اللبنة الركن



قرأت كتاب "القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته" لفضيلة الأستاذ الدكتور فضل حسن عباس، الذي ينفي فيه دعوى التكرار في القصص القرآني، وقد رتب القصص القرآني حسب الأقدمية ثم زمن النزول لكل مقطع من القصة وقد بدأ بقصة آدم أبي البشرية ثم نوح فهود فصالح فإبراهيم فلوط فشعيب فموسى فيونس فداود وسليمان فأيوب فيحيى وزكريا ومريم – عليهم جميعا السلام –
ثم يعقب على كل قصة ويذكر اللبنة التي وضعها كل نبي في بناء دار الهدى والرشاد.
وقد ختم كتابه بالقصص الذي لم يذكر إلا مرة واحدة كقصة إلياس وسيدنا يوسف عليهما السلام.
ثم ذكر نماذج من القصص القصيرة كقصة طالوت وقارون وأصحاب الجنة.
ثم يختم بدحض الشبهات حول القصة القرآنية مثل:
أولاً: القائلون بالخيال، صاحب الفن القصصي – محمد أحمد خلف الله -.
ثانياً: القائلون بالتأويل، - الشيخ محمد عبده -.
ثالثاً: المفتونون بالنظريات – د. مصطفى محمود -.
وقد اقتطفت من الكتاب هذه اللبنات التي بنى بها الأنبياء الدار العظيمة المحكمة والتي ختمها سيد المرسلين محمد بوضع اللبنة الأخيرة التي لا لبنة بعدها في الدار التي لا دار سواها {.. إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ .. } {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)} آل عمران

كل نبي من الأنبياء جاء ليضع لبنة في البناء الشامخ الذي أراد الله أن يكون موئل الإنسانية جمعاء {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} البقرة
{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35)} الأعراف
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)} طه
فكل نبي وضع لبنة في هذا المعمار الذي سماه رسولنا الكريم دارا، والدار هي مكان التجمع والتآلف والاستقرار.
فلنرَ ما هي لبنة أو لبنات أو دور كل نبي في هذا الصرح المجيد الذي ارتضاه الله موئلا للبشرية "لبني آدم"

"آدم"

ها هو آدم عليه السلام يضع اللبنة الأولى : التي"جاءت تقرر الركيزة الأولى في حياة الإنسانية ، وهي العقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد الذي لا تشوبه شائبة الشرك وقضية التدين التي يحاول بعض الناس أن ينازع في نظرتها وكونها من الأصول الأولى التي زُوِّد بها هذا الإنسان " .

"نوح"

ثم يأتي نوح ليضع اللبنة الثانية التي جاءت تركز عليها قصته – عليه السلام – في بناء الإنسانية المحكم الذي أراد الله للأنبياء - عليهم السلام - أن يكونوا بناته ومشيديه. "هي أن هذه العقيدة ينبغي أن تكون الأساس الذي يتفاضل به الناس، وهي بعد الأمر الذي يجب أن يقرب أو يباعد فيما بينهم، وما سوى ذلك من روابط وصلات ووشائج فليس حريا أن يكون له وزن أو أن يكون له اعتباره إذا كان يتعارض مع هذا الأساس، وإذا لم تحكم العقيدة جوانبه وتسلط عليه أنوارها، وتلك قضية جدير أن يحسب لها حسابها، لذلك نجد نوحا عليه السلام يستغفر ربه من هذه الرواسب التي وجدها في نفسه من غير قصد، والتي جلبتها ودفعت إليها العواطف، عواطف الأبوة والرحمة.

"هود"

أما اللبنة الثالثة الجديدة التي أضافها هود عليه السلام فكانت لبنة مهمة وقد تقدمت الإنسانية زمنا - بعد نوح - هذه اللبنة الثالثة هي عدم الركون إلى القوة المادية والتعويل عليها وحدها والاغترار بها حتى لا تدفع صاحبها إلى الاستبداد والتجبر.

"صالح"

ثم يأتي صالح عليه السلام ليُحكم لبنة صالحة جديدة في البناء المحكم إلى اللبنات السابقة، هذه اللبنة كانت تحذير الإنسانية من مغبة البطر، ونتيجة الترف، وعدم شكران النعمة، وهذه تختلف عن الشعور بالقوة التي كانت تتصف بها عاد من قبل.

"إبراهيم"

وإذا كانت سيرة إبراهيم متعددة الجوانب، فلقد كانت اللبنة التي وضعها كذلك، فالأنبياء قبله كانوا يهدَّدون من قبل أقوامهم، ولكن إبراهيم عليه السلام لم تكن قضيته قضية تهديد وإبعاد، لكنهم نفذوا ما يستطيعونه فألقَـوه في النار، فكانت بردا وسلاما، هذا جانب من تلك اللبنة التي وضعها إبراهيم عليه السلام، مضافا إلى الجوانب المهمة الجديدة في حياة الإنسانية، إنها نعمة الرشد التي لا بد أن ترقى الإنسانية إليه وتعول في تعاملها عليه؛ إنها النعيم العقلي ولذة الروح، ثم ماذا؟ انه رقي الإنسان لينعم بالحجة الدامغة، وأمام هذا الرشد وذاك اليقين وتلك اللذات العقلية والروحية أمام ذلك كله يتهاوى كل صرح من صروح المادية البغيضة.
فصلة الدم تتلاشى عند إبراهيم، وهو يتبرأ من أبيه، ويريد أن يذبح ابنه، أما الركون إلى القوة والاغترار بالأمن والترف، فهما يتبددان كذلك.
وها هو إبراهيم عليه السلام لا ينظر إلى أمجاد قومه ويبنون له بنيانا ليلقوه في الجحيم، وتكون الصفعة لأولئك الذين يغترون بالقوة والأمن، ويريدون به كيدا فيكونون الأسفلين والأخسرين ، إبراهيم في بناء الإنسانية المحكم كانت أوسع مساحة، وأعظم أثرا، وأكثر تلاؤما مع تقدم الإنسان.
والحق أنها كانت بداية لعصر جديد وطور جديد، يؤهل الإنسانية لتصل إلى ما وصلت إليه فيما بعد.
إنها جوانب يشرق بها الإيمان في نفوس المؤمنين من جهة، تتسع دائرة تفكيرهم من جهة، ويكونون أصلب في مقاومة الباطل والشر من جهة ثالثة.

"لوط"

وإذا كان من لبنة يضيفها لوط للبناء الإنساني المحكم... فإنها تتلخص في درس قاس بالفعل، ولكنه درس نافع مفيد يمكن أن يكون تسلية وعزاء لأولئك الذين شاء الله لهم أن يحاولوا الإصلاح في أرض خبثت فلا تخرج إلا نكدا }وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ{ وما أشده من درس أن لا يجد المصلح قلوبا صاغية! وآذانا واعية! رغم مرور الزمن وتحمل المحن:

على المرء أن يسعى إلى الخير جهده = وليس عليه أن تتم المطالب

"شعيب"

ولبنة شعيب التي أضافها للبناء المحكم فإنها تتمثل في هذا الصبر والثبات، كما تتمثل في قضية أخرى، وهي قضية مهمة، تلكم هي محاربة هذا الجشع الذي يسيطر على النفوس لتستولي على الأموال بأي طريقة من غير تفريق بين الحق والباطل، وما يحل وما يحرم، وقضية ثالثة، وهي عدم الاكتراث بهذه النظرة الاجتماعية التي ينظرها أهل الباطل لأهل الحق، وقوم شعيب كانوا يرونه فيهم ضعيفا لا يستحق أن يعزوه ويجلوه، ولكنه – عليه السلام - صبر وصابر، وثبت على أمر ربه إلى أن أخذتهم الصيحة، وذلك جزاء المعرضين المكذبين.

"موسى"

ولقد كانت اللبنة التي وضعها موسى عليه السلام في بناء الإنسانية ذات مكان ومكانة، لقد جاء ليخرج الناس من ظلمة التبعية وبؤرة الاستضعاف وأتون العبودية... جاء ليخلص من هذا المنحدر الذي لا يتنسم فيه عليلا وإن وجد فهو هواء فاسد... جاء موسى عليه السلام ليضع في بناء الإنسانية المحكم هذه اللبنة {..عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} {.. إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} كما أنه جاء يضع للناس لبنة يفرقون بها بين الحق والباطل، وكثير ما تسحر الناس أعمال وأقوال ذات مظاهر خلابة وأشكال جذابة ولكنها ليست في حقيقتها إلا خداعة كذابة وما نبأ السحر ببعيد...
ومن مظاهر اللبنة التي وضعها موسى عليه السلام مظهر العلم الذي تشجم المشاق في طلبه وهو الرسول الكليم والنبي الكريم... هكذا إذن كانت اللبنة التي وضعها موسى في بناء الإنسانية المحكم تجمع بين العلم والعمل ومحاربة الضعف وإخلاص العقيدة.

"يونس"

أما اللبنة التي خص الله بها يونس في بناء الإنسانية المحكم، فإنما هو هذا الإعداد الذي ينبغي أن يكون لذوي النفوس الكبيرة حتى تقدر على التحمل وتصبر على الأذى، وهو نوع من الجهاد العظيم.

"داوود وسليمان"

فقد أسهما بنصيب وافر في البناء الإنساني المحكم، فغاية النعمة تستلزم غاية العبودية... وهكذا، كلما عظمت نعم الله تبارك وتعالى خلصت عبوديته لله تعالى.
وكلما شكر العبد ربه، وافتقر بعبوديته لله، أكرمه الله بنعمه وأحاطه بفضله ومننه...

"أيوب"

أما اللبنة التي وضعها أيوب – عليه السلام - فكانت لبنة الصبر... والصبر والشكر أساسان لا بد منهما في هذا البناء الإنساني... ولهذا ذكر هؤلاء الثلاثة معا في قوله سبحانه {.. وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ..}
نسأل الله أن يمن علينا بالشكر والصبر.

"يحيى وزكريا ومريم عليهم السلام"

وما أعظم اللبنة التي وضعها هؤلاء، إنها الانطلاق من مجال المادة الضيق، ومن أرجائها المظلمة، ومن آفاقها العتماء إلى ما هو أوسع وأرحب مما تبدعه يد القدرة.

"يوسف"

ما أجمل الصبر في موضعه، والشكر في موضعه {.. ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}

تلكم اللبنات لهذا البناء ومع دقتها وإحكامها، إلا أن هذا البناء لا زالت تنقصه لبنة تكمل بنيانه وتتم أركانه... وتلك اللبنة التي لا يتم البناء إلا بها كانت وشاء الله لها أن تكون بالنبي الخاتم سيدنا محمد ... وهذا هو الحديث الشريف:
"مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة. فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللبنة ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء"
الراوي : جابر بن عبد الله - صحيح مسلم .".