صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 الأخيرةالأخيرة
النتائج 13 إلى 24 من 68

الموضوع: مع رجاء النقاش

  1. #13 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 12) لماذا غضب عبد الناصر علي يحيي حقي؟

    بقلم‏: ‏رجاء النقاش
    .....................

    تحدثت في الاسبوع الماضي عن غضب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر علي اديبنا الكبير يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده‏,‏ وقد اعتمدت في حديثي السابق علي روايه استاذنا الجليل الدكتور ثروت عكاشه‏,‏ نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافه الاسبق‏,‏ اطال الله عمره وبارك في حياته وصحته‏,‏ بقدر ما قدم لشعبه وبلاده من خدمات جليله تنحني امامها الرووس ولا تزال تفيض علينا بالخير والنور‏.‏
    وقد غضب عبد الناصر علي يحيي حقي بسبب حضوره لجلسه تعرض فيها عبد الناصر لهجوم شديد‏,‏ واستطاع ثروت عكاشه بجهد استثنائي كبير ان ينقذ يحيي حقي من الاستغناء عنه‏,‏ والاكتفاء بنقله من منصبه الكبير كمدير لما كان يسمي باسم مصلحه الفنون الي العمل كمستشار لدار الكتب‏,‏ ثم اصبح بعد ذلك رئيسا لتحرير مجله المجله وظل يراس تحريرها من سنه‏1962‏ الي ان اصدر الدكتور عبد القادر حاتم قرارا باغلاق هذه المجله فور توليه لمسئوليه الاعلام والثقافه في منتصف سنه‏1971.‏
    وقصه غضب عبد الناصر علي يحيي حقي التي يرويها الدكتور ثروت عكاشه في مذكراته لها روايه اخري يقدمها فضيله الشيخ الجليل احمد حسن الباقوري وذلك في كتابه بقايا ذكريات الصادر عن مركز الاهرام للترجمه والنشر في طبعته الاولي والوحيده فيما اظن سنه‏1988,‏ وفي هذه المذكرات يقول الشيخ الباقوري صفحه‏240:‏ كان من بين الندوات التي احرص علي حضورها والمشاركه فيها ندوه تجمع بين الحريصين علي المعارف والعلوم‏,‏ وخاصه ما يتعلق منها بتفسير القران العظيم‏,‏ وما يتعلق به من مباحث اللغه العربيه الشريفه‏,‏ وكان يصحبنا في هذه الندوه افاضل من ارباب الاقلام واهل البصر بشئون السياسه وشئون الدين‏,‏ ومنهم الدكتور ناصر الدين الاسد والسيد الفاضل عبد الله التل قائد معركه القدس الشريف في حرب فلسطين الاولي سنه‏1948‏ والاستاذ يحيي حقي وكانت الندوه تنعقد في بيت الاستاذ محمود شاكر‏,‏ وكنا في هذه الندوه كثيرا ما نجمع بين متعتين‏:‏ المتعه بالطعام الطيب والمتعه بالكلام الشريف‏.‏
    ثم يقول فضيله الشيخ الباقوري‏:‏
    لم يكن لمثلي في شده حرصه علي مجامله الناس ان يمتنع عن السعي لاغاثه ملهوف او العمل علي طمانه حيران‏,‏ بدليل ان الندوه مجتمعه رغبوا الي ذات يوم ان اعمل علي انقاذ الاستاذ يحيي حقي من اخراجه في حركه التطهير التي كانت تهدف الي تطهير السلك الدبلوماسي من كل من له زوجه غير مصريه‏,‏ وكان يحيي حقي سفيرا لمصر في ليبيا يومئذ وكانت زوجته فرنسيه‏.‏ واذكر انني ذهبت لمقابله اخي الفاضل الدكتور محمود فوزي ووزير الخارجيه في ذلك الوقت ورجوته ان يستثني يحيي حقي من هذا القانون‏,‏ فاجابني الرجل رحمه الله بانه لا يعدني بالاستثناء‏,‏ ولكنه يعدني بان ينقل يحيي حقي من السلك الدبلوماسي الي عمل يليق به في الوزارات التي تحتاج الي عمله‏,‏ وقد نفذ الدكتور محمود فوزي وعده وتم نقل يحيي حقي الي عمل في وزاره الثقافه لا يناسب كفايته في سعه علمه وقدرته علي صياغه القصص‏!.‏
    ويواصل الشيخ الباقوري روايته فيقول‏:‏ ذات يوم اجتمعنا في الندوه بدار محمود شاكر‏,‏ ورن جرس التليفون فاذا المتحدث هو يحيي حقي‏,‏ وكان يشكو اليه اي الي شاكر من انه قد نقل الي عمل لا يناسبه‏,‏ فقال شاكر في حماسه عمياء‏:‏ وما حيلتي يا اخ يحيي في هولاء العساكر الذين يحكمون البلد وعلي راسهم جمال عبد الناصر ابن‏.‏ وكانت كلمه مع الاسف تستوجب اقامه حد القذف لو كان القانون ياخذ بالتشريع الاسلامي‏.‏
    بعد هذه الندوه التي حدث فيها الهجوم علي عبد الناصر بالطريقه التي وصفها الشيخ الباقوري‏,‏ فان من الواضح ان تسجيلا كاملا لهذه الندوه وما جري فيها قد تم اعداده عن طريق اجهزه الامن وتقديمه الي عبد الناصر‏..‏ واستدعي الرئيس عبد الناصر الشيخ الباقوري الي لقائه‏,‏ وفي هذه الجلسه حسب روايه الباقوري‏,‏ قال عبد الناصر انه امتنع عن حضور حفل زفاف ليلي بنت الباقوري بسبب ما بلغه من ان الباقوري يحضر مجالس تنتقد الثوره‏,‏ كما علمت اي عبد الناصر من بعض التقارير ان بعض الاخوان المسلمين في سوريا‏,‏ وفي سائر الاقطار العربيه كانوا يبعثون اليك اموالا لتعين اسر الاخوان المسلمين‏,‏ فاجبته بان ذلك كان ايام محنه الاخوان قبل الثوره بثلاث سنوات علي الاقل‏,‏ وهذا صحيح‏..‏ ولكن ذلك شئ والتامر علي الثوره مع الاخوان شئ اخر‏,‏ ولم يجب عبد الناصر علي هذه الكلمات فرجوته ان ياذن لي بورقه اكتب فيها استقالتي من الوزاره‏,‏ ولكنه اجابني‏:‏ انت تعرف حد استقال عندي قبل كده؟‏!‏ وفي صباح يوم الاربعاء الحادي عشر من فبراير سنه‏1959‏ نشرت الصحف نبا قبول استقالتي‏.‏
    تلك هي روايه الشيخ الباقوري للقصه التي غضب فيها عبد الناصر علي يحيي حقي والتي نتج عنها اقاله الباقوري من الوزاره ودخول محمود شاكر الي السجن‏,‏ وركن يحيي حقي في هامش وظيفي محدود‏.‏ وفي التعليق علي هذه القصه يمكن تسجيل مجموعه من الملاحظات‏.‏
    اولا‏:‏ ان الشيخ الباقوري يعترف بان كلمات الهجوم علي الرئيس عبد الناصر علي لسان الاستاذ شاكر كانت بذيئه وكانت تستحق العقاب القانوني‏.‏
    ثانيا‏:‏ يقول الشيخ الباقوري انه لم يشترك في الهجوم‏,‏ او هذا ما يمكن فهمه بوضوح تام من روايه الباقوري للقصه‏,‏ وهذا ما يخالف روايه الدكتور ثروت عكاشه للقصه في مذكراته حيث يقول ان الباقوري قد اشترك بلسانه في الهجوم علي عبد الناصر‏,‏ وانه اي ثروت عكاشه سمع هذا التسجيل بنفسه في مكتب عبد الناصر‏,‏ مع ملاحظه ان ثروت عكاشه لم يذكر الشيخ الباقوري بالاسم‏,‏ ولكنه اشار اليه بانه احد الوزراء‏,‏ ولم يكن هناك وزير له علاقه بالقصه سوي الباقوري‏.‏ وحسب شهاده الدكتور ثروت عكاشه فان الباقوري قد شارك في الهجوم العنيف علي عبد الناصر‏.‏
    ثالثا‏:‏ من روايه الباقوري وروايه ثروت عكاشه نعلم ان يحيي حقي لم يشارك في الهجوم علي عبد الناصر ولكن علاقته القويه بصاحب الندوه محمود شاكر كانت تهمه له اوشكت ان تطيح به من عمله في وزاره الثقافه اواخر سنه‏1958‏ لولا تدخل الوزير ثروت عكاشه بحكمه وشجاعه لانقاذه‏.‏
    رابعا‏:‏ حسب روايه الشيخ الباقوري فان الندوه كانت منتظمه‏,‏ وكانت تضم شخصيات مهمه منها الباقوري نفسه وكان وزيرا للاوقاف‏,‏ ومنها قائد عسكري سابق في الاردن هو عبد الله التل‏,‏ ومنها شخصيه علميه وثقافيه معروفه هي الدكتور ناصر الدين الاسد الذي اصبح وزيرا للتعليم العالي في الاردن بعد ذلك‏.‏ ومثل هذا التجمع‏,‏ وخاصه في حاله تكراره لا يمكن‏,‏ كما اتصور‏,‏ ان يفلت من متابعه اجهزه الامن‏,‏ وخاصه في اجواء سنه‏1958,‏ وهي السنه الاولي لدوله الوحده المصريه السوريه‏,‏ وقد كانت هذه الدوله محاطه بكثير من الاعداء والمتربصين بها‏.‏ والتجسس بكل صوره ملعون‏,‏ ولكنه في حساب اجهزه الامن مشروع وخاصه في اوقات الازمات‏.‏
    ولاشك ان هناك عبره نهائيه في مثل هذه الاحداث التي تقوم علي الاصطدام بين الادباء والمفكرين واصحاب الراي من جهه وبين السلطه من جهه اخري‏,‏ والعبره هي ان المناخ الديمقراطي وحده يمكن ان يوفر الحمايه للجميع فيقول كل صاحب راي رايه علنا ولا تحتاج السلطه الي جواسيس او اجهزه تسجيل‏.‏
    ـــــــــــــــــــــــــــــــ
    *عن: صحيفة "الأهرام".
    رد مع اقتباس  
     

  2. #14 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 13 ) هذه نصوصهم تدل عليهم‏!‏

    بقلم‏:‏ رجاء النقاش
    ........................

    كلما أمعنت في قراءة تاريخ الصهيونية‏,‏ وتاريخ دولة إسرائيل تبين بوضوح تام أن إسرائيل والعرب لم يصلا أبدا إلي نقطة التقاء مشتركة حتي الآن‏,‏ فالعرب يتحدثون كثيرا عن السلام بنية صافية وصادقة‏,‏ وفي المقابل لا يوجد في المصادر الأساسية للفكر الصهيوني أية نيات سلمية علي الإطلاق‏,‏ وتاريخ إسرائيل ليس فيه موقف جوهري واحد يدل علي أنها تؤمن بالسلام الآن‏,‏ فلايزال أمام إسرائيل الكثير الذي تفعله بنا نحن العرب قبل أن ترفع راية السلام علي الأرض‏,‏ والحقيقة أن إسرائيل هي تجسيد عملي للفكر الصهيوني‏,‏ والصهيونيون للأسف الشديد يضفون علي كل أفكارهم صفة دينية مقدسة‏,‏ أي أنهم يعتبرون كل ما يقومون به هو جزءا من عقيدة ثابتة لا يصح معها المراجعة أو التعديل أو الاعتراف بالخطأ أو بأي مبدأ آخر من المبادئ الإنسانية والأخلاقية‏.‏
    وأنا دائما‏,‏ خاصة في أوقات الأزمات الكبيرة‏,‏ أعود إلي بعض المراجع الأساسية التي تتيح الفرصة الواسعة لكل من يريد أن يطلع علي النصوص الصهيونية‏,‏ وبعد المقارنة بين هذه النصوص‏,‏ المواقف الإسرائيلية سوف نجد أمامنا تطابقا كاملا بين الفكر الصهيوني والواقع الإسرائيلي‏.‏
    ومن أهم هذه المراجع وأخطرها علي الإطلاق كتاب المفكر الفرنسي روجيه جارودي‏,‏ فلسطين أرض الرسالات الإلهية‏,‏ ترجمة العالم والمفكر الكبير الدكتور عبد الصبور شاهين‏,‏ وأهمية هذا الكتاب الخطير الذي يشبه الموسوعة الكاملة تعود إلي الكمية الهائلة من النصوص الصهيونية الأصلية الواردة فيه‏,‏ وهي نصوص موثقة منسوبة إلي مصادرها المحددة مع تحديد تاريخ هذه المصادر‏.‏
    وكل النصوص الواردة في هذا المقال مستمدة من كتاب جارودي الخطير‏,‏ والذي ألاحظ أنه لا وجود له في المكتبات العربية الآن‏,‏ رغم اعتقادي بضرورة وجود نسخة منه في كل بيت عربي‏,‏ حتي يساعدنا علي إدراك الحقيقة‏,‏ وفهم الأزمات التي نتعرض لها في صور متلاحقة بسبب إسرائيل‏,‏ إن كتاب جارودي هو مصباح للحقيقة‏.‏
    من أهم النصوص الصهيونية القديمة التي تلقي ضوءا علي الحاضر ما جاء في مذكرات هرتزل مؤسس الفكرة الصهيونية الحديثة‏,‏ حيث نقرأ ما كتبه في‏8‏ أكتوبر سنة‏1898‏ عن محادثاته مع الأمير هو هنلو مستشار الإمبراطورية الألمانية في ذلك الوقت‏,‏ يقول هرتزل‏:‏
    سألني الأمير عن أي الأراضي تزمع الحصول عليها؟ فقلت له‏:‏ سوف نطلب ما نحتاج إليه‏,‏ وكلما زاد المهاجرون وجب أن تزيد الأرض‏.‏
    وفي نص آخر يقول هرتزل بصراحة لا تختلف عن الوقاحة‏:‏ إن الحدود الشمالية لإسرائيل يجب أن تكون عند جبال الكباروس في تركيا‏,‏ أما الحدود الجنوبية فيجب أن تكون عند قناة السويس‏,‏ وفي هذا النص لا يخفي هرتزل الطمع الصهيوني الدائم في أرض سيناء‏.‏
    وإذا عدنا إلي نسخة التوراة التي تعتمد عليها الصهيونية وتفسرها بما يتفق مع توسيع حدود إسرائيل باستمرار‏,‏ فسوف نقرأ هذا النص من سفر يشوع‏,‏ حيث يقول لليهود علي لسان الرب‏,‏ سبحانه وتعالي عما يكذبون‏:‏ كل موطن تدوسه أقدامكم لكم أعطيته‏.‏
    وفي نص صهيوني آخر بالغ الأهمية ومثير للغضب وكاشف للنيات الصهيونية في المدي البعيد نقرأ ما نشرته مجلة التوجيه الإسرائيلية التي يصدرها التنظيم الصهيوني بالقدس عدد رقم‏14‏ بتاريخ أول فبراير‏1983..‏ يقول هذا النص المثير حول التصور الصهيوني لمصر‏:‏
    إن استعادة سيناء بمواردها الطبيعية هدف له أولوية‏,‏ والعقبة التي تحول دون الوصول إليه هي اتفاقية كامب ديفيد‏,‏ وقد حرمتنا هذه الاتفاقية من بترول سيناء‏,‏ وتحملنا نفقات باهظة في هذا المجال‏,‏ ويجب أن نعمل علي استعادة الوضع الذي كانت عليه سيناء قبل زيارة السادات للقدس والاتفاق التعس معه سنة‏1979.‏
    إن مصر بسبب صراعاتها الداخلية لم تعد تمثل بالنسبة لنا أي لإسرائيل والحركة الصهيونية أي مشكلة أساسية‏,‏ وسوف يكون من اليسير أن نردها إلي الوضع الذي عاشته عقب حرب يونيو سنة‏1967‏ في أقل من أربع وعشرين ساعة‏.‏
    وهكذا فإن مصر‏,‏ حتي بعد كامب ديفيد‏,‏ لا تعجبهم ولا تغيب عن أحلامهم في السيطرة والتوسع‏,‏ والخطة الصهيونية الأساسية تنطوي علي كثير من الأوراق المأساوية ضد العرب‏,‏ ومن ذلك تمزيق لبنان وتحويله إلي دويلات صغيرة تخشي بأس إسرائيل وتعيش تحت مظلتها ونفوذها وسيطرتها الكاملة‏.‏
    وهناك دليل قاطع علي أن نيات الصهيونية ضد العرب كانت ولاتزال نيات عدوانية توسعية‏,‏ هذا الدليل هو رفض إسرائيل أن تقدم خريطة تشتمل علي حدودها النهائية كما تتصورها‏,‏ ولا يوجد تفسير لذلك إلا أن تظل الحدود الإسرائيلية مفتوحة لابتلاع المزيد من الأرض العربية‏,‏ والحركة الصهيونية تعلن أنها في رفضها لرسم خريطة إسرائيلية ذات حدود نهائية إنما تشبه أمريكا فالإعلان الأمريكي للاستقلال سنة‏1776‏ لا يتضمن أي ذكر للحدود الأرضية‏,‏ وعليه فليست إسرائيل مضطرة إلي تعيين حدود الدولة‏,‏ وقد ظلت الخريطة الأمريكية أكثر من قرن كامل خريطة مفتوحة ومتحركة تضاف إليها أرض جديدة كلما نجح الأمريكان في طرد الهنود الحمر والاستيلاء علي أرضهم لضمها إلي الحدود الأمريكية المفتوحة‏,‏ وعلي أساس هذا التشابه بين نشأة إسرائيل‏,‏ ونشأة أمريكا يقول بن جوريون المؤسس العملي لدولة إسرائيل‏:‏ إننا لا يعنينا التشبث بالحالة الراهنة أو الوضع القائم‏,‏ فإن علينا أن ننشئ دولة متحركة ديناميكية موجهة دائما نحو التوسع‏.‏
    فالتوسع إذن مبدأ مقدس عند الصهيونية‏,‏ وهو المبدأ الذي يدفع إسرائيل إلي الحروب المتواصلة ضد العرب‏,‏ وما حرب لبنان الأخيرة إلا حلقة في سلسلة طويلة من الحروب تريد إسرائيل‏,‏ أن تفرضها علي العرب جميعا‏,‏ فهي كما قال عنها أبوها ومؤسسها بن جوريون دولة متحركة وديناميكية ولا يعنيها الوضع القائم أو الحالة الراهنة‏,‏ ولابد لها أن تكون مصدر قلق للعرب‏,‏ وأن تضرب هنا وهناك باستمرار‏.‏
    ........................................
    *الأهرام ـ في 20/8/2006م.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #15 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 14 ) عبدالناصر يقرأ ثرثرة فوق النيل

    بقلم : رجاء النقاش
    ......................

    تفضل الأستاذ الكبير سامي شرف بالاتصال بي وحدثني بالتفصيل عن موقف الزعيم الراحل جمال عبدالناصر من رواية نجيب محفوظ ثرثرة فوق النيل‏,‏ وقد صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولي سنة‏1966,‏ وذلك بعد نشرها مسلسلة في الأهرام‏,‏ وكنت قد أشرت منذ أسبوعين إلي غضب بعض المسئولين الكبار في ذلك الوقت علي الرواية وعلي نجيب محفوظ‏,‏ وكان علي رأس الغاضبين المشير عبدالحكيم عامر‏,‏ حيث كان هناك من أبلغ نجيب محفوظ أن المشير بعد أن قرأ الرواية هدد وتوعد بإنزال العقاب بنجيب محفوظ بسبب ما جاء في الرواية من نقد عنيف لسلبيات قائمة في المجتمع‏,‏ وسمع البعض المشير وهو يقول‏:‏ نجيب زودها قوي ويجب تأديبه ووقفه عند حده‏.‏ وقد كان حديث الأستاذ سامي شرف معي يدورحول ثرثرة فوق النيل بالتحديد‏,‏ وهذه محاولة لتقديم تلخيص دقيق بقدر ما أستطيع لما سمعته من الأستاذ الكبير‏:‏
    بعد صدور رواية ثرثرة فوق النيل اتصل الفنان المعروف أحمد مظهر‏,‏ وهو صديق قديم وحميم لنجيب محفوظ‏,‏ بالأستاذ سامي شرف الذي كان مديرا لمكتب الرئيس عبدالناصر في ذلك الوقت‏,‏ وقال له‏:‏ إن نجيب محفوظ يشعر بقلق شديد مما يسمعه من هجوم عليه وعلي رواية ثرثرة فوق النيل من جانب بعض المسئولين وعلي رأسهم المشير عامر‏,‏ وأن نجيب محفوظ لا يجد مبررا لهذا الغضب الرسمي عليه‏,‏ فهو ليس بأي حال من الأحوال من أعداء الثورة‏,‏ وأن ما جاء في الرواية من نقد لبعض السلبيات هو نقد من داخل الثورة وليس من خارجها‏,‏ أي أنه نقد إيجابي يهدف إلي تصحيح بعض الأخطاء الواضحة حتي تسير سفينة البلاد دون كوارث أو أزمات‏.‏ وهذا هو واجب أديب كبير صاحب ضمير وطني مثل نجيب محفوظ‏.‏
    وطلب الفنان أحمد مظهر من السيد سامي شرف أن يتفضل بعرض الموضوع علي الرئيس عبدالناصر‏,‏ والرئيس يعرف أحمد مظهر جيدا‏,‏ فقد كان زميلا له في الكلية الحربية‏,‏ كما كان واحدا من الضباط الأحرار‏,‏ كما هو معروف‏,‏ وقد كلفه عبدالناصر قبل الثورة ببعض الاتصالات السياسية‏,‏ خاصة أن أحمد مظهر كان متزوجا من ابنة وزير الخارجية الشهير في عهد الوفد الدكتور محمد صلاح الدين‏.‏
    استجاب السيد سامي شرف لما طلبه أحمد مظهر من عرض موضوع رواية ثرثرة فوق النيل علي الرئيس عبدالناصر‏,‏ وكان السيد سامي شرف يعلم بأن هناك غضبا ضد الرواية بين عدد من كبار رجال السلطة في ذلك الوقت‏,‏ وكانت بداية الغضب الشديد عند صلاح نصر رئيس المخابرات آنذاك‏,‏ ومعه مسئولون آخرون مثل شمس بدران‏,‏ وتم تصعيد الغضب إلي المشير عامر‏.‏ ومعني هذا أن نسبة الغضب علي الرواية كانت أعلي بكثير مما تصوره نجيب محفوظ وأحمد مظهر‏,‏ وكان هناك مسئولون كبار آخرون في مواقع السلطة من الغاضبين علي الرواية والمطالبين بالتصرف معها‏,‏ ولم يكن التصرف يعني بالطبع سوي المصادرة ثم توقيع عقاب مناسب علي نجيب محفوظ‏,‏ والله وحده يعلم ماذا يمكن أن يكون مثل العقاب الذي كان يدور في خاطر رجال أشداء لهم كلمة مسموعة ونفوذ واسع في ذلك الوقت مثل صلاح نصر وشمس بدران‏,‏ فضلا عن المشير عامر‏.‏
    عرض السيد سامي شرف الموضوع بكل تفاصيله علي الرئيس عبدالناصر‏,‏ وأوضح أمامه قلق نجيب محفوظ‏,‏ كما وضع أمامه صورة من غضب المسئولين الثائرين علي الرواية وصاحبها‏.‏
    وطلب عبدالناصر نسخة من الرواية وقرأها‏,‏ ويروي السيد سامي شرف ما قاله عبدالناصر بعد قراءة الرواية‏,‏ وأحاول هنا أن أتذكر ما سمعته من الأستاذ الكبير سامي شرف بدقة متناهية‏..‏
    ماذا قال عبدالناصر؟
    قال ما معناه‏:‏
    ‏1‏ ـ إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟ انه فريد في مكانته وقيمته وموهبته‏,‏ ومن واجبنا أن نحرص عليه كما نحرص علي أي تراث قومي وطني يخص مصر والمصريين‏.‏
    ‏2‏ ـ إن نجيب محفوظ لم يثبت عليه أبدا سوء نية تجاه الثورة مثل غيره من بعض الكتاب المعروفين وهنا ذكر عبدالناصر اسما كبيرا محددا‏,‏ ولكن الأستاذ سامي شرف طلب مني عدم ذكر الاسم لأسباب كثيرة لا مجال للحديث عنها هنا‏,‏ وأنا أعد الأستاذ الكبير بعدم ذكر الاسم لأحد علي الإطلاق‏..‏ حتي لو كان ذلك بطلب من النيابة العامة‏!.‏
    ‏3‏ ـ الأهم من ذلك كله‏,‏ أن رواية ثرثرة فوق النيل فيها نقد‏,‏ وأن النقد الذي تنطوي عليه صحيح‏,‏ وأن علينا أن نعترف بوجود السلبيات التي تشير إليها ونعمل علي الخلاص منها بدلا من أن نضع رأسنا في الرمال وننكر حقيقة ما تنبهنا إليه الرواية‏,‏ وكأنه غير موجود‏..‏ رغم أنه موجود ونحن نعترف بيننا وبين أنفسنا بذلك‏.‏
    تلك هي خلاصة دقيقة لكلام عبدالناصر بعد أن قرأ ثرثرة فوق النيل‏,‏ والمرجع فيه هو السيد سامي شرف وهو عندي مرجع صادق وأمين‏.‏
    بعد ذلك كان هناك لقاء بين المشير عامر وبين عبدالناصر حول الرواية التي أوشكت فيما يبدو أن تشعل حريقا كبيرا كاد يلتهم في طريقه نجيب محفوظ‏..‏ وفي اللقاء بين الرئيس عبدالناصر والمشير عامر شرح عبدالناصر وجهة نظره بوضوح تام‏,‏ وطلب استبعاد أي إجراء سلبي في حق الرواية وكاتبها الكبير‏.‏ واقتنع المشير عامر بوجهة نظر عبدالناصر وزال غضبه علي الرواية والكاتب‏,‏ وعندما اقتنع المشير بذلك‏,‏ تابعه في الاقتناع صلاح نصر وشمس بدران وآخرون من الذين كانوا بين الغاضبين الثائرين المطالبين بمصادرة الرواية ومعاقبة نجيب محفوظ‏.‏
    بقي أن نتساءل ماذا كان في ثرثرة فوق النيل من نقد اثار كل هذه العاصفة؟‏..‏ أفضل إجابة هنا هي ما سمعته من نجيب محفوظ في حواراتي معه‏,‏ حيث يقول‏:‏ ظهرت رواية ثرثرة فوق النيل في عز مجد عبدالناصر‏,‏ وفي وقت كان فيه الإعلام الرسمي يحاول ليل نهار أن يؤكد انتصار الثورة والنظام وانعدام السلبيات والأخطاء‏,‏ فجاءت ثرثرة فوق النيل لتنبه إلي كارثة قومية كانت قد بدأت تطل برأسها علي السطح‏,‏ وكان لابد أن يكون لها نتائجها الخطيرة‏,‏ وكنت أعني بذلك محنة الضياع وعدم الإحساس بالانتماء‏,‏ وهي المحنة التي بدأ الناس يعانون منها‏,‏ خاصة في أوساط المثقفين الذين انعزلوا عن المجتمع‏,‏ وأصبحوا يعيشون في شبه غيبوبة‏,‏ فلا أحد يعطيهم الفرصة المناسبة للعمل والمشاركة‏,‏ ولا هم قادرون علي رؤية الطرق الصحيحة‏,‏ وفي المرة الوحيدة التي حاولوا فيها أن يعرفوا الطريق ارتكبوا حادثة رهيبة في شارع الهرم‏,‏ ولاذوا بالفرار‏.‏
    هذا بعض ما جاء في ثرثرة فوق النيل‏,‏ وقد كانت شجاعة من نجيب محفوظ أن يعبر عن هذه السلبيات‏,‏ وكانت شجاعة أكبر من عبدالناصر أن يقول عن الرواية إنها صادقة‏,‏ وإن علينا أن نستفيد من هذا النقد السديد الخالي من سوء النية‏.‏
    رد مع اقتباس  
     

  4. #16 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    15 ) ثروت عكاشة ينقذنا من فضيحة ثقافية

    بقلم: رجاء النقاش
    ......................

    هذه قصه وقعت تفاصيلها في اواخر الخمسينات من القرن الماضي وكان موضوعها هو يحيي حقي‏,‏ اديبنا الموهوب العظيم الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده سنه‏1905‏ وقد عرفنا يحيي حقي الذي رحل عنا سنه‏1992‏ رجلا مسالما لايعادي ولا يخاصم ولا يحب لنفسه ان يكون طرفا في اي صراعات او معارك‏,‏ كما انه كان رجلا حريصا علي استقلاله‏,‏ رافضا كل الرفض للاشتغال بالسياسه والدخول في امواجها الصعبه العاتيه‏,‏ وقد اتخذ هذا الفنان الكبير لنفسه ما يشبه الشعار لحياته كلها يقول فيه‏:‏ خليها علي الله‏,‏ وهو الشعار الذي جعله عنوانا لقصه حياته او سيرته الذاتيه‏.‏
    هذا الاديب الكبير المسالم‏,‏ صاحب الصدر الواسع والاخلاق المتحضره العاليه‏,‏ والنفس العفيفه التي ابتعدت به تماما عن اي منافسات من اي نوع‏,‏ لم يسلم من الاذي الذي اصابه في اواخر الخمسينات من القرن الماضي‏.‏ والقصه مولمه للنفس‏.‏ والذي يرويها وكان شاهدا عليها هو الدكتور ثروت عكاشه احد رجال الصف الاول في قياده ثوره يوليو‏1952,‏ وهو القائد الاكبر لهذه الثوره في ميدان الثقافه‏,‏ فقد كان وزيرا للثقافه في المره الاولي التي تولي فيها هذا المنصب من نوفمبر سنه‏1958‏ الي سبتمبر سنه‏1962,‏ ثم تولي نفس المنصب سنه‏1966‏ وحتي سنه‏1970.‏ والمنصفون جميعا يشهدون للدكتور ثروت بانه موسس ثقافي عظيم‏,‏ ويكفي ان اشير هنا الي عباره للشاعر والاديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي حيث يخاطب ثروت عكاشه فيقول عنه انه انسان رائع ومناضل جعل من ثقافتنا الوطنيه قلعه تحمي شرف الانسان وكبرياء القلب الذي يحلم بالمستقبل‏,‏ والذين عاشوا مثلي في العصر الثقافي لثروت عكاشه يصدقون عباره الشرقاوي حرفا حرفا وكلمه كلمه‏.‏ ولولا وجود ثروت عكاشه علي راس وزاره الثقافه في تلك الفتره‏,‏ من‏1958‏ الي‏1962,‏
    ولولا شجاعته ومعرفته بالواقع الثقافي وضميره الحي لوقعت فضيحه ثقافيه كان لابد ان يسجلها التاريخ بكثير من الاسف عليها والغضب منها‏,‏ وكان لابد لهذه الفضيحه ان يكون لها صداها العالمي فتصبح فضيحه ثقافيه دوليه ومحليه في وقت واحد‏.‏ وهذه القصه يسجلها الدكتور ثروت عكاشه في كتابه الشهير مذكراتي في السياسه والثقافه الطبعه الثالثه دار الشروق صفحه‏398‏ حيث يقول‏:‏ لم يكن مضي علي تعييني وزيرا اكثر من شهرين عندما اتصل بي سكرتير رئيس الجمهوريه يدعوني الي لقاء عاجل مع الرئيس عبدالناصر الذي ما ان لقيته حتي طلب مني الاستماع الي شريط صوتي مسجل لمجموعه من الاشخاص انهالوا علي شخص الرئيس بالشتائم البذيئه ناعتين اياه باحط الصفات‏,‏ وسالته مندهشا عمن يكونون‏,‏ فذكر لي اسم احد الوزراء واسم اديب رائد مرموق‏,‏ وانه استغني عن خدمات الوزير‏,‏ وامر باعتقال الاديب الشيخ‏.‏ ولما سالته عن الغرض من دعوتي للاستماع الي ذلك التسجيل‏,‏ قال ان يحيي حقي رئيس مصلحه الفنون كان موجودا معهما ويتعين احالته الي المعاش‏,‏ فبادرته بقولي‏:‏ لكن الواضح من الشريط الصوتي انه لم يشارك في هذا السباب‏,‏ وهو رجل مشهود له بعفه اللسان ودماثه الخلق‏,‏ فضلا عن انه اديب مرموق ومحبوب‏,‏ وتوقيع العقاب ظلما علي هذا النحو سوف يكون له اثر سييء في اوساط المثقفين وعامه الشعب علي السواء‏,‏ فقال‏:‏ ولكنه كان موجودا ولم يعترض‏,‏ وهذا يكفي‏,‏ فناشدته ان يترك الامر لي حتي اعالجه باسلوب مناسب‏,‏ فوافق‏,‏ مقتنعا‏,‏ بعد الحاح‏.‏
    وقد عالج الدكتور ثروت الموضوع بمنتهي الحكمه‏,‏ حيث يقول‏:‏ اسندت الي يحيي حقي الاشراف علي مركز تدريب العاملين بالوزاره‏,‏ كما اسندت اليه بجوار ذلك منصبا مهما بدار الكتب‏,‏ ثم رئاسه تحرير مجله المجله حتي لا يشعر بغربه عن عالمه في مجال الفكر والادب والفن‏,‏ فقبل مني ما عرضته عليه بدماثته المعهوده‏,‏ وطبعا كان ذلك كله بعد اعفائه من منصبه كمدير لمصلحه الفنون‏.‏
    ثم يعلق الدكتور ثروت عكاشه علي ما حدث تعليقا مهما يقول فيه‏:‏ اروي هذه الواقعه لاصل الي تاملي فيما وقع من مبدئه الي منتهاه‏,‏ وانا بطبيعه الحال ارفض بذاءه القول للتعبير عن الخلاف في الراي‏,‏ ولكني ادركت من ناحيه اخري ان التجسس علي الوزراء واحصاء تحركاتهم وسكناتهم واسرارهم الشخصيه كان امرا يتساوي مع التجسس علي المجرمين والخارجين علي القانون‏,‏ وكان هذا درسا وعيته كوزير حديث العهد بالمنصب‏.‏
    هذا ما قاله الدكتور ثروت عكاشه ويمكننا ان نعلق عليه بما يلي‏:‏
    اولا‏:‏ لاشك ان الدكتور ثروت عكاشه بموقفه المسئول والشجاع قد انقذ مصر من فضيحه ثقافيه مدويه‏,‏ وذلك لان يحيي حقي في تلك الفتره‏,‏ واعني بها اواخر الخمسينات من القرن الماضي قد بدا يحظي بشعبيه واسعه بين جماهير المثقفين في مصر والعالم العربي‏,‏ بل انني لا ابالغ اذا قلت انه كان قد بدا يصبح معروفا ولو بصوره بسيطه في الاوساط الثقافيه الاوروبيه وخاصه في فرنسا‏,‏ وكان طرد يحيي حقي من وزاره الثقافه في ذلك الوقت لا يمكن الا ان يكون فضيحه ثقافيه كبيره لمصر في الداخل والخارج‏.‏ وصاحب الفضل في انقاذنا من مثل هذه الفضيحه هو ثروت عكاشه‏.‏ وموقفه هنا جدير بالتامل فيه والاهتداء الدائم به‏.‏
    ثانيا‏:‏ المتهمان الاخران في هذه القصه هما الاديب العربي الكبير محمود شاكر‏,‏ وقد تم اعتقاله لمده تقرب من سنتين‏,‏ ولم يخرج من السجن الا برساله من شاعر السودان ورئيس وزرائها في ذلك الوقت محمد احمد محجوب‏.‏ اما المتهم الثاني فهو المفكر الاسلامي الكبير الشيخ احمد حسن الباقوري‏,‏ وقد تمت اقالته بعد هذه الحادثه من منصبه كوزير للاوقاف‏.‏
    ثالثا‏:‏ كان التسجيل الذي ادين عليه الجميع قد تم في بيت الاستاذ محمود شاكر‏,‏ وكان تسجيلا لجلسه شخصيه خاصه بين شاكر والباقوري ويحيي حقي‏.‏
    رابعا‏:‏ ان هذه الحادثه وامثالها‏,‏ اي التجسس علي الناس في حياتهم الخاصه دون سبب قوي‏,‏ ثم محاسبه الجميع علي ما قد يقولونه في بعض اوقات الاسترخاء والفضفضه‏,‏ وربما في اوقات الملل والضيق من بعض الاوضاع والمشاكل الشخصيه‏..‏ مثل هذه العمليات في التجسس علي الناس كان فيها اساءه لزعيم عظيم مثل عبدالناصر‏,‏ وكان فيها اساءه لثوره وطنيه هي ثوره يوليو‏,‏ وكان مثل هذا التجسس بهذه الطريقه من سلبيات الثوره التي يبقي لها ايجابيات اكثر بكثير من سلبياتها‏,‏ حتي لو كانت هذه السلبيات مولمه وجارحه‏.‏
    ‏*‏ اشرت في مقال سابق الي واحد من عظماء شيوخ الازهر الذين وقفوا في وجه الحاكم التركي الظالم منذ اكثر من مائتي سنه وهو الشيخ محمود البنوفري‏,‏ وقد سالت عن كلمه البنوفري فعرفت انها نسبه الي قريه بنوفر وتساءلت عن هذه القريه اين توجد وما هو معني اسمها‏.‏ وقد تلقيت رساله كريمه من الاستاذ الفاضل الدكتور عبدالوهاب حميده جاد استاذ الجراحه العامه والاورام في كليه طب طنطا وفي هذه الرساله يقول الاستاذ‏:‏ قريه بنوفر هي قريتي‏,‏ وتقع علي فرع رشيد‏,‏ وهي تابعه وقريبه من مركز كفر الزيات وعدد سكانها يتراوح بين سبعه وعشره الاف‏.‏ كل منزل فيها يضم رجلا من رجال الازهر او سيده ازهريه فاخي استاذ بكليه طب طنطا رغم ان والدنا كان عاملا بسيطا بشركه الملح والصودا‏,‏ ولكنه كان يحفظ القران كاملا‏,‏ حفظا وتجويدا‏,‏ وهذا يبين ان التعليم الازهري العام هو هم هذه القريه‏.‏ اما لماذا اسميت هذه القريه باسم بنوفر فانا اسمع ان بيوتها لقربها من النيل كان يغمرها الفيضان العالي فيفر الناس الي مكان امن‏,‏ ثم يعودون بعد انحسار الماء فسميت بنوا وفروا ثم تم تحويل الاسم الي بنوفر‏.‏
    شكرا للدكتور عبدالوهاب جاد‏,‏ وبارك الله فيه وفي قريته الكريمه الطيبه‏,‏ وقد سمعت من الاستاذ عبدالرحمن عوض ان بنوفر قد يكون اصلها بنوفهر‏,‏ ثم اصابها شيء من التخفيف‏,‏ وفهر لغويا معناها الحجر‏,‏ وهي ايضا اسم من اسماء احد اجداد العرب‏.‏
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *عن: صحيفة "الأهرام".
    رد مع اقتباس  
     

  5. #17 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (16 ) بين يحيي حقي وسيد قطب

    بقلم: رجاء النقاش
    ......................

    عندما سأل الناقد الكبير الراحل فؤاد دوارة (‏1928-‏1996‏م) صديقه وأستاذه يحيي حقي (‏1905-‏1992م)‏ عن تفسيره لاهتمام الناس اهتماما استثنائيا بروايته القصيرة قنديل أم هاشم قال له يحيي حقي‏:‏ غريب حقا اهتمام الناس بهذه القصة علي هذا النحو‏.‏ كأنني لم أكتب غيرها‏.‏ أتعرف لماذا؟‏..‏ لقد خرجت من قلبي مباشره كطلقة الرصاص‏,‏ فكان أن استقرت في قلوب الناس‏.‏ هكذا أجاب يحيي حقي علي سوال فؤاد دواره‏,‏ وكانت إجابته اقرب ما تكون إلي العبارة الشائعة التي كثيرا ما نرددها في احاديثنا اليوميه وهي ان ما يخرج من القلب يدخل الي القلب‏.‏
    والحقيقه ان قنديل ام هاشم كان يمكن ان تبقي في الظل لفترة طويلة فلا يلتفت إليها احد‏,‏ لولا أن ناقدا كبيرا أحس بقيمتها وأدرك أهميتها وانفعل بما فيها من جمال وصدق وعمق وبساطه واسلوب جديد قائم علي الإيجاز والتركيز‏.‏
    وقد أحس الناقد الكبير بهذا كله بعد صدور القصة سنه ‏1944‏ في سلسلة "اقرأ" التي تصدر عن دار المعارف‏.‏ وهذا الناقد الكبير الذي احس بقيمه قنديل أم هاشم هو سيد قطب‏ (1906-‏ ‏1966‏م) الذي كان في ذلك الوقت‏,‏ اي في أربعينيات القرن الماضي‏,‏ من اكبر نقاد الأدب العربي‏,‏ وكانت كلمته مسموعة وموثوقا بها في صفوف الأدباء وبين جماهير القراء علي السواء‏.‏ وقد ظل سيد قطب يحتل مكانه الرفيع في مجال النقد الأدبي حتى سافر إلي أمريكا حوالي سنة ‏1949‏ في بعثة دراسية قصيرة‏,‏ عاد بعدها لينفض يده من الأدب والنقد ويدخل ميدان العمل السياسي والدعوه الدينيه‏,‏ وهي المرحله المليئه بالعواصف التي انتهت بمحاكمته وإعدامه سنة ‏1966‏ بتهمه الاشتراك في زعامة تنظيم عسكري يهدف إلي قلب نظام الحكم في مصر بالقوة‏,‏ وفي هذه الفترة التي تمتد من سنه‏1950‏ إلى نهاية حياته سنة ‏1966‏ خرج سيد قطب تماما من عالم النقد الأدبي الذي كان فيه أحد النجوم اللامعة الساطعة في أربعينيات القرن الماضي‏.‏
    عندما صدرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ كانت الحرب العالميه الثانيه قد اوشكت علي الانتهاء‏,‏ ومن الواضح ان يحيي حقي كتب قصته اثناء هذه الحرب‏,‏ اي في الفتره ما بين‏1939‏ و‏1944,‏ ورغم ان القصه ليس فيها اي اشاره الي اجواء الحرب العالميه‏,‏ الا انها كانت تحاول الاجابه علي سوال مهم جدا طرحته هذه الحرب علي وجدان الناس وتفكيرهم‏,‏ خاصه بين المتعلمين والمثقفين منهم‏,‏
    وهذا السوال هو ببساطه‏:‏ ماذا نفعل مع الحضاره الغربيه الجديده التي تدق ابوابنا بعنف؟ هل نلغي انفسنا لكي نكون نسخه طبق الاصل من هذه الحضاره؟ او ان واجبنا يفرض علينا شيئا اخر وتصورا للامور يختلف عن تصور الغربيين؟ ولقد قامت قصه يحيي حقي علي محاوله بديعه ورائعه للاجابه علي السوال الاساسي عن موقفنا من الغرب‏,‏ وما يتفرع عن هذا السوال من اسئله اخري عديده‏.‏
    وجاءت قنديل ام هاشم اجابه فنيه مليئه بالحياه والحراره‏,‏ خاليه من المناقشات الجافه والافكار المجرده‏,‏ وهي علي بساطتها قصه غنيه بالتلميحات والاشارات والايحاءات‏,‏ بقدر ما هي بعيده كل البعد عن الخطابه والوعظ والتعقيدات الفكريه‏.‏ انها قصه تاخذك بسحرها من يدك‏,‏ وتتحدث معك في همس جميل‏,‏ ولا تقول لك كل شيء بل تتركك وحدك مع نفسك لتتامل وتفكر وتصل الي ما تشاء من نتائج‏,‏ هي ثمره اجتهادك وليست ثمره املاء الفنان صاحب القصه عليك‏,‏ وهذا هو ما يضمن للفن قوته وجماله وتاثيره المستمر القوي علي الناس‏,‏
    لان فن الخطب والزعيق لا يعيش‏,‏ وانما يعيش الفن الهامس الذي يخرج من قلب الفنان وليس من حنجرته‏.‏
    عندما ظهرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ لم يكن يحيي معروفا الا في دائره محدوده جدا من اصدقائه ومعارفه‏,‏ ولا شك ان من اهم اسباب ذلك انه كان يعمل لفتره طويله في السلك الدبلوماسي امتدت حوالي ربع قرن‏,‏ منذ سنه‏1928‏ تقريبا وحتي سنه‏1954,‏ وقد تنقل خلال هذه الفتره بين جده واستامبول وروما وطرابلس في ليبيا‏,‏ يضاف الي هذا الغياب الطويل عن مصر ما يقوله يحيي حقي عن نفسه من ميل الي الانطواء والعزله‏,‏ وهذا الميل لم يكن صفه شخصيه خاصه به وحده‏,‏ بل كان كما يقول هو نفسه صفه من صفات عائلتي التي كانت تميل الي الانطوائيه لاننا كنا اسره موظفين من اصل تركي وليس لنا املاك الا القليل‏.‏
    ولذلك كله كان من الطبيعي ان يجد يحيي حقي صعوبه في نشر كتابه الاول اي روايته القصيره قنديل ام هاشم‏.‏ وهو يشير الي ذلك في حديثه مع الناقد فواد دواره‏,‏ وهو الحديث الشامل المهم المنشور في كتاب دواره عشره ادباء يتحدثون طبعه كتاب الهلال‏,‏ وفي هذا الحديث يقول يحيي حقي صفحه‏109:‏ لقد تعبت جدا في العثور علي ناشر لقصه قنديل ام هاشم والفضل في نشرها في سلسله اقرا العدد‏18‏ في يونيو‏1944‏ يعود الي الاستاذ محمود شاكر‏,‏ الذي قدمها للمشرفين علي هذه السلسله في دار المعارف‏,‏ ثم يعود الي الدكتور طه حسين الذي قراها ورشحها للنشر‏.‏
    كان يحيي حقي عند ظهور قنديل ام هاشم في التاسعه والثلاثين من عمره‏,‏ وكان قد اصبح موظفا كبيرا في وزاره الخارجيه‏,‏ ولكنه في الحياه الادبيه كان مجهولا او شبه مجهول‏,‏ وكان من الممكن ان تبقي قنديل ام هاشم في الظل‏,‏ والا يلتفت اليها احد لولا موقف سيد قطب الذي اشرنا اليه‏,‏ فقد كتب عنها بعد ظهورها بقليل مقالا قويا مهما في مجله الرساله ثم نشر هذا المقال بعد ذلك في كتابه النقدي الشهير كتب وشخصيات الطبعه الاولي سنه‏1946‏ صفحه‏190,‏ وفي هذا المقال يكاد سيد قطب يصرخ اعجابا بيحيي حقي وتنبيها للراي الادبي العام بان هناك مولودا فنيا جديدا رائعا اسمه قنديل ام هاشم‏,‏ ويبدا سيد قطب حديثه عن يحيي حقي بمشاغبه ادبيه يحتفي فيها بيحيي حقي ويهاجم محمود تيمور فيقول‏:‏ اوه‏!‏ يحيي حقي‏!‏
    اين كانت هذه الغيبه الطويله؟ وفيم هذا الاختفاء العجيب؟ لست اذكر متي قرات له اول اقاصيصه‏.‏ انه عهد طويل‏.‏ حتي لقد نسيته لولا قنديل ام هاشم‏.‏ كل ما اذكره انه من زملاء محمود تيمور الاوائل في بناء الاقصوصه‏.‏
    وتيمور ويحيي حقي برهان علي ان النبوغ وحده لا يكفي‏,‏ ولا العبقريه ايضا‏.‏ لابد من الداب والثبات والمثابره ليكون الانسان شيئا مذكورا‏,‏ والا فاين فن تيمور من فن حقي‏!‏ ثم اين مكانه حقي من مكانه تيمور‏.‏ حقي رجل كسول‏.‏ مهمل‏.‏ يستحق اللوم علي تفريطه في موهبته الفذه‏.‏ وتيمور رجل دووب مجتهد‏.‏ يكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ولابد ان يصادف في ذلك الكثير الذي يكتبه شيء ذو قيمه‏.‏ ثم يقول سيد قطب‏:‏ في قنديل ام هاشم ثمره حلوه ناضجه عبقريه‏.‏ كانت البذره في عوده الروح وفي عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم‏,‏ وهي هنا الثمره في قنديل ام هاشم‏.‏ الروح المصريه الصميمه العميقه تطل كما هي في اعماقها من قنديل ام هاشم‏.‏ وهي تطل من خلال اللمسات السريعه الرشيقه الموحيه‏,‏ ومعها الحيويه والفن والشاعريه والابداع‏.‏ وفي خلال اثنتين وخمسين صفحه فقط من حجم الجيب يتم تصوير الروح المصريه الكامنه العميقه العريقه‏,‏ ويتم صراع كامل بين روح الشرق والغرب‏,‏ ويتم انتصار الايمان المبصر علي العلم الجاحد‏.‏ ثم يقول سيد قطب عن اسلوب يحيي حقي‏:‏ انه اسلوب فذ مبتكر‏.‏
    تلك كانت صرخه الناقد سيد قطب عندما التقي لاول مره بعبقريه الفنان يحيي حقي‏,‏ فاعلن الناقد علي الناس في صوت قوي موثر ظهور فنان جديد في عمل رائع هو قنديل ام هاشم‏,‏ وتلك ولا شك وقفه نقديه تعطينا صوره عن واقع حياتنا الادبيه منذ ستين عاما عندما ظهرت قنديل ام هاشم‏.‏ والوقفه النقديه القويه الجريئه تستحق منا ان نذكرها للتاريخ بكل التقدير‏.‏ اما قنديل ام هاشم نفسها فانها تستحق حديثا اخر‏.‏
    ـــــــــــــ
    *عن: صحيفة "الأهرام".
    رد مع اقتباس  
     

  6. #18 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 17 ) عبد القادر القط وفن الاعتدال

    بقلم: رجاء النقاش
    ......................

    منذ أسبوعين رحل عن دنيانا أستاذنا الجليل الدكتور عبد القادر القط وهو في السادسة والثمانين‏,‏ فهو من مواليد‏6191,‏ وقد ظل الدكتور القط حتى أيامه الأخيرة مثالا للحيوية والنشاط مما جعل رحيله نوعا من المفاجأة‏,‏ لأن هذا الرحيل جاء بلا مقدمات ظاهرة‏..‏وعلي العكس من ذلك كان هذا الأستاذ الكبير يوحي دائما بالحياة‏,‏ ولا يوحي أبدا بأنه يخطو خطواته الأخيرة نحو العالم الآخر‏,‏ وقد رحل بعد أسبوع واحد من حصوله علي جائزة مبارك في الأدب تكريما له وتتويجا لكفاحه الأدبي الطويل‏,‏ والدكتور القط صاحب شخصية جميلة لها جوانب متعددة وكلها تدعو إلى احترامه وتقديره والإحساس بالخسارة الإنسانية والأدبية لغيابه‏,‏ فقد كان القط من الشخصيات النادرة التي جمعت بين الثقافة العالية والموهبة الأصيلة والسلوك الإنساني العذب الجميل‏,‏ وتلك معادلة يصعب أن تجتمع بكل هذه القوة في شخص واحد‏.‏
    أتيح لي أن أتعرف علي الدكتور القط منذ أوائل سنة‏1952,‏ عندما كنت طالبا بالسنة الاولي بكلية الآداب في جامعة القاهرة‏,‏ وكان هو قد عاد من بعثته الي انجلترا سنة‏1950‏ وأصبح مدرسا في كلية الآداب بجامعة جديدة ناشئة في ذلك الوقت هي جامعة ابراهيم التي تغير اسمها بعد الثورة الي جامعة عين شمس‏,‏ وقد بقي القط يعمل في آداب عين شمس أستاذا بها وعميدا لها ثم استاذا متفرغا حتي رحيله منذ أسبوعين‏.‏
    كان القط رجلا في غاية الذكا‏ء,‏ وكانت العلامة الرئيسية لذكائه أنه كان دائما بعيد النظر لاتخدعه ظواهر الأشياء‏,‏ وكان يفهم جوهر الأمور في سرعة شديدة‏,‏فلا يتوقف كثيرا أمام الشكليات‏,‏ ولايخوض معارك يعرف منذ البداية أنها ميئوس منها وأن الجهد فيها ضائع‏,‏ وكان لديه إحساس عميق هاديء بأن الرأي الصائب الصحيح لا خطر عليه وإن لم يعترف به الناس لفترة من الزمان‏,‏ فالصواب عمره طويل‏,‏ ولذلك فإنه لم يتعجل في حياته من أجل الوصول الي شيء‏,‏ ولعل شعار حياته غير المعلن كان هو قل كلمتك‏..‏وامش
    تعرض القط في حياته لمواقف عديدة مؤلمة‏,‏ ولكنه لم يصرخ أبدا ولم يتوجع‏,‏ بل لعله في معظم ماقرأته له وسمعته منه لم يتحدث كثيرا عن هذه الآلام ولم يشر اليها‏,‏ وهذا نوع من الذكاء والكبرياء والحكمة‏,‏ فالآلام لاتهدأ الا بالصبر عليها وليس بكثرة الصراخ منها‏,‏ لأن الصراخ يطيل الألم ويضاعفه ويمنع الجراح من الالتئام السريع‏,‏ وكان القط شديد الحرص علي أن ينال حقوقه ويدافع عنها‏,‏ ولكن عندما يضيع منه حق من حقوقه ولاتنفع المطالبة به لسبب من الأسباب‏,‏ فإنه كان يستغني عما ضاع ويواصل المسير‏.‏
    سمعت من أحد كبار المسئولين في أوائل الستينيات من القرن الماضي أن القط كان مرشحا ليتولي وزارة التعليم العالي‏,‏ لكن بعض كتاب التقارير السرية سارعوا إلى تقديم أسباب ملفقة تشير إلى أنه لايصلح لهذا المنصب الرفيع‏,‏ ومن بين هذه التقارير ماكان يقول إن القط شاعر يهيم مع الخيال‏,‏ وأنه سوف يغرق الوزارة التي يتولاها بالأوهام والأحلام وكان هذا أخف الاتهامات الموجهة اليه‏,‏ فقد كات هناك اتهامات أخري تقول إنه يساري متطرف يتخفي في شكل ناقد وأستاذ جامعي‏,‏ وكانت تهمة اليسار المتطرف أو الشيوعية كفيلة في تلك الأيام بوقف حال كل من يتعرض لهذا الاتهام وسد الأبواب أمامه ولذلك كان كتاب التقارير السرية يستخدمون هذا الاتهام دائما ـ بالحق والباطل ـ ضد كل الذين يحاربونهم‏,‏ وكان عبد القادر القط ـ باختياره وإرادته ـ بعيدا عن أن تكون له مجموعة أو شلة تدافع عنه وتحميه من التقارير السرية المغرضة‏,‏ ولذلك فإن هذه التقارير فعلت فعلها‏,‏ وتراجع الذين رشحوه للوزارة عن طرح اسمه‏,‏ وعندما سألت القط عن صحة الواقعة قال لي في تواضع شديد إنها صحيحة‏,‏ وذكر بعض الأسماء التي سارعت إلى كتابة التقارير ضده‏,‏ فكانت هذه التقارير افتراء عليه وحرمانا للبلاد من الانتفاع بخبرته وعلمه وإنسانيته وبصيرته الواعية‏,‏ ومازلت أذكر هذه الأسماء جميعا‏,‏ وبعضها من الراحلين وبعضها من الأحياء‏,‏ ولكنني لاأستطيع أن أذكر هذه الأسماء‏,‏ لأن القصة كلها برغم ثقتي بصحتها هي قصة شفوية ولا يوجد عليها دليل مكتوب‏,‏ أو أي دليل آخر يمكن الاعتماد عليه‏,‏ وهذه القصة علي أي حال هي نموذج من بعض ماعاناه القط واحتمله وصبر عليه‏,‏ وفي حياته كثير من المواقف المشابهة‏,‏ وربما كان بعضها أشد وأقسى من هذا الموقف‏,‏ ولكنه دائما كان من الصابرين القادرين على التحمل‏.‏
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *الأهرام ـ في 30/6/2002م.
    رد مع اقتباس  
     

  7. #19 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 18 ) والباقي.. حمير!

    بقلم: رجاء النقاش
    .........................

    الشاعر الكبير حافظ ابراهيم «1873- 1932» والذي تعودنا أن نطلق عليه اسم «شاعر النيل» كان شخصية مليئة بالحيوية وخفة الظل وكان صاحب موهبة كبيرة تضاف الى موهبته الشعرية وهذه الموهبة الثانية هي موهبة الحديث الممتع الساحر‚ والموهبة الثانية هي التي جعلت من حافظ ابراهيم في عصره نجما من نجوم المجتمع يلتف حوله الناس‚ ويسعى الجميع الى صداقته ويحرصون على ان يكون هذا الشاعر صاحب الظل الخفيف والفكاهة الرائعة قريبا منهم‚
    وقد كان الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول «1860- 1927» يحب حافظ ابراهيم ويحرص على صحبته وكان سعد اذا اراد ان يذهب الى بلدته في الريف المصري ليبتعد عن العاصمة وما فيها من ضوضاء ومسؤوليات يحرص أشد الحرص على ان يكون حافظ ابراهيم معه في تلك الايام التي كان يريد فيها الراحة والاسترخاء وكان حافظ ابراهيم ينزل مع سعد زغلول في بيته كواحد من أهله‚
    وهذا ايضا إمام المصلحين الدينيين في العصر الحديث وهو الشيخ محمد عبده «1849- 1905» فقد كان يحب حافظ ابراهيم ويحرص على صحبته ولا يقبل لوم اللائمين له على ذلك اذ ان البعض كان يأخذ على الشيخ محمد عبده صحبته لشاعر معروف بروح المرح والدعابة والسخرية وهي كلها امور لا تليق بالشيخ الجليل‚ وكان الشيخ محمد عبده يرد على الذين يلومونه بقوله: «لقد صاحبت حافظ ابراهيم عشر سنين فما أمكنه ان يضلني وما أمكنني ان اهديه» وكان الشيخ يقول ايضا: انني ما صاحبت حافظ ابراهيم لكي أجد فيه شيخا للاسلام أو عالما من علماء الدين»‚ وهكذا كان حافظ ابراهيم موضع الحب والحرص على الاستمتاع بصداقته من كل عظماء عصره من امثال سعد زغلول ومحمد عبده‚
    هذه الشخصية المرحة الطريفة الممتعة كانت في اعماقها تميل الى الحزن وقد قال حافظ ابراهيم عن نفسه انه لا يستطيع ان يكتب شعرا الا اذا كان في حالة من «الشجن»‚ و«الشجن» هو الحزن الخفيف الرقيق الذي يملأ نفس صاحبه ولا يشعر به أحد سواه‚ ويقول حافظ «‚‚ اما الصفاء والسرور والفرح والسير في الرياض وعند الماء والشجر فإنها تجعلني غير قادر على كتابة الشعر»‚ وهكذا فإن حافظ الذي يعامل الحياة والناس بالفرح والابتهاج والسخرية كان لا يستطيع ان يكتب بيتا واحدا من الشعر الا وهو حزين‚ فالحزن هو مصدر للفن والشاعرية اما الفرح والسرور فهما وسيلة للاستمتاع بالحياة والاتصال بالناس والمجتمع‚
    وكانت لحافظ ابراهيم آراء طريفة في الأدب والحياة ولا بأس ان ننتزع أنفسنا قليلا من الضوضاء السياسية التي نعيش فيها طيلة ساعات اليوم لنقرأ بعض كلمات حافظ ابراهيم ومن ذلك قوله: «ما ذهبت يوما الى مكتبي في دار الكتب ومررت في الطريق بمعارف أو أصدقاء الا وطلبوا مني ان (اقعد) معهم وألا أكترث بعملي‚ ولم اسمع قط في حياتي واحدا يعترض ويقول لي بأني يجب ان اصل الى مكتبي في الوقت المحدد لذلك‚ فهذه واحدة اريد ان اكتب عنها وان ابين للناس ضرورة احترام الاعمال‚ ثم هناك العادة الشائعة الأخري في نسبة الفضل الى واحد دون الآخرين‚ فهذا شاعر كبير والباقي حمير‚ وهذا زعيم في السياسة والباقي خونة‚ وهذا كاتب فذ والباقي مغفلون‚ ومثل هذه الطريقة في التفكير قد انقصت النوابغ في بلادنا فالفضل يسع اثنين وثلاثة وعشرة»!!
    هذا بعض ما قاله حافظ ابراهيم سنة 1928 ولعل هذا الكلام الجميل البسيط لا يزال ينطبق على احوالنا حتى الآن.
    ..........................
    *عن صحيفة: الأهرام.
    رد مع اقتباس  
     

  8. #20 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 19 ) انتحار قديم

    بقلم: رجاء النقاش
    ..........................

    فكرة الانتحار بين السياسيين ورجال الحكم والسلطان معروفة منذ قديم الزمان والعديد من قادة الامبراطورية الرومانية التي كانت في عصرها أهم دولة في العالم انتحروا وذلك بعد ان تعرضوا للهزيمة العسكرية بالتحديد‚ فهذه الهزيمة تعني انهم سوف يفقدون كرامتهم وسوف يتعرضون للامتهان والاساءة اليهم‚ والافضل من حياة على هذا المستوى من الهوان هو ان يموتوا وان يكون موتهم بأيديهم مما يثبت للجميع انهم شجعان وان كرامتهم هي عندهم فوق الحياة نفسها وأشهر المنتحرين في التاريخ الروماني هذا انطونيو» الذي انتحر في الاسكندرية سنة 30 قبل الميلاد وذلك بعد هزيمته في معركة «اكتيوم» البحرية سنة 31 قبل الميلاد‚ امام منافسه وغريمة «اكتافيوس» الذي انفرد بحكم الامبراطورية الرومانية بعد الخلاص من انطونيو وأصبح اسمه «اغسطس» اي العظيم وكان فعلا من اعظم اباطرة الرومان ومن أعظم الحكام في التاريخ‚ وقد حكم الامبراطورية الرومانية وحده من سنة 31 قبل الميلاد الى سنة 14 ميلادية والاسم الذي يحمله شهر اغسطس في التقويم الميلادي مستمد من اسم هذا الامبراطور بقصد تخليد ذكراه على مر العصور‚
    والانتحار كما هو معروف يعتبر من تقاليد الشرف والشجاعة عند اليابانيين وكلمة «هاراكيري» اليابانية قد دخلت التاريخ ومعناها الانتحار بأن يطعن الانسان نفسه بخنجره او سيفه الصغير ولليابانيين في هذا الانتحار قصص وآراء وأفكار بالغة الغرابة والطرافة‚ إذ ان هذا «الهاراكيري» هو تقليد من تقاليد الفروسية والاخلاق وهو عند اليابانيين القدماء يكاد يكون واجبا دينيا‚
    وحديث الانتحار الذي تجدد بمناسبة انتحار غازي كنعان وزير الداخلية السوري يذكرنا بحادثة انتحار عربية متهمة وقعت سنة 1929 في العراق وأقصد بها انتحار السياسي العراقي المعروف عبدالمحسن السعدون «1879-1929» وقد كان عند انتحاره رئيسا لوزراء العراق ووزيرا للخارجية كما كان في الخمسين من عمره وقد حدث هذا الانتحار المثير في 13 نوفمبر 1929‚
    يقول الباحث العراقي المؤرخ «مير صبري» في كتابه الهام عن «اعلام السياسة في العراق الحديث» ان «عبدالمحسن السعدون جمع في شخصه أطيب خصال البداوة والحضارة فقد ورث عن آبائه شجاعة البدو وصراحتهم وصفات الزعامة التي تفرض نفهسا فرضا واكتسب من تجاربه الكثيرة سعة النظر ودهاء السياسة التي تقرن الشدة باللين‚ وكان واسع الأفق متساحما بعيدا عن التعصب كذلك كان السعدون رجل دولة ينظر الى الامور بمنظار الواقع والمصلحة العامة فلما ضاقت به السبل والتوت الطرق واشتدت الضغائن والاحقاد لم يجد وسيلة سوى الموت للتخلص من العبء الضخم الذي حمله راغبا مختارا»‚ ويقول عنه مثقف عراقي آخر كان على صلة وثيقة به هو يعقوب سركيس: «ان عبدالمحسن السعدون لم يكن يفرق بين قوميات العراق وطوائفه وأكثريته وأقليته» وقد قال السعدون نفسه في خطاب له امام مجلس النواب العراقي سنة 1926 «لا سبيل للبلاد الى الحياة ما لم تتمتع جميع عناصر الدولة بحقوقها ويتم معاملة جميع عناصر الدولة بالعدل»‚
    ولكن لماذا ينتحر مثل هذا الرجل وهو رئيس للوزراء اي انه كان في قمة السلطة كما ان صفاته التي اجمع عليها الذين عرفوه كانت كلها صفات ايجابية طيبة لا يوحي شيء منها بأنه يمكن ان يفكر في الانتحار او يقدم عليه؟ انها السياسة ومتاعبها وحروبها المعلنة وغير المعلنة‚ وقد أشار السعدون نفسه في رسالته التي كتبها قبل انتحاره الى ما يفسر هذا الانتحار بعض التفسير حيث يقول «سئمت هذه الحياة التي لم اجد فيها لذة وذوقا وشرفا‚ الأمة تنتظر الخدمة‚ الانجليز لا يوافقون‚ ليس لي سند‚ العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء عاجزون وبعيدون كل البعد عن الاستقلال وهم عاجزون عن تقدير نصائح ارباب الشرف امثالي يظنون انني خائن للوطن وعبد للانجليز‚ ما اعظم هذه المصيبة انا الفدائي الاشد اخلاصا لوطني قد كابدت انواع الاحتقار وتحملت المذلة في سبيل هذه البقعة المباركة من الارض التي عاش فيها أبائي وأجدادي مرفهين!! حقا السياسة غابة والعواطف الطيبة المثالية فيها قد تهلك صاحبها وتقضي عليه.
    .......................
    *عن صحيفة: الأهرام.
    رد مع اقتباس  
     

  9. #21 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 20 ) ناقد لبناني يستغيث من شعر العقاد‏!‏

    بقلم‏:‏ رجاء النقاش
    ..........................

    قام طه حسين بمبايعة العقاد بإمارة الشعر سنة‏1934,‏ وذلك بعد سنتين من وفاة أمير الشعراء الأول والأخير أحمد شوقي سنة‏1932,‏ وكانت مبايعة طه حسين بلا جدوي‏,‏ لأن أحدا لم يتبعه في اعطاء تاج الإمارة للعقاد‏,‏ ذلك لأن العقاد العظيم عند الناس كان هو العقاد المفكر صاحب العقل الكبير والثقافة الواسعة والقدرة الفذة علي التحليل‏,‏ أما العقاد الشاعر فلم يكن موضع إجماع‏,‏ بل كانت نسبة قليلة محدودة من قراء الشعر ونقاده هي التي تري في شعر العقاد ما رآه طه حسين من الجمال والقوة والتميز علي غيره من شعراء عصره مما يجعله في رأي هذه الأقلية جديرا‏,‏ بأن يكون أميرا علي الشعر والشعراء‏,‏ وإن كانت هذه الإمارة في واقع الأمر بلا عرش ولا مال ولا جاه‏.‏ والذي أعطي لإمارة الشعر هيبتها وجلالها المادي في أيام شوقي‏,‏ أن شوقي كان أميرا أرستقراطيا ثريا وجيها في الحياة قبل أن يكون كذلك بين الشعراء‏.‏ أما العقاد المكافح القادم من أسوان فقد كان فقيرا‏,‏ وسوف يبقي فقيرا طيلة حياته ولو جعلوه أميرا علي الشعراء والناثرين‏,‏ أو جعلوه‏..‏ محافظا لأسوان‏!!‏
    أشرت في مقال سابق الي أن مبايعة طه حسين للعقاد بالإمارة كانت عملا من أعمال السياسة أكثر منها عملا من أعمال الأدب والنقد‏,‏ وفي ذلك العصر‏,‏ أي في ثلاثينات القرن الماضي كانت عين السياسة والسياسيين مركزة علي الأدب والأدباء‏,‏ فالقصر الملكي يريد أن يكون له أدباؤه وشعراؤه‏,‏ وكان هناك رجل في القصر الملكي اسمه زكي الابراشي باشا كان وكيلا للديوان ـ فيما أذكر ـ وقد جعل من أهم وظائفه السياسية أن يكسب الي صف الملك فؤاد أدباء وشعراء لهم وزن وتأثير‏,‏ وكانت له ميزانية غير قليلة لشراء من يستطيع من الأدباء والفنانين‏.‏
    أما الأحزاب السياسية فقد كانت تتقاتل فيما بينها لتحظي بين صفوفها بأديب شاعر تتوجه من خلاله الي الجماهير وتطلب علي يديه الرضا والقبول‏.‏ وتلك قصة جديرة بأن تجد من يرويها في يوم من الأيام‏,‏ لما فيها من متعة‏,‏ ولما تكشفه من صفحات وطنية وسياسية كثيرة لاتزال غائبة عن العيون وعن ذاكرة الناس‏.‏
    في عام‏1934,‏ وفي هذا المناخ الخاص الذي كانت فيه القوي السياسية تعتبر الأدباء والشعراء أداة بالغة الأهمية في كسب الرأي العام والتأثير عليه‏,‏ التقي طه حسين مع العقاد في حزب الوفد تحت قيادة الزعيم الوطني مصطفي النحاس‏.‏ والعقاد وفدي قديم منذ انشاء الحزب علي يد سعد زغلول في ثورة‏1919,‏ أما طه حسين فقد كان وفديا حديث العهد بالوفد‏,‏ وقد جاء الي الوفد من صفوف الأحرار الدستوريين حوالي سنة‏1930,‏ ولابد أن طه حسن قد أدرك بعد اقترابه من الوفد أن الوفد كان يحب أن يرفع شأن العقاد‏,‏ فالعقاد كان في ذلك الوقت هو نجم نجوم الكتاب والأدباء والصحفيين الوفديين‏,‏ وكان قد دخل السجن سنة‏1930‏ بتهمة العيب في الذات الملكية وكانت التهمة الحقيقية هي دفاع العقاد في شجاعة هائلة عن الدستور وحرية الوطن والمواطنين‏,‏ مع هجومه بلا تحفظ علي الاستبداد والمستبدين من أنصار الملك وأعوان الانجليز‏.‏
    ومن أطرف الذين وقفوا ضد شعر العقاد ناقد لبناني كبير هو مارون عبود‏1886‏ ـ‏1962‏ في كتاب شهير له عنوانه علي المحك علي وزن مفك ففي هذا الكتاب دراسة واسعة لشعر العقاد‏,‏ يخرج فيها الناقد اللبناني الكبير بالرفض لشعر العقاد‏.‏
    وهذا نموذج مما كتبه مارون عبود عن العقاد‏,‏ حيث يقف هذا الناقد علي الطرف المقابل للمتحمسين لشعر العقاد‏.‏ يقول مارون عبود‏:‏ طالعت دواوين ثلاثة للعقاد أنفق علي تحبيرها برميل حبر وقنطارا من الورق وغابة من الأقلام‏.‏ تحسبه سمسارا يصدر شعرا في دواوين وبضاعته أشكال وألوان‏,‏ فكأنه دكان قرية فيه جميع حوائج البيت‏,‏ وليس الذنب ذنب الأستاذ‏,‏ فهو عارف بأصول الفن‏,‏ ولكن الكلام يستعصي عليه‏,‏ نفسه تطلب ومعدته لا تقطع‏,‏ فيقعد ملوما محسورا‏,‏ خذ هذا العنوان الرائع عيد ميلاد في الجحيم‏.‏ فماذا تري في هذه القصيدة وهي خير ما في ديوانه وحي الأربعين؟ بيانا دون الوسط‏,‏ وشعرا أجش‏,‏ تغلب عليه صنعة النثر وصبغته‏,‏ وعلي ضوء قوله إنما الشاعر يشعر ـ بفتح الياء وضم العين ويشعر ـ بضم الياء وكسر العين رحت أفتش في جحيمه ولا نور يهديني‏,‏ فما وجدت خيالا يرضيني‏,‏ ولا شعورا يسليني‏,‏ فعدت بخيبة أردد‏:‏ مالي لا أري الهدهد‏.!!.‏
    وهنا يشير الناقد مارون عبود الي الآية القرآنية الكريمة من سورة النمل وهي علي لسان سيدنا سليمان ونصها‏:‏ وتفقد الطير فقال مالي لا أري الهدهد‏,‏ أم كان من الغائبين‏.‏
    والناقد يريد القول هنا أن الفن كان غائبا في القصيدة كما غاب الهدهد عن طيور سليمان‏.‏
    ويواصل مارون عبود تعليقه علي القصيدة فيقول‏:‏ القصيدة غراء فرعاء أي طويلة ممشوقة مصقول ترائبها أي ناعمة الصدر ولكنها مقعدة تخلو من الاهتزازات والنبرات والصدي البعيد‏,‏ أنكون في جهنم ونبرد؟ أنحضر عيدا‏..‏ ونحزن؟ ثم نقول‏:‏ إن الشاعر من يشعر ويشعر؟‏.‏
    وتبلغ السخرية في نقد مارون عبود للعقاد حدا عنيفا عندما يعلق علي أبيات أخري له فيقول‏:‏ ماذا نقول؟
    أما في مصر عاقل ينصح هذا الرجل؟ المروءة ياناس‏!‏
    أنقذوا أخاكم‏,‏ وكفوا عنا شعروركم
    والشعرور تصغير للشاعر‏.‏
    أما الأبيات التي علق عليها مارون عبود بكل هذه السخرية‏,‏ وهذه الاستغاثة الط ريفة وإن كانت قاسية‏,‏ فهي أبيات من قصيدة للعقاد في ديوانه عابر سبيل وعنوان القصيدة هو سلع الدكاكين في يوم البطالة‏,‏ والمقصود بيوم البطالة ـ كما هو واضح ـ يوم العطلة‏,‏ وقد كتب العقاد مقدمة نثرية للقصيدة يقول فيها‏:‏
    بشيء من التخيل يستطيع الانسان أن يسمع سلع الدكاكين في أيام البطالة أو العطلة تشكو الحبس والركود‏,‏ وتود هذه السلع أن تبرز لتعرض علي الناس وتباع ولا تفضل الراحة والامان علي مايصيبها من البلي والتمزيق بعد انتقالها الي الشراة المشترين‏,‏ كما أن الجنين في عالم الغيب لا يفضل أمان الغيب علي متاعب الحياة وآلامها‏,‏ ولذلك تظهر الأجنة جمع جنين ألوفا بعد ألوف الي هذا المعترك الأليم‏.‏
    ثم تأتي بعد ذلك الأبيات التي علق عليها الناقد اللبناني مارون عبود تعليقه الساخر المستغيث‏,‏ حيث يقول العقاد في قصيدته‏:‏
    مقفرات مغلقات محكمات
    كل أبواب الدكاكين علي كل الجهات
    تركوها‏...‏ أهملوها
    يوم عيد عيدوه ومضوا في الخلوات
    البدار‏...‏ ما لنا اليوم فرار
    أي صوت ذاك يدعو الناس‏...‏ من خلف جدار
    أدركوها‏...‏ أطلقوها
    ذاك صوت السلع المحبوس‏...‏ في الظلمة ثار
    وليس عندي ما يدل علي أن هناك أي خصومة شخصية بين الناقد اللبناني مارون عبود وبين العقاد‏,‏ بل ليس عندي ما يقول بأنهما قد التقيا في أي مناسبة‏,‏ ولذلك فأنا أظن أن رأي مارون في شعر العقاد هو رأي أدبي قائم علي ذوق الناقد وطريقة فهمه للشعر‏.‏ أما ماجاء في نقد مارون عبود من سخرية قاسية فتلك صفة خاصة تتميز بها كل كتابات مارون عبود‏,‏ سواء كانت كتابته عن العقاد أو عن غيره‏.‏
    أنا لا أستطيع أن أسخر من العقاد‏,‏ فالعقاد عندي له إجلال ومهابة ومقام عظيم‏,‏ وهو أحد الكبار الذين حملوا الأنوار الي العقل العربي في القرن العشرين‏,‏ والذين أناروا كما أنار العقاد‏..‏ كيف نقف منهم موقف الساخرين؟‏!.‏
    لكني مع ذلك وبكل تواضع أميل من الناحية الموضوعية الي رأي مارون عبود في قصيدة العقاد‏.‏ فالقصيدة هي فكرة جافة خالية من العاطفة وفيها صنعة‏,‏ ولكن ليس فيها فن‏,‏ والصنعة هي التعبير عن المهارة‏,‏ أما الفن فهو التعبير عن الشعور ونبضات القلب والتجربة الانسانية‏.‏
    .......................
    *عن صحيفة: الأهرام.
    رد مع اقتباس  
     

  10. #22 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 21 ) بين شاعر النيل ونساء مصر

    بقلم: رجاء النقاش
    .........................

    يتولي صديقي الأديب الطبيب العالم الدكتور عمرو أبو ثريا منصب المدير الطبي للمركز الطبي العالمي القائم في الكيلو‏42‏ من طريق الاسماعيلية ـ القاهرة الصحراوي‏,‏ وهذا المركز هو في الحقيقة صرح طبي رائع بأطبائه الممتازين وبقية العاملين فيه من اداريين وفنيين ومجموعات تمريض وأجهزة طبية حديثة متقدمة‏,‏ وهذا الفريق الكبير كله يعمل تحت قيادة الطبيب الإنسان اللواء رضا جوهر حيث يقود العمل في هذه المؤسسة الطبية الكبري بحكمة وحزم وعناية ومتابعة لكل التفاصيل‏,‏ فبارك الله فيه وفي كل العاملين معه‏.‏ والحقيقة أن هذا المركز الطبي العظيم يستحق ان تفخر به مصر‏,‏ وأظن ان من الواجب ان نحرص علي هذا الصرح الطبي كل الحرص‏,‏ وأن نمد له يد المساعدة والمساندة للابقاء عليه في درجة الكفاءة العالية التي يعمل بها الآن‏,‏ وقد كان من حسن حظي منذ اصابتي بالمرض قبل عامين أن يكون علاجي في هذا الصرح الطبي الكبير‏,‏ ومن خلال علاجي الذي لايزال مستمرا حتي الآن في هذا المركز عرفت عنه وعن العاملين فيه الكثير‏,‏ ولعلي أعود في مناسبة قريبة للحديث عن هذا المركز الطبي العظيم‏.‏
    أعود بعد ذلك إلي صديقي الدكتور عمرو أبوثريا‏.‏ فهو إلي جانب علمه الطبي الواسع وأخلاقه الكريمة الطيبة معروف بالاهتمام العجيب بالأدب والثقافة‏,‏ وهو قارئ لم أعرف له مثيلا في متابعته الاعمال الأدبية الجديدة والقضايا الثقافية المختلفة‏,‏ وفي حديث أخير بينه وبيني تساءل هذا الصديق الكريم عن سبب استخدام شاعر النيل حافظ إبراهيم لكلمة الغواني في قصيدة له شهيرة كتبها عن أول مظاهرة قامت بها النساء المصريات في ثورة‏1919,‏ وبالتحديد يوم‏16‏ مارس من عام الثورة‏,‏ وقد جاءت كلمة الغواني في أول بيت من أبيات قصيدة حافظ ابراهيم حيث يقول‏:‏
    خرج الغواني يحتججن .:. ورحت أرقب جمعهنه
    وكلمة يحتججن هي من الاحتجاج ومعناها واضح‏,‏ فالنساء في هذه المظاهرة ثائرات‏,‏ والثورة هي احتجاج علي الأوضاع الخاطئة والظالمة‏,‏ أما كلمة الغواني الواردة في قصيدة حافظ ابراهيم فإنها الآن كلمة سيئة السمعة‏,‏ وهي تشير إلي المرأة اللعوب التي لاتقيم وزنا للأخلاق ولاترتبط بأي شيء تحرص المرأة الشريفة المحترمة علي الارتباط به‏.‏
    كيف جاز اذن لشاعر كبير عارف بأسرار اللغة العربية مثل حافظ إبراهيم أن يستخدم كلمة غواني ومفردها غانية في وصف مجموعة من أشرف وأكرم نساء مصر؟ ان موضوع القصيدة هو أول مظاهرة نسائية في تاريخ مصر‏,‏ وهذا الموضوع كان يفرض علي حافظ ابراهيم وهو شاعر الوطنية ان ينظر إلي هؤلاء النساء نظرة احترام واجلال وتقدير‏,‏ فأين الحقيقة في هذه القضية؟ الحقيقة هي ان حافظ إبراهيم كان علي صواب في استخدامه لكلمة الغواني وذلك لأن المعني الأصلي الذي تعترف به قواميس اللغة العربية لهذه الكلمة يختلف تماما عن معناها في استخدام جيلنا المعاصر لها‏,‏ وقد استخدم الشعر العربي قديما وحديثا كلمة الغواني بمعناها الأصلي المحترم‏,‏ ومن ذلك قول شوقي في قصيدة مشهورة له‏:‏
    خدعوها بقولهم حسناء .:. والغواني يغرهن الثناء
    وكلمة الغواني في قصيدة حافظ وقصيدة شوقي وفي أي نماذج أدبية مشابهة تدل علي المرأة التي لها عز وكرامة‏,‏ وهي المرأة المصانة المحترمة البعيدة كل البعد عن أي صورة سيئة للنساء‏,‏ وهذا المعني هو المعني الأصلي الصحيح للكلمة‏,‏ وقد ظلت كلمة الغواني كلمة محترمة حتي أوائل القرن العشرين‏,‏ أي في جيل شوقي وحافظ وأما في الأجيال التالية فقد بدأت كلمة الغواني تنزل عن عرشها‏,‏ وأصبح الاستخدام العام الشائع لها هومعناها السيئ‏,‏ وليس معناها الأصيل في اللغة العربية‏,‏ ولاشك أننا في استخدامنا لكلمة الغواني بمعناها السيئ مخطئون‏,‏ علي الأقل من الناحية اللغوية الخالصة فالقواميس العربية تعطي للكلمة معني جميلا آخر‏,‏ ومن هذه القواميس ذلك القاموس الوافي البديع الذي أصدره في أربعة أجزاء الأديب العربي الليبي الكبير خليفة محمد التليسي وأسماه باسم النفيس من كنوز القواميس فماذا يقول لنا النفيس عن كلمة الغواني ومفردها غانية؟
    في الجزء الثالث من النفيس ـ صفحة‏1669‏ نقرأ مايلي‏:‏ الغانية هي التي غنيت بحسنها وجمالها عن الحلي‏,‏ وقيل هي الشابة العفيفة كان لها زوج أو لم يكن‏,‏ وكل امرأة هي غانية وجمعها غواني ويمكن جمعها علي غانيات أيضا‏.‏
    فكلمة الغواني إذن هي كلمة محترمة ولاذنب لها في انحرافنا بها واساءتنا إليها واستخدامنا لها فيما لاتعنيه‏.‏
    يقودنا هذا الحديث اللغوي إلي وقفة قصيرة أمام قصيدة حافظ ابراهيم في مظاهرة النساء المصريات‏,‏ فقد ظلت هذه القصيدة ضمن الأدب السري الممنوع نشره في الصحف أو ترديده علنا في أي مجال‏,‏ وذلك بأمر الاحتلال الانجليزي‏,‏ ولكن أحرار ثورة‏1919‏ طبعوها في منشورات‏,‏ ووزعوها سرا علي الجماهير‏,‏ فنالت القصيدة شهرة واسعة برغم أنها ممنوعة بأوامر عسكرية‏,‏ وبذلك طارت القصيدة من قفص الاحتلال واحتمت بأحضان الناس‏,‏ وقد حملت القصيدة تحية جميلة وتأييدا حارا للنساء المتظاهرات‏,‏ كما تضمنت القصيدة هجوما عنيفا علي الاحتلال وتنديدا قويا به‏,‏ وقد ظلت هذه القصيدة ممنوعة من النشر في الصحف لمدة عشر سنوات متواصلة‏,‏ وبقيت منشورا ثوريا ينطلق من يد إلي يد حتي سنة‏1929‏ حين استطاع حافظ أن ينشرها في الصحف لأول مرة‏,‏ وكان ذلك بالتحديد في‏12‏ مارس‏1929,‏ رغم أنها مكتوبة سنة‏1919,‏ وبعض القصائد لها تاريخ شريف خاص بها‏,‏ ولاشك ان قصيدة حافظ هي في مقدمة مثل هذه القصائد التي كانت تحارب مع الناس في معارك الحياة أوالموت ضد الاحتلال‏.‏
    والقصيدة التي كتبها حافظ هي قصيدة سهلة جميلة مليئة بالموسيقي العذبة والصور الحية‏,‏ ولاشك ان حافظ إبراهيم كان يضع في اعتباره‏,‏ وهو يكتبها ان تكون القصيدة سهلة وقادرة علي الانتقال بين الناس دون صعوبة أو تعقيد‏,‏ فهي قصيدة جماهير وليست قصيدة صالون وفي هذه القصيدة يقول حافظ‏:‏
    خرج الغواني يحتججن‏...‏ ورحت أرقب جمعهنه
    فإذا بهن تخذن من‏...‏ سود الثياب شعارهنه
    فطلعن مثل كواكب‏...‏ يسطعن في وسط الدجنه
    وأخذن يجتزن الطريق‏...‏ ودار سعد قصدهنه
    يمشين في كنف الوقار‏...‏ وقد أبن شعورهنه
    وإذا بجيش مقبل‏...‏ والخيل مطلقة الأعنه
    واذا الجنود سيوفها‏...‏ قد صوبت لنحورهنه
    وينتهي حافظ ابراهيم بالسخرية من الجيش الانجليزي الذي تصدي بعنف شديد للمظاهرة النسائية فيقول‏:‏
    فليهنأ الجيش الفخور ... بنصره وبكسرهنه
    و قد ورد في الأبيات السابقة كلمة دجنة ومعناها الظلام‏,‏ ووردت عبارة دار سعد والمقصود هو سعد زغلول زعيم الثورة‏,‏ وكان المصريون يسمون دار سعد باسم بيت الأمة وقد ورد في القصيدة‏,‏ أيضا قول الشاعر وقد أبن شعورهنه والمقصود هنا ليس شعر الرأس ولكن المقصود هو الشعور والعواطف الوطنية‏.‏
    بقي أن نشير اشارة سريعة إلي هذه المظاهرة الوطنية النسائية الأولي في تاريخ الحركة الوطنية المصرية‏,‏ ويكفي هنا ان نقرأ هذا المشهد المؤثر من مشاهد هذه المظاهرة التاريخية كما يقدمه لنا المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي في كتابه ثورة‏1919‏ ـ صفحة‏211‏
    تقدمت واحدة من المتظاهرات وهي تحمل العلم إلي جندي انجليزي كان قد وجه بندقيته اليها وإلي من معها‏,‏ وقالت بالانجليزية‏,‏ نحن لانهاب الموت أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا في مصر مس كافل ثانية‏,‏ و مس كافل التي تشير اليها المتظاهرة الشجاعة هي ممرضة انجليزية كانت تعمل في صفوف المقاومة ضد الألمان في الحرب العالمية الأولي‏,‏ وقد وقعت في الأسر‏,‏ فأعدمها الالمان بالرصاص‏,‏ وكان لإعدامها ضجة كبري في العالم‏.‏
    .................................
    *الأهرام ـ في 1/4/2007م.
    رد مع اقتباس  
     

  11. #23 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 22 ) في وداع أستاذ عظيم

    بقلم‏:‏ رجاء النقاش
    ......................

    في يوم الخميس العاشر من مارس الحالي توفي إلي رحمة الله أستاذ الأساتذة وسيد علماء الأدب واللغة العربية في العصر الحالي الدكتور شوقي ضيف‏1910‏ ــ‏2005,‏ وجاء رحيل هذا الأستاذ العظيم بعد أن ترك وراءه مجموعة فريدة من الدراسات الخصبة المتنوعة‏,‏ وقد أقترب عدد هذه الدراسات من الخمسين‏,‏ ولكن أهميتها ليست في عددها الكبير‏,‏ وإنما تعود هذه الأهمية إلي القيمة العلمية التي تتميز بها هذه الدراسات‏,‏ فالدكتور شوقي ضيف في دراساته جميعا هو مثل أعلي للعالم المخلص الأمين الذي لايدخر جهدا في البحث عن الحقائق الصحيحة الدقيقة أينما كانت‏,‏ وهو واحد من كبار العلماء الذين يفرقون بين المعلومات والرأي والتحليل‏,‏ ولذلك فإن الذين قد يختلفون مع الدكتور شوقي ضيف في آرائه وتحليلاته لايفوتهم أن ينتفعوا أعظم الانتفاع بما يقدمه من معلومات‏,‏ وقد وفق الله هذا الأستاذ العظيم إلي أن يكتب كل دراساته بأسلوب واضح مشرق لاتعقيد فيه‏,‏ بحيث يلتقي المتخصصون وغير المتخصصين علي محبته والاستمتاع به والانتفاع بما يقدمه من أفكار ومعلومات‏.‏
    من بين كتب الدكتور شوقي ضيف كتاب عنوانه مع العقاد انتهي من كتابته في أول يونيو سنة‏1964,‏ أي بعد وفاة العقاد في‏12‏ مارس‏1964‏ بما لا يزيد علي شهرين ونصف الشهر‏,‏ وهذا الكتاب هو من أجمل كتب شوقي ضيف وأكثرها تركيزا ومتابعة علمية لحياة العقاد وأدبه‏,‏ وفي هذا الكتاب معني مهم وكبير‏,‏ فشوقي ضيف هو من التلاميذ المقربين جدا إلي طه حسين‏,‏ وقد كان بين العقاد وطه حسين مايشبه المنافسة حول المكانة والقيمة والتأثير‏,‏ وهي منافسة لم تكن ظاهرة‏,‏ ولم تتحول إلي حرب أدبية معلنة‏,‏ ولكنها كانت منافسة موجودة‏,‏ وكانت الحياة الثقافية تشعر بها شعورا واضحا‏,‏ في الجامعة وخارج الجامعة‏.‏ وبرغم هذه المنافسة‏,‏ فإن موضوعية شوقي ضيف وارتفاعه التام فوق أي تعصب أو حزبية أدبية دفعه إلي أن يكون أول من يقدم دراسة شاملة عن العقاد بعد رحيله‏,‏ وهذه الدراسة لا تزال حتي اليوم من أفضل ماظهر عن العقاد منذ رحيله قبل أربعين سنة حتي الآن‏,‏ وهكذا يرتفع شوقي ضيف في دراسته للعقاد عن أي خصومات ظاهرة أو خفية‏,‏ ويهتم بالحقيقة وحدها شأن العالم المخلص الأمين صاحب الضمير الحي الذي لايعرف الظلم للآخرين ولايستسلم أبدا للأهواء الشخصية‏.‏
    وفي السطور الأولي من كتاب مع العقاد يقول شوقي ضيف‏:‏ لم يكتسب العقاد مكانته الأدبية الرفيعة من جاه ولا من وظيفة ولامن لقب علمي‏,‏ وإنما اكتسبها بكفاحه المتصل العنيف الذي يعد به أعجوبة من أعاجيب عصرنا النادرة‏.‏
    ولو أننا درسنا حياة شوقي ضيف وجهاده الأدبي والعلمي دراسة دقيقة لوجدنا أن ماكتبه عن العقاد في السطور السابقة يكاد ينطبق عليه نفسه‏,‏ فقد اكتسب شوقي ضيف مكانته العلمية والأدبية بكفاحه المتصل الذي لم يتوقف ولم يهدأ ولم يلتفت فيه إلي شيء آخر خلال سبعين سنة متصلة‏,‏ وفي كتابه الجميل الذي جعل عنوانه معي‏,‏ يروي لنا شوقي ضيف قصة حياته ويصل في هذا الكتاب إلي قمة الوعي والموضوعية‏,‏ فنجد أن قصة حياته الشخصية مرتبطة أشد الارتباط بتاريخ الحركة الوطنية في مصر‏,‏ خاصة في مرحلة ثورة‏1919‏ ومابعدها‏,‏
    وهذه الحياة الشخصية مرتبطة كذلك أشد الارتباط بتاريخ التطور الثقافي في مصر في نفس الفترة‏,‏ فالحياة الشخصية والحياة الوطنية والتطور الثقافي ترتبط كلها ببعضها البعض ارتباطا وثيقا سهلا طبيعيا ليس فيه أي افتعال‏,‏ وهذا دليل حي قوي علي أن شوقي ضيف كان ينظر إلي نفسه وإلي عمله وتطوره الشخصي علي أنه جزء من إطار كبير يضم تاريخنا الوطني وتطورنا الثقافي في الوقت نفسه‏,‏ ولا أكاد أعرف بين كتب السيرة الذاتية المهمة في تاريخنا الأدبي المعاصر من كان حريصا كل هذا الحرص علي الجمع بين العناصر الثلاثة‏,‏ أي الشخص والوطن والثقافة‏,‏ كما فعل شوقي ضيف في كتابه معي‏,‏ وفي هذا كله دليل علي الموضوعية الشديدة‏,‏ وفيه دليل علي التواضع وعلي آصالة الجانب الانساني في شخصية شوقي ضيف‏,‏ فهو لم يكن في سيرته الذاتية يقدم صورته الشخصية الخاصة علي أنها صورة للنبوغ الفردي‏,‏ بقدر مايقدمها للناس أجمعين علي أن هذه الشخصية كانت ثمرة للحركة الوطنية والتطور الثقافي في مصر‏.‏
    ومن خلال هذه السيرة الذاتية لشوقي ضيف كما صورها لنا هذا الأستاذ العظيم في كتابه معي سوف نجد صورة واضحة بديعة لعالم مجتهد مثابر صبور علي البحث الجاد والدراسة العميقة منذ فجر شبابه‏,‏ فهو رجل لم يلتفت أبدا إلي المناصب الإدارية في الجامعة أو خارج الجامعة‏,‏ وأعلي منصب وصل إليه داخل الجامعة هو منصب رئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة‏,‏ أما أعلي منصب وصل إليه خارج الجامعة فهو المنصب الذي وصل إليه بالانتخاب‏,‏ وأعني به منصب رئيس مجمع اللغة العربية‏,‏ وكان شوقي ضيف ـ لو أراد ـ جديرا بأن يصل في الجامعة وخارج الجامعة إلي أعلي المناصب‏,‏ فزملاؤه بل وتلاميذه قد أصبحوا عمداء للكليات ورؤساء للجامعات‏,‏ بل وصل البعض منهم إلي مناصب الوزارة‏,‏ لكن شوقي ضيف لم يسع إلي شيء من ذلك‏,‏ واختار دون تردد أن يكون عالما وباحثا وأستاذا للأدب في الجامعة‏,‏ وقد ظل وفيا لذلك لايحيد عنه‏,‏ ولايرضي لنفسه أن يخرجه أحد عن هذا التركيز التام علي العمل العلمي والاخلاص له والتفاني فيه‏,‏
    وبرغم مانجده في كتابه معي من وعي سياسي كبير ومتابعة دقيقة لتطور الحركة الوطنية في مصر‏,‏ وبرغم اقتناعه وميله الواضح إلي حزب الوفد القديم إلا أن شوقي ضيف لم ينضم إلي حزب‏,‏ ولم يشتغل بالسياسة العملية‏,‏ ولم يدخل إلي ميدانها الصاخب المليء بالصراعات‏,‏ ولعل ذلك يعود إلي طبيعته الهادئة ونفسيته التي لاتطيق الدخول في معارك وحروب مختلفة‏,‏ فقد كان يريد أن يتفرع للعلم وحده‏,‏ ولايريد أن ينصرف عن ذلك تحت أي نوع من الإغراء‏,‏ خاصة إغراء السياسة العملية التي هي في العالم الثالث علي الخصوص مليئة بالأزمات والصعوبات والتقلبات‏,‏ ونحن مازلنا جزءا من هذا العالم الثالث والسياسة العملية هي عبء شديد وثقيل علي العلم والعلماء‏,‏ وكثيرا ماتعرض العلماء الذين يسمحون لأنفسهم بأن يشتغلوا بالسياسة العملية إلي مشاكل تعصف بهم وتربكهم وتحرمهم من التفرغ للبحث والدراسة‏,‏ ولعل هذا الإخلاص الشديد للعلم‏,‏ مع عدم الاستجابة لأي إغراء‏,‏ أو التطلع لأي شيء آخر بعيد عن العمل العلمي‏,‏ هو الذي أعطي لشوقي ضيف ما كان معروفا عنه من هدوء ونفس راضية وحياة خالية من أي اضطرابات أو ارتباكات‏.‏
    ولقد بدأ شوقي ضيف حياته العلمية والعملية معا نحو سنة‏1937‏ حينما اختاره طه حسين ليكون معيدا في كلية الآداب في جامعة القاهرة التي كان أسمها في ذلك الوقت جامعة فؤاد الأول وقد أنهي شوقي ضيف حياته وهو حريص علي موقعه كأستاذ في نفس الجامعة‏,‏ إذ أنه ـ فيما أعلم ـ لم يتخل عن عمله الجامعي حتي بعد أن أصبح رئيسا للمجمع اللغوي‏,‏ ومعني ذلك أن شوقي ضيف قد قضي نحو سبعين سنة متصلة في موقعه العلمي دون أن يلتفت إلي شيء سواه‏,‏ وعندما كان يضطر إلي الابتعاد عن الجامعة لسبب من الأسباب فانه كان لايتوقف عن عمله العلمي الذي أخلص له وأعطاه حياته كلها‏,‏ وهذا هو سر من أكبر أسرار تفوق هذا الأستاذ العظيم وهو الذي يفسر لنا انتاجه الغزير والمنظم والمهم الذي لامثيل له في المكتبة العربية الحديثة‏,‏ فكتابات شوقي ضيف هي مرجع أساسي متكامل موثوق به لتاريخ الأدب العربي في عصوره المختلفة وهي‏:‏ العصر الجاهلي والعصر الإسلامي والعصر الأموي والعصر العباسي الأول والعصر العباسي الثاني وعصر الدول الإمارات وبدايات العصر الأدبي العربي الحديث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين‏.‏
    علي أننا نجد في سيرة شوقي ضيف الشخصية جانبا مهما هو علاقته الوثيقة باساتذته الكبار مثل طه حسين وأحمد أمين ومصطفي عبد الرازق وعبد الوهاب عزام فقد كان شوقي ضيف ينظر إلي هؤلاء الاساتذة الكبار في احترام شديد‏,‏ ويعرف ما كان عليه هؤلاء الأساتذة من فضل‏,‏ وما كانوا يمثلونه من قيمة علمية وأخلاقية عالية‏,‏ وعلاقة شوقي ضيف بأساتذته الكبار هي نموذج حي للعلاقة المثمرة بين كبار العلماء وبين تلاميذهم المتعطشين للفهم والمعرفة‏,‏ والذين لا يعانون من الرغبة المريضة في هدم السابقين والتقليل من شأنهم وإنكار فضلهم والنظر إليهم نظرة متعالية وغير منصفة‏.‏
    وحديث شوقي ضيف عن أساتذته الكبار فيه وفاء جميل وفيه فهم عميق ومحبة غامرة وتفسير دقيق لجوانب العظمة في هؤلاء الأساتذة السابقين‏,‏ ولعلنا نعود إلي علاقة شوقي ضيف بأساتذته في حديث آخر‏,‏ فهي علاقة أستاذ عظيم بأساتذة عظماء أيضا‏.‏
    .......................................
    الأهرام ـ في 20/3/2005م.
    رد مع اقتباس  
     

  12. #24 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 23 ) هل قام طه حسين بتقبيل يد الملك فاروق؟

    بقلم : رجاء النقاش
    .......................

    هذه وقفة أخيرة مع الاتهامات الموجهة إلي طه حسين من أعدائه والمختلفين معه والذين لا يثقون به ويعتبرونه مفكرا مطعونا في وطنيته‏,‏ بل ومطعونا في دينه وعقيدته‏.‏ وقد يري البعض أنه لا جدوي من إعادة هذه الاتهامات إلي الأضواء والحديث عنها من جديد‏.‏ ولكني أري غير ذلك‏.‏ فالاتهامات التي تعرض لها طه حسين أو معظمها هي معزوفة سخيفة تتردد كثيرا في صور مختلفة‏.‏ وهي اتهامات يعاني منها عدد من كبار المفكرين والأدباء باستمرار‏,‏ ونحن عندما نتحدث عن طه حسين وما أصابه‏,‏ فإنما نتحدث عن طه حسين الرمز الذي يمثل هذه القبيلة من الذين يجاهدون علي ساحة الآداب والفنون والأفكار ويتحملون في سبيل ذلك أهوالا وصعوبات‏.‏ ولعلنا لا ننسي أن الكثيرين من المفكرين الأحرار في تاريخنا الثقافي قد تعرضوا للأذي‏,‏ ابتداء من سجن العقاد لمدة تسعة أشهر سنة‏1930‏ بتهمة العيب في الذات الملكية‏,‏
    إلي طرد طه حسين نفسه من عمله كأستاذ في كلية الآداب وعميد لها سنة‏1932‏ بتهمة معارضة رئيس الوزراء في ذلك الوقت إسماعيل صدقي باشا‏,‏ وكان صدقي من كبار المستبدين الذين يرون أن المصريين لا يستحقون الديمقراطية ولا يصلحون لها أبدا‏,‏ وأن هذا الشعب لن يتقدم أو يتطور إلا إذا حكمته يد حديدية لا تعرف الرحمة‏,‏ وكان من الطبيعي أن يعارض طه حسين هذا السياسي المستبد‏,‏ فكان جزاؤه حرمانه من عمله الجامعي عقابا له علي أنه مفكر حر لا يقبل الاستبداد والطغيان من أحد‏.‏
    ولعلنا لا ننسي الضربات الأخري التي تعرض لها أحرار المفكرين والأدباء إلي حد محاولة اغتيال نجيب محفوظ مساء يوم الجمعة‏14‏ أكتوبر سنة‏1994.‏
    الدفاع الآن عن طه حسين لا يفيد طه حسين في شيء‏,‏ بل إنه يفيدنا نحن‏.‏ فقد حقق طه حسين لنفسه مكانة رفيعة في عصره وبين أهله‏,‏ وهي مكانة ربما لم يصل إليها أحد سواه‏.‏ أما بعد رحيله سنة‏1973,‏ فقد كان له كرسي تم إعداده بعناية إلهية كاملة له علي صفحات التاريخ‏,‏ فهو عليه الآن جالس بمهابته وقامته العالية ولا يعنيه أن يكون هناك صغار يحاولون أن يقذفوا عليه بعض الأحجار‏.‏ فطه حسين ـ بشخصه أو بتاريخه ـ ليس في حاجة إلي من يدافع عنه‏,‏ ولكن الأمر يعنينا نحن‏,‏ لأن الدفاع عنه هو دفاع عن كل الأحرار في كل مكان وفي أي محنة يتعرضون لها ويعانون منها‏.‏ علي أن الدفاع عن طه حسين ليس معناه أنه أصبح في نظرنا من المقدسين‏,‏
    فطه حسين ليس قديسا‏,‏ وله مثلما لغيره أخطاء وهفوات‏,‏ وأحيانا سقطات‏,‏ ولكنها كلها لا تمس طه حسين الذي ندافع عنه لأنه هو الرمز الحي لكل مفكر يجاهد من أجل التقدم والنهضة وكرامة الإنسان‏.‏ وفي حياة طه حسين مواقف قد تلتبس علي من لا يحسنون النظر‏,‏ ولكنها لا تلتبس علي إخوان الصفاء والنقاء والقادرين علي إنصاف الناس والذين يحسنون تقدير الأمور في موضوعية‏,‏ ويحملون في عقولهم ونفوسهم موازين صحيحة بالغة الاستقامة والعدالة والنزاهة‏.‏
    عندما يقال مثلا إن طه حسين قد تنازل في موقف من المواقف‏,‏ نتيجة ضغوط كبيرة عليه من جانب سلطة رسمية أو سلطة شعبية‏,‏ فلا يصح أن نسارع كما سارع البعض إلي القول‏:‏ انظروا إلي انتهازية طه حسين‏,‏ فقد تنازل من أجل مصالح شخصية خاصة‏,‏ وهذا لا يليق بأديب حر ومفكر كبير‏!!‏
    حقا‏,‏ لقد تنازل طه حسين أحيانا‏,‏ ولكنه في كل تنازل كان ينظر إلي المقابل‏,‏ فإن كان المقابل يستحق هذا التنازل رضي به طه حسين وأقدم عليه‏,‏ حتي لو كان في ذلك بعض التلويث ليديه‏,‏ وإن كان التنازل بلا مقابل رفضه وأعطي له ظهره‏.‏ والمقابل الذي كان يحرص عليه طه حسين هو مقابل عام‏,‏ وليس مقابلا شخصيا كما يتوهم أعداؤه‏.‏ وهذه نقطة فاصلة في أي حكم علي تنازلات طه حسين‏.‏
    خذ مثلا موقف طه حسين من الملك فاروق‏.‏ إنه نموذج حي للتنازل من أجل مقابل عام له قيمته وأهميته‏.‏ فالأستاذ أنور الجندي رحمة الله عليه‏,‏ وهو رجل فاضل وعالم مجتهد‏,‏ رغم اختلافنا معه واعتراضنا علي بعض أفكاره‏..‏ أقول‏:‏ إن أنور الجندي في كتابه عن طه حسين ـ حياته وفكره في ميزان الاسلام يشير إلي أن طه حسين قام بتقبيل يد الملك فاروق بعد تعيينه وزيرا للمعارف سنة‏1950,‏ ثم إن طه حسين خطب للملك فاروق ومدحه مدحا شديدا في مناسبات عديدة‏!!‏ وقد استدل أنور الجندي علي حكاية تقبيل طه حسين ليد الملك فاروق بما شهد به اثنان من الشهود في محكمة الثورة التي تم تشكيلها في‏15‏ سبتمبر سنة‏1953.‏ ولكن أنور الجندي لم يذكر اسم الشاهدين‏,‏ ولم أستطع أنا الوصول إلي الإسمين في حدود ما رجعت إليه من مصادر حول محكمة الثورة‏.‏
    ومن البداية فإن التهمة الملصقة بطه حسين لا يمكن أن يقبلها العقل‏,‏ فقد كان طه حسين عندما تولي وزارة المعارف في‏12‏ يناير سنة‏1950‏ في قمة شهرته ومكانته الأدبية والشعبية‏,‏ ولم يكن تعيينه في وزارة المعارف يزيد من قدره أو يرفع من شأنه‏,‏ بل العكس هو الصحيح‏,‏ أي أن طه حسين كان هو الذي يرفع شأن الوزارة ويعطيها قيمة فوق قيمتها العادية‏.‏
    ولقد سمع طه حسين في حياته مثل هذه الاتهامات التي تتصل بموقفه من الملك فاروق‏,‏ ولم يسكت طه حسين‏,‏ ولكنه دافع عن نفسه بقوة وصدق‏.‏ وفي مقال نشرته له مجلة روز اليوسف بتاريخ‏29‏ مارس‏1954‏ يقول طه حسين‏:‏
    أي من المصريين يجهل أني كنت وزيرا للمعارف في يوم من الأيام‏,‏ وأني خطبت أمام فاروق في مواقف لم يكن بد من أن أخطب فيها حين وضع الحجر الأساسي لجامعة الاسكندرية ومعهد الصحراء‏.‏ والناس جميعا يعلمون أن الوزراء ما كانوا ليخطبوا أمام فاروق فيعيبوه ويذموه ويدلوا علي ما كان يتورط فيه من طغيان وماكان يقترف من آثام‏,‏ وإنما جرت عادة الوزراء حين يتحدثون إلي الملوك أن يتحدثوا بشيء غير هذا‏.‏
    ثم يقول طه حسين بعد ذلك‏:‏ أنا لم أكسب لنفسي من فاروق مالا ولا جاها‏,‏ فقد كنت غنيا عن ماله وجاهه‏,‏ وإنما كسبت لمصر ما نفع أهلها في حياتهم الداخلية فأباح لهم التعليم ويسر لهم أموره‏,‏ وما نفع مصر في العالم الخارجي فأنشأ لها معهدا في مدريد‏,‏ وكرسيا لثقافة البحر المتوسط في نيس وكرسيا للغة العربية في جامعة أثينا‏.‏
    ثم يقول طه حسين مخاطبا رئيس تحرير روز اليوسف و‏,‏مخاطبا كل مواطن آخر‏:..‏ وإنك لتذكر أن أباه الملك فؤاد أخرجني من الجامعة سنة‏1932‏ وأراد أن يضطرني إلي الجوع فلم يفلح‏,‏ وأراد أن يضطرني إلي الصمت فلم يفلح أيضا‏.‏ وإنك لتذكر أن فاروقا أخرجني من وزارة المعارف حين أنزل حكومة الوفد عن السلطان سنة أربع وأربعين‏(1944),‏ وأراد أن يضطرني إلي الجوع والصمت فلم يبلغ إلي ما أراد شيئا‏,‏ لأن الله هو الذي يرزق الناس علي رغم الملوك والحكام‏,‏ ولأن الله هو الذي يمنح الناس من صدق العزم وقوة الإرادة ما يمكنهم من أن يثبتوا للخطوب ويخرجوا من الكوارث والنائبات مهما يبلغ بها التعقيد‏.‏ وهناك أشياء لا تعلمها أنت ولا يعلمها الناس‏,‏ وإنما يعرفها أفراد قليلون منهم من قضي نحبه ومنهم من لا يزال حيا أرجو له طول البقاء‏.‏ أنت لا تعلم أن فاروقا أرسل إلي الرسل بالمغريات سنة خمس وأربعين‏1945‏ فلم يجد إلي إغرائي سبيلا‏,‏ وإنما رددت رسله ردا رفيقا كريما فيه كثير من ارتفاع عن الصغائر‏,‏ ولو شئت لبلغت من فاروق وسلطانه وماله وجاهه ما أردت‏,‏ ولكني لم أرد‏,‏ لأني رأيت الكرامة والوفاء والصدق في خدمة الوطن أغلي من المال والجاه والسلطان‏.‏
    ثم يتحدث طه حسين عن حكاية تقبيل يد الملك فاروق فيقول‏:‏ والشيء بالشيء يذكر‏,‏ فقد شهد شاهدان أمام محكمة الثورة بأني قمت مع غيري من الوزراء بتقبيل يد فاروق‏,‏ والله يشهد ما قبلت يد فاروق ولا بد أبيه ولا يد عمه السلطان حسين ولايد ابن عمه عباس حلمي الثاني حين كان أميرا لمصر‏,‏ ولابد ملك من الملوك الذين لقيتهم قط‏,‏ والله يشهد أنني ما قمت بتقبيل يد أحد من الناس إلا أن تكون يد أبوي أو يد بعض شيوخنا في الأزهر رحمهم الله‏,‏ لا أستثني يد سيدة أجنبية كانت ترفع يدها إذا لقيتني في بعض المحافل فتلصقها بشفتي إلصاقا‏..‏ واضحك من ذلك إن شئت‏,‏ وأعبث به إن أحببت‏,‏ فليس عليك في الضحك والعبث جناح‏.‏
    هذا بعض ما قاله طه حسين في الدفاع عن نفسه‏.‏ فهل لديك مانع من تصديقه والثقة بأن ما يقوله هو الحقيقة؟‏..‏ أنا شخصيا أصدق طه حسين‏,‏ وأري أنه كان في أدبه وحياته كلها من الكبار‏,‏ وكان من أصحاب الكرامة والكبرياء‏,‏ وهؤلاء لا يكذبون‏,‏ ولايتقبلون الكذب من أحد‏.‏
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
    *الأهرام ـ في 1/5/2005م.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. أنيس النقاش
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11/01/2014, 10:43 PM
  2. رجال واقفون
    بواسطة وردة قاسمي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 17/05/2010, 11:36 AM
  3. تأملات في الإنسان - من أعمال رجاء النقاش
    بواسطة وليد زين العابدين في المنتدى فسيفساء المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 24/07/2009, 10:58 AM
  4. وفاة الناقد المصري رجاء النقاش
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09/02/2008, 09:19 PM
  5. رجال واشباه رجال
    بواسطة وائل في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 01/01/2008, 03:31 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •