التحليل النفسي والأدب
(4)
: أسعد فخري

وبالرغم من أن منهج التحليل النفسي الوليد على يدي ( فرويد ) قد أعطى فرصة كبيرة للخروج من قوقعة العلم الذي نشأ أصلاً في حقل الأمراض الذهانية / Psychosis / والممارسة السريرية وكذلك التأثير البالغ الذي أحدثته الإنزياحات الكبرى عن المسار البدئي في ( كراديفيا ) قد أوقع انقلاباً هاماً في المشهد النقدي للأدب والفن واتجاهاته /Approaches / العالمية .
لقد كانت أولى المشاهد المثيرة واللافتة في السياق النقدي في أوربا وأمريكا أن إصدارات كثيرة كرست إنحراف مسارالفرويدية بعد ( كراديفيا ) ومن أهمها صدور كتاب فرويد نفسه(التحليل النفــــسي للفن )(27). الذي ناجز فيه انحرافه عن المسار الذي وضع أسسه هو بتحليل شخصيّتي ( ليوناردو دافينشي وديستوفوسكي ) متتبعاً سيرتيهما الذاتيةعبر تنقيب لافت أحدث خلخلة تجلت في الإفتتان السهل لمجاراة إنقلابيته ، حيث صدرت من بعده مؤلفات عديدة من أهمها :
( شارل مورون ـ التحليل النفسي لمالارميه وماري بونابرت عن ادغار آلن بو وكذلك فشل بودلير, للافورغ وتنظيرات سارة كوفمان عن طفولة الفن ثم شباب أندريه جيد لجان دولاي ، وهولدرلين ومسألة الأب لجان لابلانش)(28).
وكذلك الكثير من المؤلفات التي عنيت بتأكيد هذا الشأن الذي شكّل في ماهيته التحليلية الاتجاه المختلف أو المرحلة التي تم فيها تراجع ( المعلم الأول فرويد ) عن الأسس التي وضعها في ( كراديفيا ) فقد آثرت تلك المؤلفات الــــسابقة على تأكيد وضع اليد على البواعث اللاواعية لعملية الإبداع وتمتين الرا بط المقد س أيضاً بين فعل الإبداع ولاوعي المؤلف .
واللافت هنا أن فرويد وقبل أن يصدر كتابه ( التحليل النفسي للفن ). كان قد كتب مقالاً في مجلة ( ايماغو Imago ) الصادرة في فيينا والتي أسسها ( أتورانك ) وكان بعنوان (الخارق للطبيعة) (29) عام 1919 والذي أ بدا من خلاله كثيراً من الاستسهال في إ خضاع أي مشكل جمالي للتحليل النفسي معتدّاً بمقولته الشهيرة ( على التحليل النفسي أن يلقي بأسلحته أمام مشكلة الفنان الخالق )(30) واضعاً من خلال ذلك أ ســــساً لحدود الاشتغال على الأدب والفن محكماً إغلاق بوابة النفوذ إلى الغامــض
/ Ambiguity / في ما وراء النص ومؤكداً في الآن ذاته على أن سيرة النص او العمل الفني هي بالضرورة سيرة الفنان المكتسبة والذاكرية / Memory / .
تلك هي أهم المفاصل الأساسية لبواعث اللاوعي التي وضع أسسها ( فرويد ) والتي كانت المُشكّل والدافع / Motive / الحقيقي لتنظيرات تلميذه المهم ( كارل يونع )(***) من بعده .

مما لا شك فيه أن مشكلة الفنان الخالق / Textuality / تعد من المسائل الغامضة ، وأن التحليل النفسي وتطبيق مفهوماته على الأدب والفن إنما هي نضال مرير يدار ضد كشف الأقنعة التي تحجب المعنى الخفي والمتعدد / Pluralistic / ( للاوعي الجمعي )(31) / Collectiveunconscious / كقاع أوالي يحتوي على تاريخ الكبت / Repression / الإنساني ( ولأن ليس للمكبوت تاريخ ( اللاشعور خارج الزمن ) ؛ فإن الكبت هو الذي له تاريخ ، إنه تاريخ : تاريخ الإنسان من الطفولة إلى الرشد وتاريخ من . . . ما قبل التاريخ إلى التاريخ ؛ فإلى إنزياح مجموعة المباحث يضاف أيضاً إنزياح طرائقي : ينبغي الآن للتفسير أن يـمر بتكوين أنماط من نوع جديد ، الأنماط التكوينية ومآ لها التنسيق
بين تطورين، تطور الفرد وتطور النوع في كنف تاريخ أسا سي وحيد يمكننا أن نسميه تاريخ الرغبة والسلطة )(32), بالمعنى الحقيقي لتاريخ البشرية تاريخ النوع الذي يحمل في ( خافيته ) سلالات المخيال المغرق في القدم.
من هنا نلمس الأبعاد الجديدة التي سعى نحوها ( كارل يونغ )( المتمرد الأول على الأسس التي وضعها ( فرويد ) في التحليل النفسي للفن بعد ( غراديفيا ) لقد استطاع ( يونغ ) بحكمته وتأمله المتفكر أن يعيد النظر ( بباعثة اللاوعي ) الفرويدية ويصوغ تصحيحه الذي اشتهر به وكان نقطة خلاف كبرى مع معلمه ألا وهو ( اللاشعور الجمعي ) أو الخافية التي أعادت الاعتبار لمكانة الفن والسلوك الإنساني .
لذا فإننا ننظر إلى الخافية كمعيار / Norms / حســب الإصلاح اليونغي , علــى أنها اللازمة
/ Leitmotive / كالظلال لسلوك النوع ومفازة فردانيته الخاصةوكذلك هي التداول المرتقب لسلطة الرغبة وحرية الانتماء إلى الواحد المتعدد في سلالم التعبير عن مرغوب /Desire /آثر أن يبني مجده الغامض طويلاً في أعشاش ( الخافية ) إمتهمت بدورها الارثي تذكر الكلي المنسي عبر تجليات المخيال / Phantasy / البارع في الدهشة والإدهاش والغامض العصي لالية الخلق المبدع وسلالات تذكره .
وبذلك يكون ( يونغ ) قد أحدث الوقفة الهامة لخلخلة الثوابت الكلاسيكية ( للاشعور ) /unconscious / وأشاع تفكراً مختلفاً عن الفرويدية بما يخص مرجعية الإبداع الفني إذ أعاده عبر الخافية إلى نوعه الجمعي المتخيل واشراقته المتشوفة لنسيانها السري من قبل اكتسابها ومن بعده .
لكن دعونا نتسائل ما الخافية . . / Unconscious the/ :
حسب يونغ : ( تنطوي على إ رث يمدنا بمعرفة لا حدود لها حين تصير في الواعية )(33).
فهي الطريق الذي يؤدي إلى المملكة الجليلة مملكة الميراث الهائل والتي ( تحوي جميع أنماط الحياة والسلوك الموروثة عن الأسلاف ، حتى أن كل طفل بشري وهو في مرحلة ما قبل الوعي مجهز بنظام كامن / موجود بالقوة / من الوظائف النفسية المتكيفة )(34).
وعلى حد تعبير ( يونغ ) فإن الكامن / Potential / والموجود بالقوة ما هو إلا السلوك أو التعبير غير المكتسب والذي يعد أحد أهم الوظائف النفسية الموروثة بالطبيعة البشرية لذا فإن ( من أفداح الأخطاء أن ننظر إلى الخافية على أنها ناشئة من الواعية )(35).
أماالأنماط الأولية / Mechanism / لحضورها كجهاز نفسي / Appareille,psychigue / موروث فلـها خصوصيها التي ( تد رك وتقصد وتحدس وتشعر وتفكر تماماً مثلما يدرك العقل الواعي )(36).
وذلك يعود لمائزتها وخصوصيتها / Singularism / عن مختلف المفاعيل النفسية فهي ( ليست مركزة ولا مكثفة بل يطويها الظلام وهي واسعة جداً وتستطيع أن تجمع مخزوناً هائلاً من عوامل الوراثة المتراكمة التي خلفها الجيل إلى الجيل الذي يليه )(37).
وهي في هذا الإطار تخالف الواعية / Consiousness / إلى حد التباين في المائزة فــهي أي الواعية ( مكثفة ومركز لكنها زائلة وهي تتوجه نحو الحاضر المباشر والميادين المباشرة للانتباه )(38) .
وبذا تصبح أنماط الخافية أنماطاً ( جينية ) / Gen / لها تواتر طباع السلالات البشرية فهي تولد مع الإنسان وتحمل موروث خبرته الجمعية القابلة لمركمة المزيد وقت تعاملها مع الخبرة الفردية المباشرة التي لا تتجاوز حياتها بضعة عقود من السنوات .
ولكي نحدد بشكل أكثر دقة وموضوعية ماهية / Eidetic / الخافية وأبعادها ضمن الأجندة التحليلية للجهاز النفسي(أمكننا القول أنها كائن بشري كلي يضم خصائص كلا الجنسين ، فوق الشباب والشيخوخة وفوق الولادة والموت وتحت إمرته خبرة بشرية عمرها مليون أو مليونان من السنين لذلك هو كائن شبه خالد )(39).
من هنا نلمس مفارقة الميراث الأزلي لميكانيزم الخافية أو اللاشعور الجمعي لنتعرف أكثر على طبائعها وسعة خصائصها كحمالة لفطنة الخلق / Creation / والتخليق ، ولأن ( الموجود الإنساني يحوز على كثير من الأشياء التي يكتسبها أبداً بنفسه ولكنه ورثها عن جدوده القدماء . إنه لا يولد لوحة بيضاء ولكنه يولد في حالة من اللاشعور فقط ويحمل الإنسان عند ولادته مخطط وجوده مخططه الأساسي لا مخطط طبيعته الفردية فحسب ، بل مخطط طبيعته الجمعية أيضاً )(40) .
لذا لا بد من النظر إلى ( الخافية ) على أنها المرجعية الأوالية لسيرة النص الأدبي وإلهامات تكوينه / Genetic / فهي في ماهيتها تشكل جينته وتلاوين فوضى مدركاته وصيرورة مفاعيل تعدديته وتأويله .
من هنا نستطيع القول أن ( الخافية أو اللاشعور الجمعي ) صندوق البدء للانهاية , واللابداية أنه نقطة العماء الأوالية ومرجعية التكوينات المفرقة في القدم لللغة المنسية ( والموجودة بالقوة )(41) حسب تعبير كارل يونغ لذا فهي أصل العملية الإبداعية برمتها وما المؤلف إلا وسيط / Median / نبيل ينهل من قاعها مستخدماً نظاماً معقداً من الأقنعة الرمزية ولأنها أيضاً ( بقايا حالات عقلية تاريخية ، ما علينا إلا أن نرجع القهقرى إلى بضع مئات مـن السـنين لكي نبلغ ذلك المستوىمن الواعية الذي يوازي محتويات الخافية )(42).
لا شك أن البحث عن أسس موضوعية لاعتبار ( الخافية ) مرجعية أوالية للعملية الابداعية يستدعي كثيراً من التأمل / Speculation / ولأن الفنان مخلوق عصي عن الإدراك والكشف فهو غامض بقدر غموض أدواته وتأويل لغته وخيالاته الفطرية / Nativism / ولأن ( الفن نوع من السائق الفطري يستولي على الكائن البشري ويجعله أداة مسخّرة له ـ ليس الفنان شخصاً يمتلك إرادة حرة يسعى نحو أهدافه الخاصة ، وإنما هو شخص يتيح للفن أن يحقق أغراضه من خلاله قد يكون للفنان بما هو كائن بشري أمزجته وارادته وغاياته الشخصية لكن بما هو فنان ، هو إنسان بمعنى أعلى ، هو ( إنسان كلي ) إنسان يحمل الخافية = اللاشعور الجمعي ، ويمنحها الشكل أي الحياة النفسية للنوع البشري )(43).
واللافت في إشكالية المرجعية الخافوية أن أغلب التصورات / Conceptualism/ المعرفية أخذت بها واستندت إليها استناداً واضحاً ، فالكثير من المناهج النقدية المعاصرة والحداثوية قد اتكأت بشكل مباشر وغير مباشر على مفهومة الخافية كصيرورة تفكرية ومن أقرب الأمثلة الحارة والأكثر جدلاً مقولة ( فوكو ):
( ما هو المؤلف ) التي أثارت عاصفة من الجدال والاجتهاد لدرجة تطور الأمر في الحوارات الساخنة إلى اعتبارها سخرية من ( الأنا ) / Ego / والتي تعتبر مشكّل أساسي للوعي بماهية الاكتساب وفق سياق النمو الإدراكي للعمليتين العقلية والنفسية عند الإنسان .
وبالرغم من أن مقولة ( فــوكو ) الشهيرة ( ما هو المؤلف ) أو استطراداتها الأخرى بنيوياً بــ ( موت المؤلف ) كانت كأّس وملفوظية / Enonciation / متداولة بأشكالها وتفكراتها الخام حتى مـن قبل ( فوكو ودريدا أوبارت ) عبر اشاريات نيتشه ومالارميه ( من هو المتكلم )(44), تاركين حيرة البحث عن الإجابة لعالم النفس الشهير ( لاكان ) ليجيب بعد مضي عدة عقود من الزمن قائلاً :
( إن الذي يتكلم هو اللغة )(45)، جاعلاً من تلك الإجابة بوابة كبيرة تتدفق منها كثيراً من الأسئلة الهامة والإشكالية / Heros / في الآن ذاته فقد ذهب ( رولان بارت ) إلى اعتبار اللغة لساناً خفياً لسيرة الخافية عبر الوسيط النبيل وهو المؤلف قائلاً : ( إن اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف ، أن تكتب
هو أن تصل إلى تلك النقطة حيث اللغة هي التي تفعل وتؤدي وليس أنا ( ضمير المتكلم ) ولا تتحقق مثل هذه المقولة إلا من خلال متطلب مسبق هو اللاشخصية )(46).


يتبع القسم الخامس ...
( الهوامش والمراجع )
(27) ـ التحليل النفسي للفن ـ فرويد ـ دار الطليعة ـ ط2 ـ ترجمه سمر كرم .
(28) ـ النقد في القرن العشرين ـ مرجع سابق ـ ص221 .
(29) ـ النظرية الأدبية الحديثة ـ آن جفرسون وديفيد روبي ـ ترجمه سمير مسعود ـ وزارة
الثقافة السورية ـ ط 1992 ـ ص209 .
(30) ـ التحليل النفسي للفن ـ مرجع سابق ـ ص94 .
(31) اللاوعي الجمعي ـ اصلاح أوجده كارل يونغ ويساوي الخافية أو اللاشعور الذاتي عند فرويد.
(32) ـ بول ريكور ـ في التفسير محاولة في فرويد ـ ترجمة وجيه أسعد ـ ط1 ـ دار أطلس ـ
ص154 .
(33) ـ علم النفس التحليلي ـ ط1 ـ دار الحوار ـ سوريا ـ 1982 ـ كارل يونغ ـ ترجمة
نهاد خياطة ـ ص226 .
(34) ـ المصدرالسا بق ـ ص226 .
(35) ـ المصدرالسا بق ـ ص228 .
(36) ـ المصدر السابق ـ ص227 .
(37) ـ المصدرالسابق ـ ص227 .
(38) ـالمصدر السابق ـ ص227 .
(39) ـ المصدرالسابق ـ ص227 .
(40) ـ ايلي هوبرت ـ كارل غوستاف يونغر / ترجمة وجيه أسعد ـ وزارة الثقافة السورية ـ
ط1 ـ 1991 ـ ص139
(41) ـ علم النفس التحليلي ـ يونغ ـ ص226 .
(42) ـ الدين في ضوء علم النفس ـ كارل يونغ ـ ترجمة نهاد خياطة ـ دار الحوار ـ
سوريا 1988 ـ ط2 ـ ص68 .
(43) ـ علم النفس التحليلي ـ كارل يونغ ـ ص ( 209+210 ) .
(44) ـ دليل الناقد الأدبي ـ د. ميجان الرويلي ـ د. سعد البازعي ـ المركز الثقافي العربي ـ
المغرب ـ ط2 ـ 2000 ـ ص ( 153+154 ) .
(45) ـ دليل الناقد الأدبي ـ مرجع سابق ـ ص153 .
(46) ـ دليل الناقد الأدبي ـ مرجع سابق ـ ص154 .

(***) ـ كارل كوستا ف يونغ : 1875 ـ 1961
ولد في سويسرا, تخرج طبيباً في مدينة بازل , بدأ حياته العلمية طبيباً مسا عد في مشفى
الأمراض العقلية حتى عام 1909 ـ عمل تحت اشراف (بلوير) التقى بفرويد وأثمر اللقاء عن
صدا قة دامت لعدة سنوات انتهت بصدام خلا في مما دفع يونغ للاستقلا عنه حيث أسس منهجه
الخا ص وبما يعرف اليوم بـ ( علم النفس التحليلي ) مؤكداً من خلاله على المصطلح الذي
أوجده كتوازي خلافي لمفهوم اللاشعور الذاتي عند فرويد , وأسماه ( اللاشعور الجمعي ـ
الخا فية ) .