( 8 )
*الزواج في عربة الدرجة الثالثة*
..........................................

كنت في طريقي من الزقازيق إلى القاهرة في عربة قطار الدرجة الثالثة، وجلس بجواري معيدان بجامعة الزقازيق، أحسست بالزهو، فلست وحدي من يركب قطار الدرجة الثالثة.
قدّم لي أحدهما سيجارة:
ـ تفضَّل.
شكرته، فأنا لا أُدخِّن.
ـ نحن مازلنا في الزقازيق، والطريق طويل، فلابد أن تدخن معنا.
قال الثاني متبسطاً:
ـ أنت تعرف الكرم الشرقاوي .. يعني .. لازم تدخن!
فكرّرت اعتذاري.
القطار يتحرّك، جلست بجواري فتاة يبدو أنها طالبة بالجامعة، تضع حقيبتها على ركبتيها وتجتهد أن تُخفي بها ما ظهر من ركبتيها الممتلئتين.
سألها المعيد ذو الشارب الكث:
ـ هل تعملين في الزقازيق؟
أجابت في اقتضاب:
ـ أنا مازلتُ طالبة.
ـ في أية كلية؟
ـ في كلية التجارة.
وأخرجت مجلة نسائية، مليئة بالصور الملونة، وأخذت تُحدِّق في صفحات الموضة.
*
المعيدان ينتقلان من حديث إلى حديث.
قال أحدثهما سنا:
ـ أريد أن أتزوج! .. أفكر فيه.
قال الآخر ذو الشارب الكث:
ـ تزوّج .. هل يمنعك أحد؟!
يبدو المعيد الآخر أصغر منه بعدة سنوات. أضاف:
ـ ضع يدك في جيبك، وأخرج ما فيه، وتزوِّج!
قال المعيد الصغير، الضعيف، منتفضاً كعصفور بلّله القطر:
ـ الجيب ليس فيه شيء! .. أما ترى ما نصرفه كل يوم؟ أنا أصرف حوالي أربعين قرشاً في اليوم .. مصاريف فقط! والزواج يطلب كيس نقود!
أغلقت البنت المجلة، وأخذت تُتابع الحديث:
سألتها:
ـ أنت في أية سنة؟
ـ السنة الثانية.
ـ من القاهرة؟
ـ لا .. من بلبيس؟
ـ ما مهنة والدك؟
ـ تاجر أخشاب.
قال المعيد النحيف مشتركاً في حوارنا:
ـ هل أنتِ بنت الحاج محمد عوض الله؟
ـ نعم.
وهزت رأسها متسائلة في تشوق:
ـ حضرتك تعرفه؟
قال مقلداً صوت نجيب الريحاني، وكاشفاً عن قدرة تمثيلية باهرة:
ـ ومن في بلبيس لا يعرف الحاج محمد عوض الله؟!
*
يعود حديث المعيدين إلى انطلاقته، يقول المعيد الضعيف:
ـ العيشة غالية صحيح، لكن لازم الواحد يتزوج، ماذا نعمل؟
وينظر إلى البنت التي تضحك في عبها، ويقول ناظراً إلى عينيها العسليتين، ووجهها المدوّر كالقمر:
ـ والله لولا أمي ما كنت أقدر أعيش، أستلف منها يا حسرة، حتى بعد أن توظفت، فـ .. قل لي يا بك كيف نتزوج؟ وهل تعمل السبعة عشر جنيهاً شيئاً؟
قال البدين:
ـ طيب .. مادمت تعرف ذلك .. انتظر الفلوس اللي تعمل شيئاً .. كلها خمس سنين وتكون خلصت الماجستير والدكتوراه!
وينظر المعيد النحيف أبو سوالف لبنت الحاج محمد عوض الله، ويقول:
ـ أو أنتظر لمَّا أجيب مرسيدس مثل الدكاترة أساتذتنا، ما من أحد غيرنا أنا وأنت يركب الأتوبيس 11 .
يضحك البدين، ويُخاطبني:
ـ يقصد أنه يمشي ..يركب رجليه، (ويضحك) وأنا مثله!.
ويسأل النحيف:
ـ ما اسم الكريمة بلدياتنا؟
ـ فاتن ..
ـ المشكلة يا فاتن ليست مشكلة عربية مرسيدس، المشكلة أن مظهرنا يتطلّب منا ما يفوق السبعة عشر جنيهاً التي نقبضها .. المجتمع ينظر لنا نظرة ثانية .. إننا أساتذة جامعة، مظهرنا يتطلب فلوساً، والمراجع والكتب الضرورية بالنسبة لنا تحتاج إلى فلوس ..
وتهز فاتن رأسها، ويرد عليه البدين:
ـ كلامك مضبوط.
*
تدخل فاتن المجلة النسائية في حقيبتها .. تنشغل بصحيفة استعارتها من راكب أمامنا، يتوجه النحيل للبدين:
ـ الذي أنا أستغربه .. كيف تزوجت؟
ـ أنا متزوج وأنا طالب.
ـ طيب.. أنت محظوظ ياعم، لكن هل يكفيك مرتبك؟
ـ لا .. أنا أعطي لطلاب الثانوية العامة دروساً في الكيمياء والأحياء.
ـ جميل .. حل جميل .. بدل أن يجلس الواحد منا في المقهى، يعطي دروساً لطلاب الإعدادية، والثانوية العامة. (وهز رأسه، وهو يضيف) فكرة جميلة .. والله!
أكمل البدين:
ـ ثم أنا ساكن في شقة بثلاثة جنيه ونصف في حي السيدة زينب.
ـ معقول؟!
ـ نعم معقول .. بيرم التونسي كان يكسب مئات الجنيهات من أزجاله وأغانيه، وكان يسكن في سطوح الناصرية.
ـ متزوج زميلة لك؟
يبدو أن البدين لم يسمع، فأعاد عليه السؤال مبتسماً:
ـ لا مؤاخذة يا دكتور صلاح، زوجتك موظفة ولاّ ست بيت؟
ـ ست بيت .. هذا أوفر وأحسن .. لما أرجع من الشغل وأجد الأكل ساخنا أحسن من أن أرجع متعباً وأعمل الأكل لنفسي! ..
كانت معالم بلبيس قد اتضحت في الأفق، وبدأ القطار يُقلِّل من سرعته. ونهضت فاتن متجهة إلى باب القطار قائلة في صوت خفيض:
ـ السلام عليكم.
وقال صلاح لزميله النحيف:
ـ ولماذا تبحث عن عروس وفاتن موجودة؟، ربنا أرسل لك العروسة لغاية عندك، بنت ناس مبسوطين، وعارف أصلهم وفصلهم، ولما تتخرّج تكون حصلت على الماجستير. مع السلامة يا درش.
ابتسم مصطفى، وأشرقت عيناه في بهجة، وكاد يقع على الأرض، فقد توقف قطار الدرجة الثالثة فجأة أمام رصيف المحطة. أخذ يشد على أيدينا، وهو يقول بكرم شرقاوي، تفضلوا معنا.. تفضلوا.
ناداه صلاح:
ـ مصطفى .. ماذا قلت في العروسة؟
ـ قل يا رب.
كان القطار قد توقف نهائياً في المحطة، ورأيت فاتن ومصطفى يسيران معاً، يتحدثان، ويبتسمان. وعندما أصبحا قبالتنا، نظرا إلينا مُحيييْن، وأخرج صلاح كتاباً ضخماً باللغة الإنجليزية ليقرأ فيه، وقبل أن يبدأ القراءة بادهني قائلا:
ـ أترى أن السنارة قد غَمَزَتْ؟!

المساء ـ 10/4/1970