نوة قاسم " قصة قصيرة "

عادة ما تبدأ " نوة قاسم" يوم الخامس والعشرين من ديسمـــــبر من كل عام ، يتهيأ لها الجميع كعادتهم عند انتظارهم لأية نوة ، لكنها في هذه المرة فاجأتهم ، جاءت مبكرة ، أمطار ، رعود ، عواصف جنوبية وغربية ..
انهزم كل أثر للحيــاة علي الشاطئ الرملي الذي خلا من كل خطو لبشر ، وانقطـــع الناس كل يلوذ في بيته حتى يأتي الله بأمره ..
الموج هاج دفعة واحدة ، وراح يلطم بقســــــــوة وجه القوارب المشتتة ، وأمام صولته وعتوه انسـحبت تلال الرمال مثل شئ هش دون مقاومة ..
ثمة كوخ صغير لصيـــاد اعتزل مهنته بعد أن أرهقه البحر كثيراً وأنهكه البحر ، الكوخ خالٍ تمامـــاً إلا من ساكنه الذي انفض عنه أولاده بالسفر أو العيش بعيداً ، لم يزره أحد إلا النزر القليل من خلصائه :
ــ كيف الحال يا عم السوداني ؟
ــ الحمد لله علي حسن عطيته ..
ــ تستاهل الحمد ..
صاحب الصوت يمضي ليرسل من بعده ولداً صغيراً يحمل طعاماً وحلوي مما صنعته أمه ، يمدها من خلف الباب ليعود سريعاً دون أن يلبي نداء الشيخ ليمنحه من قروشه مبلغاً ..
السوداني غره يوم صحو وشمس مارقة من بين سحب غادرت موقعها تواً ، دشن قاربه وحده دون انتظار مساعدة من أحد ..
قال البعض :
ــ من أين واتته القوة وهو بذراع واحدة بعد أن فقد الأخري في الحرب ؟
يذهب كلامهم في الهواء سدي ، يذوب فيه قبـــــــل أن يصل لأذني السوداني ، يضحك السوداني دون أن يعبــــــــأ مقهقهاً وينظر في شبه إشفاق ، يرمق القائل في حزن:
ــ الله خير مساعد وخير معين ..
يعد مجدافيه بتــأن وروية ، ثم ينطلق بقاربه عند طرف الساحل ، لا يعبأ كثيراً بنداء عسكري السواحل الذي يلومه علي المجئ مبكراً :
ــ الضابط النوبتجي سيمر يا عـم السوداني ويوقع علي الجزاء ..
ــ دعه لي ، لن يفعل شئ ، الستار موجود ..
ــ ونعم بالله ..
******
ينتظر الزبائن ليحملهم إلي الجزيرة المقابلة للمدينة ، أرض خــالية يذهب الناس إليها للتسرية عن أنفسهـــــــــم من أثقال الحياة ،ينقطع الواحد منهم في لحظات تأمل صوفية فلا تشـــغله الدنيا ، يسبح في ملكوت وحده ، أو يلقي بسنارة معه في الماء ، يؤدي طقوس الصمت ولعبة الصبر الجميل مراوغاً الأسماك دون أن يهتز له جفن . البحر مرآته ، ثمة مذياع صغير بجوار أذنه يؤنس وحدتــه ، يشعل سيجارة أو يتسلح بـأمل حتى إذا وقعت الفريسة صرخ من توه كأنما عثر علي خاتم سليمان فتبتهج نفسه ..
يحمل الشعراء والأدباء لينهلوا من معين الخيال الذي لا ينضب ، لم يشــأ السوداني أن يسأل " البك " الكبير الذي يركب معه للمرة الأولــــــي والذي أسرف في التدخين وراح يتابع طيور " الغاق " كطفــل وحيد وهي تنقض علي وجه الماء تصيد طعامها ، أن يسأله عن حقيقة ما تواتر من أنباء تؤرقه :
ــ هل حقيقة الحكومة ستبيع تلك الجزيرة للمستثمرين؟
حين طرح السؤال انتظر الإجابة ، مـــرت الربع ساعة مقدار المسافة التي يقطعها القارب ليصـــــل إلي الشاطئ الآخر ، راحت الأمواج تعانده بعد غفـــــــــوة صحت منها ولم تكف عن مناوشته ..
ثمة سفينة تنتظر في منطقة " الغاطــــــــس " قبل أن تدلف للقناة ، رفعت السفينة مراسيــــها كعبء ثقيل كانت قد تخففت منه إلي الماء وهي تتـــــأهب لمواصلة سفرها الطويل ، تطلع في وجه " البك " ، ألحت عليه نفسه معرفة الإجابة ، ردد السؤال ثانية :

ــ هـــــــــــل سيقيمون عليها ملاه ليلية وفنادق صغيرة ومارينا لليخوت ؟..
تناهبته الأفكار من جراء ما سمع ، هاهو " البك " لا يرد بشئ يثلج الصدر كأن ينفي مثلاً أو يفر من الإجابة بلباقة أهل الحديث ، ثم استطرد يسأل نفسه :
ــ ما الذي يعنيك من الأمر وأنت الرجل الفقير ؟
شعـــر بضآلة نفسه ، كاد لسانه أن ينفلت من غمده مثل سيف عاصٍ ، أو كفرس جموح لا يجد من يمسك بلجامه ، لكنه التــــــزم الصمت ، دقق بعينيه في موقع مرسي القارب ، جـذع شجرة غرسه وجعله وتداً يوثق به قاربه ..
لم ينقده " البك " أجــــره ، وثب إلي الشاطئ بمهارة شاب في العشـــرين ، خطا عدة خطوات ثم ارتكن إلي صخرة عـــالية بذراع واحدة وراح يطالع وجه السماء والبحــــــر والطيور والسحاب الذي تجمع علي هيئة أسد كبير في الساحة الزرقاء ..
ــ بماذا يفكر ؟ " قال السوداني لنفسه " ..
ــ سأنتظرك في الثالثة عصراً .. " قال البك " ..
أعاد السوداني السؤال ثانية علي " البك " ، مســـــح رأسه بعد أن رفع من فوقــــها قبعة بيضاء بانت من تحتها مساحة من الصلع ، نفث دخاناً كثيفاً هذه المرة من سيجارته ثم ألقي بحجر في عرض البحر :

ــ هل كنت تسأل عن شئ ؟ " بدا متأففاً ضجراً ".
ــ الناس في المدينة يرددون الأخبار عن قرب بيع الجزيرة ..
ــ الناس لا هم لهم إلا ترديد الشائعات ..
ــ لكن سارية عالية تحتل صدر المدينة توحي بذلك ..
ــ لا شأن لك بالأمر ..
ــ إذن ، لا أحد يقدر علي ذلك ..

تذكر " البك " أنه لم يدفع للسوداني أجره ، فعاد بخطوه ، وعده بان يدفعه له مضاعفاً لضمان عودته إليه:
ــ لا شئ يهم يا سعادة " البك" ..
لم يطمئن قلب السوداني ، بل أزاح بمجدافه موجاً كاد يهاجمه ، باح ببعض الكلمات لنفسه ، دار في شبه دائرة ، اقتص من موجة هاجمته بضراوة ، ارتاحت أساريره ، بدت ندف سحاب أبيض في سماء صفت كوجه امرأة تملاه جيداً ، وبلهفة :
ــ إنه وجه "كاملة " الغائب منذ سنين ، تعالي ياغالية
ضمها بالذراع الواحدة ، سألته :
ــ وأين ذراعك الأخرى ؟
ــ بترتها شظية في حربنا مع الأعداء ..
ــ آه .. تذكرت الآن ..

حين تحسس موضع ذراعه المبتورة لم يجد زوجته "كاملة" ، ترنح القارب إثر موجة غافلته فطعنها في بطنها واستل سيفه منتصراً ، وعاد إلي الشاطئ ..

عاد طيف " كاملة " مرة أخري وتذكره بلحظة أول لقاء لهما علي الشاطئ ، أجمل ابنة لصياد فقير مثله ، يخطوان معاً علي امتداد الرمال الناعمة ، الرمال هي الرمال ذاتها ، فهل تغيرت ؟
ــ مائة جنيه من الذهب صداقك عداً ونقداً ..
ــ سننجب جيشاً من الأطفال ، ونسكن هذه الجزيرة وحدنا ..
ثمة نداء من عند الشاطئ أيقظه :
ــ يا عم السوداني ..

ينقطع الحبل السري ، يلبي السوداني نداء عاشقيـن ، أريج عطرهما يغرق المكان في لجة من بحر عبيــر ، ابتسمت المرأة وهي تمد للسوداني يداً ليساعدهـــــا للنزول في القارب..
هي المرة الأولي التي يلمــــــس فيها يد امرأة منذ زمان بعيد ، تأرجح القارب ، نجــــح السوداني في إعادة الحال لسابقه ، جاء الرجل الذي لـم يسكت لحظة ، بادرهما بالسؤال :
ــ متي تزوجتما ؟
ــ منذ حوالي نصف العام ..
ــ بارك الله لكما " راح يعاتبهما علي عدم دعوته "..
ــ حاشا لله يا مولانا .. " قالت المــرأة وألقت في حجر السوداني بعض حلوي "..

ــ إذن نزهتكما علي حسابي ..
بادلاه الضحك ، وحين سألهما عن أمر بيع الجزيرة قال الرجل:
ــ ماذا يعنيك من الأمر ؟
مضي القارب يدور بهما حول الجزيرة ، ثمة طيور تكالبت عليها من كل حدب وصوب ، رأي السوداني الطيور وكأنها ترتدي حللاً سوداء وفي وسطها ترتفع عقيرة رجل عرفه من دونهم جميعاً :
ــ ألا أونا ، ألا دو ، ألا تري ..
تعالي صوت الصخب والضحكات ، ارتفـــــــــع أوار الأسعار ، يد السوداني السليمة ترتجف ، لم يعــــــد له قدرة للسيطرة علي المجداف ، الرجل وزوجتــــــه أصابهما الذعر وهما في عرض البحر والسودانــي لا يحرك ساكناً ..
رسا القارب عند طرف الجزيرة الشرقـــــــي ، وثب الرجل وزوجته ، وقف السوداني يسأل نفســه ..
دارت به الدنيا ، علا الموج البحر ، تجمعت النـــــــوارس من حول القارب تمسح عن عيني السوداني الدمـــع وتداعبه وتربت علي كتفه ثم ..
راحت تنشد أنشودة البحر رغم هبوب "نوة قاسم"..
ضرب السوداني بكفيه عجباً:
ـلقد باعت الحكومة كل شئ..
حملت الريح كلماته وبعثرت حروفها بإمتداد الشاطئ و"نوة قاسم " لازالت تضرب من حول السوداني بضراوة..
والسوداني وحده يبكي بدمع سخين علي وجوده في
المكان بدون عمل رغم أنه لم يعد في حاجة للمال..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد عبده العباسي
بورسعيد / مصر