قصة قصيرة
الساعة الثانية عشرة
علي هاشم المالكي
ولى الصيف والخريف وجاء الشتاء ولم تطأ اقدام نسرين حديقة المنزل ولم تخرج اطلاقاً ، وقد ملت من البحث واعياها الفكر وصرعها التذكر فما زالت تلك الصور والمناظر الشمالية تملك فؤادها وترفض كل شيء في حياتها الجديدة حتى سيطرت عليها النزعة السيادية والنظرة الفوقية ، فمدينتها الجديدة لا تحقق رغباتها التي نشأت عليها.

ففي لحظة صراع بين ماضيها وحاضرها شعرت ان عقارب الساعة تدور عكس اتجاه الزمن لتنقلها من عصر التكنلوجيا الى العصور الوسطى ، فلم تعد تلك الفتاة التي تملأها الحماسة والارادة بل امست محطمة تنوء تحت وطأة الحزن ويكاد الوجه يحطم مابقي من قوتها وخيل اليها ان كل شيء اصبح هباء منثوراً ، حتى جاءت تلك الليلة الغريبة ، وما هي الآن الا الساعة الثانية عشرة ليلاً ، بينما كانت نسرين تجلس الى جدتها قرب المدفئة ، طرق الباب بهدوء ، نظرت اليها الجدة نظرة خائفة تفصح عن استفهام خالطه التعجب ، ورمت نسرين ناظرها نحو المدفئة وكأن شيئاً لايعنيها ، فقامت الجدة الى الباب تفتحه واذا بها تدخل ومعها شاب طويل عليها ملابس الحداثة ، يسير ببطء شديد يظلله جناح الخجل ، ووصلا قرب المدفئة نطق بصوت هادئ كأنه ترانيم العصافير وتلاوة المساجد قائلاً : السلام عليكم.

فأحست انها تجلس في واد متراخ الاطراف وتنظر الى قمة جبل شاهق فلم تملك الا ان ردت التحية فأومت اليه الجدة بالجلوس ، فجلس . قالت الجدة : انه ابراهيم ... وبدأت تفصل كعادتها بالحديث فعرفت (نسرين) انه احد اقاربها وجاء من الريف ليقضي الليلة في ضيافتهم ويغادر صباحاً لعمل يقضيه في العاصمة ، ثم عرجت الجدة على تعريفه بها وشرحت كيف قضى والدها في حادث سير ، فأخذ الرجل بالاعتذار والمواساة يواسيها بالصبر ويذكرها بثواب الآخرة والجنة بلباقة عالية ورسمية جادة ، فخيل اليها انها تجلس امام راهب في احد الاديرة او قس يتلو الصلوات الأخيرة ، اطالت الجدة الحديث معه فتسأله ويجيبها بمطنق العالم الخبير بتجارب الحياة ، اعجب نسرين حديثه وبدأت تراقب شفتيه كيف نثر اللؤلؤ وحديثه الجاد لايخلو من روح الفكاهة والدعابة التي يبثها عامداً من حين الى آخر ، في لحظة انتبهت نسرين لنفسها كيف بدأت تنجذب اليه اليست هي التي كتبت لصديقها مادلين في لندن (انها تكره هذه البلاد وكل ما يخرج من رحمها وتكره الشمس التي تبزغ على ارضها والنور الذي ينبثق من فجرها).

حاولت نسرين ان تسيطر على عواطفها وتدافع عن افكارها ، فقالت ـ بدون ادنى تردد ـ متجهة بالسؤال اليه : الستم ايها القريون تعيشون لكي تأكلوا ؟ فأجابها قبل ان يرتد ناظرها عنه قائلاً: الستم ايها الغربيون تعيشون لكي تلهوا وتلعبوا ، وعاود الحديث الى الجدة وكأن شيئاً لم يكن ، فأثار ذلك غضبها وشعرت انها تتلاشى في سراب واسع فجمعت ماتبقى من عزيمتها قائلة: انكم تظلمون المرأة وتستعبدونها ..

قال : وانتم تحررونها من ارادتها لتبيعوها لشركات الاعلانات ، تكلم وعيناه لم ترتفعا من الارض اطلاقاً..

فانفجر بركان غضبها وتغيرت تقاطيع وجهها وقالت : رجعيون تؤمنون بأفكار قديمة.

قال : اليس الحب قديماً ؟ اليس العطف قديماً؟ اليس الصدق قديماً؟ اليس الوفاء قديماً؟ اليست الانسانية قديمة الا تؤمنون بالأنسانية ؟
قالت ـ لكن هذه المرة بهدوء وسكينة وكأن جعبة سهامها لم يبق فيها الا سهماً واحداً ـ لماذا الحجاب؟ انكم تحجزون المرأة عن سعادتها.

رفع نظره اليها ، فشعرت بحرارة جسمه ودفء قلبه ، احساس يفيض على المرء بالطمأنينة فقال : انك بمنزلة الجوهرة هل تحفظ الجواهر الا في آمن الاماكن وابعدها عن الحاسدين والحاقدين ، فلم تملك له خطاباً الا التأمل فيه والاستماع الى حديثه ، بعد لحظات استأذن للذهاب الى الفراش فقالت: ارجو ان تزورنا قريباً ، رد دون ان ينظر اليها قائلاً: طلبوا العسير من كف الاسير..