(5)
*محو الذاكرة*
.................

بعد أفاض السلطان فى توضيح وجهة نظره ، تهيأ الشيخ محجوب السكرى لمقارعة الحجة بالحجة . أعد نفسه جيداً ، ما يجب قوله ، والحقائق التى أغفلها الرجل .
دبر الكلمات فى فمه ، وتهيأ لقولها ..
حين بدأ الكلام ، غلبه ارتباك ، وارتج عليه لأن ما كان قد حفظه ، انمحى وزال . محيت المسائل كلها من ذاكرته . لم يعد يتذكر شيئاً مما أعد له نفسه . مئات القوانين كان احتفظ بها فى ذاكرته ، ما لبث أن نسيها كأنها لم تكن . لم يتذكر مسألة واحدة مما كان قد استظهره . بدت ذاكرته كالورقات البيضاء ..
أغمض عينيه ، وضغط بإصبعيه على جبهته . يحث الذاكرة . يستدعى الكلمات التى كان أعدها ليضمنها كلماته . يثق أنها كلمات مهمة ، تضع التاريخ فى إطاره الصحيح . اختفت كل الكلمات والصور والتواريخ . أجاد ترتيبها ، يعرضها فيقنع الحضور . حتى ما قد يثيره السلطان ـ أو أعوانه ـ من أسئلة ، أعد لها ـ بالتوقع ـ ردوداً مسهبة ، فلا يترك معنى للمصادفة ، أو يقذف به فى الغموض ..
ظلت الكلمات مستعصية وغائبة . نثار من اختلاط الحروف والكلمات تصدر عن فمه ، فلا تقول شيئاً له معنى ..
محو الذاكرة هو ما كان يطلبه السلطان ..
ذاع بين الناس أنه أجاد أفعال السحر ، وصنع الطلاسم والمشاهرات ، والتنجيم ، وقراءة الرمل ، ومخاطبة النجوم .
كان يلجأ إلى محو ذاكرة من يأذن لهم بمخاطبته ، لينسوا حقوقهم . يضع سحره فى عينى الواقف أمامه . تتجهان إلى رأسه ، فتنمحى ذاكرته . يتلاشى كل ما اختزنه من تواريخ الزمن القديم وأحداثه وشخصياته . تظل سيطرة السلطان على كل شىء ..
حتى تغيب حكاياتنا القديمة عن الذاكرة تماماً ، ألغى السلطان الكتاتيب ، ورواة الملاحم والسير والطباشير والأقلام وألواح الإردواز .
اقتحم جنود السلطان ـ بأمر منه ـ ما فى المدينة من مكتبات عامة وخاصة وأقبية . أخذوا ما بها من كتب ووثائق ومخطوطات . كل ما سجل فى أوراق ، وضعوه فى كومات وسط الميادين ، وأشعلوا فيه النيران .
علا الدخان والحرائق سماء المدينة ..
أدركنا أن الأوراد والدعوات وحلقات الذكر والابتهالات والأشعار والأذان فى مواعيد الصلوات الخمس .. ذلك كله لا يعنى شيئاً ما لم نحافظ على ذاكرتنا ..
حتى لا تنقضى الأعوام ، فتغيب الذاكرة تماماً ، لجأنا إلى الجدات ، إلى ما يحتفظن به من حكايات وحواديت وسير وملاحم وأمثال وألغاز . كل ما احترق فى الأوراق تحفظه الصدور . ذاكرة الجدات من المستحيل محوها . ليست كلمات فى الأوراق ولا على الجدران ، فتمزق أو تمسح ، ولا يترددن على مجلس السلطان ، فيلحقهن سحره ، ولا هو يستطيع أن يتجه بسحر العينين إلى الجدات فى داخل البيوت . الجدات يروين لحلقات الأبناء والحفدة ، يروونه لأبنائهم وحفدتهم ..
بعد أن تزول سطوة السلطان ، ربما بعد مائة عام ، أو مائتى عام ، أو ما شاء الله من السنين ، تظل الذاكرة حية . يعرف من يحيون فى المستقبل كيف كان الماضى ، فلا تتشوش الذاكرة ، أو تضيع .