قصة / الدرس .. التاريخ

بقلم / بنور عائشة ـ عائشة بنت المعمورة .


السماء زرقاء كعيون البحر والجو دافئ كحضن الأمهات والجبال تتعالى في شموخ وكبرياء الشهداء.. تداعبها تلك النسمات الحميمية عبر نوم عميق لمباني قديمة يسكنها أناس ترعرعوا بين دروبها الوعرة ومسالكها الشائكـة... وجوه مجعدة بطلاسم مستوحاة من تلك التربة الزكية والأرض الخصبة..
كانت "وردة" وردة في حقل أبيها.. تزين ضفائرها الطويلة بأزهار الأقحـوان وتتعطـر بأريج الحياة كل صباح بابتسامة تسرقها عنوة من قساوة الطبيعة، وقبلة على جبين أمها تحي فيها الصبر والتقـدم بخطى ثابتة نحو المستقبل، وعيون إخوة صغـار تشع بالحلـم والحب.. تتهامس وتضحك على أرجوحة مصنوعة من خيوط الحلفاء الخضراء.. تروح وتجيء.. تعلو وتنخفض.. تتمايل كعروس ليلـة فرحتهـا الكبرى..

كانـت "وردة" لا تتوانـى في دراسة التاريـخ.. فالتاريخ والأرض روح تتنفس بهما، وحياة تأمل أن لا تعيشها في ظل الاستعمار..

سمعـت كثيرا عن الحرب.. ونبذتها حد الجنون.. سمـعت عن الطائرات وهي تقصف بشدة.. عن موت الأطفال وتجويعهم وتشريدهم وقتلهم دون رحمة أو شفقة.. عن النساء واغتصابهـن والرجال وتعذيبهم.. عن الأرض وحرقها.. عن الخيرات ونهبها.. عن.. عن..

كان التاريخ بالنسبة لها مرآة ترى من خلاله حياتها ومستقبلها.. تحب قراءة التاريخ والبحث والولوج عبر نافذتـه إلى أمم وحضارات اندثرت.. تفاصيل تهوى معرفتـها.. عن أثار مازالت تتربع على ذاكرة يصعب نسيانها.. التاريخ روح يسكنها فكانت تهوى مادة التاريخ والتقليد...

كانـت تلبس المئزر الأبيـض وتضع النظـارة على عينيها الجميلتين.. تحمل الكتـاب باليمنى والمسطرة باليسـرى.. تقلـد أستـاذها في طريقة إلقائه وضربه على المنضـدة.. اخوتها يبكون من شدة الضحك ويشدون على بطونهم مما تفعل "وردة" بهم.

فيهتف أحدهم قائلا:

ـ أنت بارعة في تدريس التاريخ يا وردة.

ـ يكفي هذا.. يكفي.. لقد تعبت من الضحك! يقول فؤاد.

في مسـاء يوم جميـل وفي لحظـة من الخيبـة كتمت أنفاسها وراحت تقف أمام المرآة لتمشط شعرها البني الطويل.. مزهـوة بفستانها الوردي.. تحلم بفارس يسرق أحلامها فتسكن إليه آمنة مستبشـرة.. أن تكون كالأميرة "سندريلا" تحملهـا العربـة المسحورة إلى القصر الملكي.. ترقص رقصة الأميرات والسيـدات الجميلات.. تأكـل من الحلويات المزينة بخيوط الشكولاطة وحبات الفراولة الحمراء... يبحث عنها في الحديقة المملوءة بالأزهـار الحمراء والبيضاء.. أن تكون أميرة الأمير الذي تتنافس عليه الفتيـات.. هكذا قالت الأسطورة وصدقتهـا وردة في لحظة غفوة.

أن تكون "وردة" في قصـره... وما فاقت من حلمها الجميـل إلا على صوت أمها ينادي:

ـ وردة.. وردة.. أين أنت؟

ردت مذعورة:

ـ أنا هنا في غرفتي.

أسرعت "وردة" الخطى باتجاه أمها لتعرف سبب مناداتها ومازال المشط بيدها تسرح به شعرها الطويل قائلة:

ـ ما خطبك يا أماه..؟!

تقدمت الأم نحوها وطبعت قبلة حارة على جبينها وهي تردد:

ـ الحمد لله قد كبرت وصرت امرأة.. الخميس القادم ستكونين عروسا جميلة لابن جارنا الدكتور سليمان.

تجمدت "وردة " في مكانها ولم تحمر وجنتاها من الفرحة خجلا، ولم يخفق قلبهـا طرباً وسقط المشط على الأرض كسقوط فارس أحلامها ووقفت العربة المسحورة عند عتبة بابها وتوقفت عن تسريحـة شعرها البني كالأميرات، وانتهى الدرس في مادة التاريخ عندما ضرب الأستاذ بالمسطرة على الطاولة لتنهض وردة مفزوعة من نومها تردد:

ـ لا أريد الزواج.. لا أريد الزواج..