, وفي حيازة السلطة..
هكذا حانت الفرصة لـ' رجاء النقاش' وجيله لكي يعبروا عن حبهم للوطن, وانتمائهم للشعب بأن يشاركوا في صياغة المشروع الثقافي لثورة يوليو!
وكان قد أخذ نفسه منذ البداية, بالحزم الذي يليق بأصحاب الرسالات, فعشق العمل, وآمن بأنه مصدر كل الطيبات, ولم يكف علي امتداد عمره- منذ غادر الطفولة- عن العمل الشاق صبيا وشابا وكهلا وشيخا, يقرأ بعمق ويكتب بغزارة, ويناقش بحرارة, وكان أقسي, ما يتعرض له, هو أن تجبره تقلبات السياسة وعواصفها, علي أن يكف عن العمل.. ولأنه كان يملك حيوية عقلية خارقة, فقد كان ذهنه المشتعل لا يكف طوال الوقت عن الابتكار, وعن توليد الأفكار والأحلام, ولم تكن الثروة تشغله, إذ كان ماهرا- وموهوبا- في تبديد ما يكسبه, ولم تكن السلطة تعنيه, إلا بمقدار ما تتيح له من فرصة للتأثير في الناس!
ومنذ البداية, وحتي النهاية, ظل رجاء النقاش يخوض المعركة علي جبهة الثقافة والوعي, انطلاقا من إيمانه بأنهما أساس وحدة الأمة وبأن الانتصار في ميدانهما, هو الذي يقربها من حلمها- وحلمه- المراوغ: الوصول إلي صيغة للنهضة تجمع بين الأصالة والمعاصرة وبين الموروث والوافد وبين الشرق والغرب, وبين الوطنية والقومية..
وهكذا نهض مع جيله, لتجديد لغة الكتابة في النقد الأدبي, ليخلصها من بقايا الزخارف اللفظية, ومن التقعر الأكاديمي الذي يعني بالمصطلحات أكثر من عنايته بالأفكار والرؤي, وساند بقوة كل تيارات التجديد والتحديث في الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والسينما علي صعيد الأمة بكل أقطارها, وخاض المعارك في صف أصحابها ونيابة عنهم, وجدد في شكل ومضمون المطبوعة الثقافية, لتجمع بين الجاذبية والعمق وبين الفرجة والفكر, وتبني الأجيال التي جاءت بعده, وتحمس لها وسلط عليها الأضواء, إذ كان يدرك منذ البداية, أنه وجيله مجرد صفحة من صفحات مشروع النهضة العربية وأن عليهم أن يسلموا الراية لمن يأتي بعدهم, كما تسلموها ممن جاء قبلهم
رجاء النقاش.. عليك سلام الله والوطن!
.......................................
*الأهرام ـ في 14/2/2008م.