[align=center:add536c550]



لماذا هنـــــا ؟



لم يكن الجو هادئا كما بدا في الأيام السابقة ، إذ لم تخل من غارة أو اثنتين وحملات تفتيش تسفر عادة عن قتلى ومصابين ....

جلست في الشرفة أتأمل المدينة المتدثرة بالأسى النائمة في أحضان الخوف والألم ... ولعلي أخطئ إن وصفتها بالنائمة فأين النوم من الخائف المتألم ...

هذي النوافذ قد غلقت على دموع لا تجف .. ودماء سيالة ... قد تغرق وقد تروي ... لكن ريها يثمر نبتة لا يعلم إلا الله طعم ثمارها ...

أذكر لما جئت هذه المدينة أول مرة ... كنت قد أنهيت دراستي الجامعية وأصر أبي أن نرى مدينته التي نشأ فيها ... أقول مدينته لأني لم أرها إلا كذلك .... لم أكن أعرف لماذا يحبون هذه الأرض كل هذا الحب .... لماذا كان مدرسونا يحرصون على أن يذكروها في الحين والحين .... هي الوطن وهي الأمل وهي الذات وهي الهوية ..... سمعنا في وصفها الكثير .... ولا أدري أين يكمن فرقها عما سواها من البلاد .. أليست كل البلاد متشابهة ... لماذا إذا نموت من أجل الوطن .... لماذا ... أيبلغ حبنا للتراب أن نسرع إليه لنجاوره الجوار الأبدي الصامت ...

كنت أنظر إلى المجندات الإسرائيليات ... وأقول : ما الذي يمنعني أن أحب هذه الحسناء أو تلك ... كنت أتبعهن بعنيني إذا غدون وأراقبهن إذا رحن علي أعلم من أين يأتين أو أين يذهبن .....

وأسأل ذات السؤال : لماذا هنا ...؟ أضقن بالحياة حتى أتين يرقن هذا الجمال .... ولا عمر للجمال هنا .... هنا كل شيء يموت .... حتى الجماد ....

وكنت أنظر للأطفال يحملون حقائبهم ... تمضي بهم الطرقات صامتون إلى مدارسهم .... وأحاول ان أتخيل أي شيء يدور في أذهانهم الصغيرة .... أترى هذا الطفل بم بفكر ... لعله ينظر إلى حجب الأيام ويرى أباه وقد حمل له (( قاربا )) صغيرا يبحر به في أحلامه .. أم (( مكعبات )) يجعلها أحجارا لمستقبله ... يبني منها البيت والقصر والمدرسة والمسجد .... أم لعله كتاب .... أو هو ناي أو عود ....

وهذه بم تحلم ... أبرداء أزرق لامع يجعها في الحسن ملكة .. أم بسوار يحيط هذه اليد كما تحيط النجوم القمر ... أم دمية تكون لها أما ... أم .. أم ....

كل هذا يصح لأطفال العالم إلا هنا ...

كل هذا يجوز في كل مكان إلا هنا ...

إذ من يضمن لهذا الطفل أن يعود أو يعود فيجد أباه أو أن تبقى له اليد التي يكتب بها أو يعزف ...

وأنى لهذه المكلومة في أب أو أم أو أخ أن يبقى في قلبها مكان لثوب أو سوار ....

هنا لا أسأل أحدا لم يبكي ... إذ الجواب مكتوب على كل جدار ... يحكيه الهواء بزفراته ... والماء بغصاته ...

ويحكيه هذا الأب الذي بكى على قبر ولده فقال :

كان ودي يبقى كبير
ويكون بطل تحرير
ويفضل اسمو في السما
دا حلم عمره سنين

شفته شمس فوق الغمام
عالم ينور للأنام
راكب حصان محجلة
بيمينه مصحف مع حسام

لكن قدرنا كلنا ...مكتوب ع لجبين
[/align:add536c550]