التحليل النفسي والأدب
(مشهد النقد العربي )
(3)
: أسعد فخري

من هنا تتظهر المباينة والإرجاء والتقلب وغياب ثوابت معايير منهج التحليل النفسي ومناجزة النصوص عند (عز الدين إسماعيل ) الذي لو أخذنا بمعاييره لأخرجنا الكثير من الأعمال الإبداعية الخالدة من اللوح المحفوظ عارية من جلدها وجنسها إلى جنس وجلد آخرين تصعب فيه التسمية والانتماء .
لكن وبالرغم من الخلط الزائد وابتسار الآراء والشواهد وغياب التناغم / Syntontonia / المنهجي في كتاب ( التفسير النفسي للأدب ) وكذلك ما عاناه من افتعال الكتل / Mass / التنظيرية والحشو والمبالغة إلا أنه يظل لبنة لافتة وهامة في إطار المراجع الكلاسيكية التي اشتغلت على منهج التحليل النفسي والأدب في التطبيق المناجزة النقدية العربية .
لاشك بأن فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين المنصرم فترة حاسمة وهامة في إطار تظهير منهج التحليل النفسي وعلاقته بالفن فقد ساهمت الكثير من الترجمات إلى العربية من مصادر مختلفةإلى إنضاج إ ستلها م ذ لك المنهج والأخذ كذلك بالكثير من الآراء والاجتهادات البسكولوجية التي ناجرت في تأكيد حضور ذلك المنهج من خلال من خلال البحوث الهامة التي اشتغلت عليه في المشهد النقدي العربي .
لكن القضية الأساسية التي جعلت من منهج التحليل النفسي / Psyco analysrs / منهج له قيمة وحضور نقدي يمكن التعامل معهما ومناجرتهما على نصوص إبداعية عربية, فهي دون أدنى شك البحوث النقدية النفسا نية / Psychocritigue / للباحث والناقد العربي ( جورج طرابيشي )(18).
والذي كان مختلفاً وظل مختلفاً في رؤاه ومنحاه في التحليل والتأويل منتجاً لكم هائل من المؤلفات التي تنوعت بين الترجمات والبحوث مما جعله علامة هامة ومؤثرة في تظهير منهج التحليل النفسي عبر إقامته العلاقة العلمية التي لها مرجعيتها النظرية مع الفن والأدب معتمداً على تنوع الآراء والاجتهادات المعاصرة آخذاً بعين الاعتبار الأسس الموضوعية / Objectivity / لبناء تلك العلاقة ودفعها نحو أفق من التجاذب المحقق لمعادل التنامي بين النص المبحوث نفسياً والبنية المناهجية للتحليل النفسي كأداة للكشف عن البنى العميقية للاواعية النص والأوجه المتعددة لمعاينة / Polysemous,medning / غير المستقرة بالرغم من ميله الشديد إلى المعجم الفرويدي .

(تأملات أولية في التحليل النفسي للأدب والفن)

مدخل:


لا مندوحة من التأكيد على أن الشرارة الأولى كانت للمعلم الأول ( سيموند فرويد ) وشغله الشهير على رواية ( كراديفيا جنسن ) في كتابه ( الهذيان والأحلام )(19). والذي أحلّ سياقاً جديداً أنضج من خلاله آلية / Mechanism /متعددة الأغراض والأهداف تسعى في اشتغالها على إشادةعمارة مليئة بالمتاهات والأسئلة التي تبحث في ماهية/ Eidetic / الفن والأدب استناداً إلى منهج معقد وصارم يدعى التحليل النفسي .
لقد كان عام "1907" عام تحولات هامة في علم النفس والتحليل النفسي للأدب وذلك من خلال مقاربة نصوص أدبية بعينها واخضاعها لأدوات تلامس جوانية / Latent / تلك النصوص وعلائق مبعثها .
وذلك ما حقق ( للفرويدية ) فتحاً جديداً دعاها إلى الخروج من العيادة السريرية / Clinical / إلى حفريات المخيلة البشرية وأحلامها والتي رأى فيها فرويد حقلاً خصباً لتأمل أكثر تجريباً وانفتاحاً وكذلك نقلة أكثر حدساً / Intuition / وتشوفاً مما كان قد أحدثه مؤلفه الشهير ( تفسير الأحلام )(20) .الصادر عام 1900 م والذي يعد بحق من الكلاسيكيات الفرويدية الهامة والمرجعية .
ولأهمية ( كراديفيا )(21) الرواية التي شكلت عبر اجرائية / Operationism / الاشتغال عليها مفتاحاً ذهبياً للفرويدية وحضوراً أولياً لإنشاء العلاقة الحميمة بين نظرية التحليل النفسي والفن والتي لم تكن أصلاً في أجندة ( فرويد ) وتطلعاته كمشروع للاحتكاك بالفن كطاقة غامضة / Ambiguity / يجوز عليه ما يجوز على غيره من العلوم الإنسانية .
لكن التأكيد اللافت الذي أبداه فرويد في الهذيان والأحلام ( بأن الكاتب الذي كرس نفسه منذ عام / 1893/ لدراسة تكون الاضطرابات النفسية لم يكن ليدور في خلده أبداً أن يبحث عن تأكيد لنتائجه لدى الروائيين والشعراء )(22).
من هنا نلمس المكانة العالية والسامية لتأكيد فرويد على أهمية دور الفن كمرجعية / Referential / للكثير من العلوم والكشوفات التي كرس نفسه من أجلها وبذا يكون ( فرويد ) قد حقق قصب السبق في الاقتراب من النقطة العمياء التي حامت حولها الكثير من المعارف الانسانية دون ان تحقق إدهاشاً أو كشفاً في ملامسة حقيقتها التي مازالت محصنة بغامض أكثر من الغموض ومتاهة من الأسئلة التي لم تجد لها جواباً بعد, وذلك ما دعى ( فرويد ) للقول ( إن الشعراء والروائيين حلفاء موثوقون وينبغي أن تثمن شهادتهم عاليا ، لأنهم يعرفون أشياء كثيرة ما بين السماء والأرض وليس بمقدور حكمتنا المدرسية أن تحلم بها ، أنهم أساتذتنا في معرفة النفس )(23).
لكن أشد الدوافع اشكالية / Heros / تلك التي جعلت ( فرويد ) يذهب شـوطاً تحليلياً في رواية
( كراديفيا ) هي كثافة الأحلام فيها إذ كان ينتقل من حلم إلى آخر, محاولاً جمع شتاتها ليؤكد حضور مفهومه الجديد عن تأويل الحلم في المخيلة البشرية وإسقاطاته المرضية التي يراها تحقيقاً لرغبة مكبوته لدى الحالم في الرواية كشخصية لها سلوكاتها النفسية وليس البتة كما هو الحال عند المؤلف كحالم يعبر عن حلمه .
أما المسألة التي حملت الكثير من المفارقات الهامة أن ( فرويد ) بعد اكتشافه باعثة اللاوعي في رواية ( كراديفيا ) من خلال سبر وتحليل منظومة الأحلام المتناوبة فيها غدا غير منفك عن إعادة دمج تلك الأحلام في النسيج الأساسي للنص ناظراً إليها كمعيار أساسي وهام يتم من خلاله تحديد أسس مبدأ تأويل الحلم استناداً إلى المصائر النفسية للبطل / Problematiguele / والشخصيات المحيطة به مؤكداً بذلك ومن جديد على أهمية الشخصيات/ Perosnality/ النصية ، وأن ما تم اكتشافه في كراديفيا من أحلام ونكوصات / Regression / يعود إلى شخصيات النص وحيواتهم قائلاً : ( لا بد أن قراءنا دهشوا لرؤيتنا نعالج نور برها نولد وزويا بيرتغانغ في جميع ضروب التعبير عن حياتهما النفسية وعن أعمالهما وتصرفاتهما كما لو كانا شخصين حقيقيين ، وليسا مخلوقين من إبداع القاص )(24).
من هنا نلمس أهمية بالغة في النظر إلى ما قام به ( فرويد ) من تحليلات على النص الروائي مؤثراً عدم الإلماح أو الإشارة إلى الروائي(جنسن ) وعلاقته السيرية / Autob,ography /بشخصيات( كراديفيا ) معتبراً أن الروائي قد أدى رسائله الغامضةعبر تخيل مركب لشخصيات لبوسها الحلم وفاقاً لضروب منالتعبير .
لكن وبعد سنوات من القبض على باعثين اللاوعي التي اكتشف معادلها ( فرويد ) في ( كراديفيا ) يقرر وبصورة صادمة وانقلابية ( أن التحليل النفسي يسعى إلى معرفة خلفية الانطباعات والذكريات الشخصية / Autob,ography / التي استند إليها الكاتب لبناء عمله ، وهذا يعني أننا ننتقل من النص إلى السيرة الذاتية ومن الشخصية إلى الكاتب )(25).
لا شك أن تحول فرويد إلى تتبع مصائر الشخصيات في العمل الفني كمرجعية لاكتشاف لاوعي المؤلف في إطارها السيري قد أحدث انزياحاً كبيراً في منهج التحليل النفسي والأدب الذي سعى إليه فرويد منذ البداية ، وبدلاً من أن يكون للعمل الفني ( لاوعيه الخاص ) صار العمل الفني يخضع إلى معيار جديد يقوم على انقسـام ( أنا الكاتب إلى أنوات / Egoism / جزئية فمختلف الأبطال يجسدون اتجاهات الحياة النفسية المختلفة للروائي )(26).

يتبع القسم الرابع .....

الهوامش والمراجع

(18) ـ جورج طرابيشي , ينظر في الهامش / 1 /
(19) ـ الهذيان والأحلام ـ فرويد ـ ترجمة نبيل أبو صعب ـ الثقافة السورية ـ ط1 ـ 1986
(20) ـ سيموند فرويد ـ تفسير الأحلام ـ دار المعارف ـ ترجمة مصطفى صفوان ـ
ط1 ـ 1958
(21) ـ الهذيان والأحلام ـ فرويد ـ ترجمة نبيل أبو صعب ـ وزارة الثقافة السورية ـ 1986 .
(22) ـ المصدر السا بق ـ ص158 .
(23) ـ النقد في القرن العشرين ـ هان ايف تادييه ـ ترجمه قاسم مقداد ـ وزارة الثقافة السورية 1993 ـ ص192
(24) ـ الهذيان والأحلام ـ فرويد ـ ص143
(25) ـ النقد الأدبي في القرن العشرين ـ ص ( 193 + 194 ) .
(26) ـ المصدر السابق ـ ص194 .