المغالاة في الغرب في التأكيد على الذات
وعالمية الحضارة

د. تيسير الناشف

معايير التقدم في الغرب ليست بالضرورة عالمية. وقول بعض الغربيين بأن معايير التقدم في العالم غربية يشير إلى نزعة التركيز على الذات لدى أولئكم الغربيين. وقيم ومعايير التقدم شاملة ومجردة، غير أنها تتخذ معاني أكثر تحديدا عند تطبيقها في سياق اجتماعي ثقافي معين. فللقيم والمفاهيم والمعايير قراءات لا بد من أن تختلف الواحدة منها عن الأخرى باختلاف القارئ والسياق الاجتماعي والثقافي والنفسي والتاريخي. ومن المستحيل أن ننزل بالمفهوم من حالة التجريد الى حالة التحديد دون أن يكون العامل الذاتي والسياقي قد دخل أثناء هذه العملية. ولهذا العامل جوانب سياسية واقتصادية وثقافية.
وبالنظر إلى دخول العامل الذاتي السياقي خلال عملية النزول من التجريد الى التحديد تأتي قراءات المفهوم مختلفة ويتخذ المفهوم الأعم أشكال مفاهيم أقل شمولا وأكثر تحديدا، ويخضع المفهوم لتفسيرات مختلفة تبعا لاختلاف القراءات واختلاف المفاهيم.
حق الإنسان، مثلا، مفهوم مجرد. وكلما تحركنا به إلى مستوى أكثر تحديدا ازداد خضوعا للقراءات المتأثرة بالبيئة الاجتماعية النفسية التاريخية للإنسان. قد يعني حق الإنسان في دول غربية حق التملك المالي أو المادي الذي لا حدود له، وقد يعني حق الإنسان في دول نامية حق التملك المالي أو المادي إلى الحد الذي لا يتضرر عنده المجتمع من ذلك التملك. وعلى هذا النحو يمكن حشد كثير من الأمثلة على الحقوق التي تبدو غير خلافية ولكن تنطوي محاولة تطبيقها على قدر أكبر من الخلاف بسبب دخول عنصر القراءة والتفسير عند نقل تلك المفاهيم من مستوى التجريد الى مستوى التحديد.
وتنتقي جهات حكومية وغير حكومية في الغرب عددا من المفاهيم في الحياة وتؤكد على أهمية نشرها. هذا الانتقاء والتأكيد ينطويان أيضا من الناحية الموضوعية على خلل جوهري في نهج تناول القضايا المطروحة، وهو النهج الذي تنتهجه تلك الجهات خدمة لأغراضها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية. والخلل الذي يعتور هذا النهج هو انتقاء أو اختيار مفاهيم معينة، توليها تلك الجهات، خدمة لأغراضها، الأولوية. ويعني هذا الانتقاء إهمال مفاهيم أخرى لا تقل أهمية من المنظور العالمي أو منظور شعوب العالم النامي. ويأتي هذا الإهمال نتيجة عن رغبة تلك الجهات الغربية في تسليط الضوء على مفاهيم معينة، ترى تلك الجهات أنها تجني من الكلام عنها فوائد، وفي إبقاء مفاهيم أخرى في دائرة الظل أو النسيان لأن تلك الجهات ترى أن تسليط الضوء عليها لا يفيدها بل يضرها.
لنأخذ على سبيل المثال المغالاة في التأكيد على مفهوم الفردية أو النزعة الفردية. لا يختلف اثنان عاقلان على أنه ينبغي أن توفر للإنسان بوصفه فردا حقوق معينة. وبينما يغالى في التأكيد على قيمة النزعة الفردية في العالم الغربي، وتكون هذه المغالاة على حساب مصلحة المجموع، لا تحصل هذه النزعة على هذا القدر الكبير من التأكيد في بلدان العالم النامي. لقد أدت ظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية وتاريخية إلى نشوء هذه النزعة المغالى فيها في الغرب. ولم تمر شعوب العالم النامي بهذه الظروف، وبالتالي لا يروج في صفوف تلك الشعوب استصواب أو استحسان تلك المغالاة. وقد فتكت تلك المغالاة في النزعة الفردية بالمجتمعات الغربية فأسهمت إسهاما كبيرا في تفكيك الأسر وكثرة حالات الطلاق وانعزال الناس بعضهم عن بعض وفقدان الطمأنينة الاجتماعية والنفسية وانتشار الإلحاد والحيرة النفسية واليأس والإدمان على استهلاك المخدرات. وليس من مصلحة الشعوب النامية أن تحذو حذو المجتمعات الغربية في المغالاة في النزعة الفردية. ولو روجت الجهات الحكومية في البلدان النامية الفردية المغالى فيها لأسهمت في إلحاق الضرر بالمجتمع. ومن المعقول أن تتعلم الشعوب النامية من اأطاء البلدان المتقدمة النمو في هذا المجال.
وتستلزم طبيعة المرحلة الإنمائية التي تمر بها الشعوب النامية توفر قدر أكبر من التماسك الاجتماعي اللازم للمساعدة في تنمية المجتمع وفي توطيد أركان الدولة. ومن شأن ترويج النزعة الفردية المغالى فيها في صفوف تلك الشعوب أن يتعارض مع هذين الهدفين أو، على الأقل، ألا يساعد على تحقيقهما.
وفي ضوء ما تقدم ذكره يفتقر الزعم الغربي إلى الأساس الفكري والأخلاقي السليم والأساس المنطقي إذا تضمن ذلك الزعم القول إن بلدان العالم النامي متخلفة في ميدان إعمال حقوق الإنسان لأنها - أي تلك البلدان - لا تقبل المغالاة في النزعة الفردية. ويمكن حشد أمثلة كثيرة من قبيل هذا المثال في شتى مجالات النشاط الإنساني.
والحقيقة أن مفهوم حقوق الإنسان قابل للتوسيع إلى أن يصبح شاملا لكل النشاطات البشرية ولكل مجالات الحياة. فبتوسيع نطاق هذا المفهوم يشمل مجالات من قبيل طريقة التعامل بين الدول الكبرى والصغيرة وطبيعة السياسات الخارجية والاقتصادية التي تتبعها الدول الكبرى حيال الدول الصغيرة وسياسات تصدير التكنولوجيا التي تتبعها الدول المنتجة للتكنولوجيا وسياسات السيطرة والهيمنة التي تتبعها دول على الساحة الدولية، وحالات الفقر والأمية والجهل والمرض التي تعاني منها الشعوب النامية وقطاعات كبيرة من شعوب العالم المتقدم النمو وغيرها كثير من مجالات النشاط البشري. عن طريق توسيع نطاق مفهوم حقوق الإنسان تصبح هذه الظواهر في هذه المجالات حالات متعلقة بحقوق الإنسان لأن لها أثرا ضارا بالإنسان وماسا بحقوقه.
ومفهوم حقوق الإنسان ليس مفهوما قابلا للتجزئة وللانتقاء. إنه مفهوم شامل. إن حقوق الإنسان مجموعة متكاملة وذلك لوحدة الشخص المقصود أن يتمتع بهذه الحقوق وهو الإنسان. وتجزئة حقوق الإنسان وانتقاؤها يعنيان مساسا بها لأن هذه التجزئة والانتقاء يتنافيان مع وحدة هذه الحقوق. وعلى الشخص المعني بهذه المسألة أن يستنتج فورا أن المناداة بحق من حقوق الإنسان مع إهمال الحقوق الأخرى تنم عن خلل في الرؤية وقد تشي بوجود مأرب خاص لدى من يفعل ذلك.
والقيم والمفاهيم العالمية قائمة ليس فقط في ثقافات غربية ولكن ايضا في ثقافات رئيسية غير غربية. في الثقافة العربية والإسلامية تتأصل مفاهيم وقيم أسمى من قسم من مفاهيم وقيم الثقافات الغربية، ومن المفاهيم والقيم الإسلامية والعربية النزعة الإنسانية والنظرة العالمية إلى الوجود والتوسط بين المادية والروحانية والتكافل الاجتماعي والتراحم والمساواة بين البشر كلهم والأفضلية بتقوى الله والزكاة وبيت المال والشورى وخلافة الإنسان لله على الأرض والتلطف بالبيئة والنهي عن المشي المرح على الأرض والنهي عن المضاربة الاقتصادية ومفهوم "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا". وتوجد أيضا مفاهيم وقيم كثيرة متأصلة في ثقافات غير الثقافات الغربية والعربية الإسلامية.
إن إشاعة الزعم بعالمية القيم والمفاهيم الرئيسية الغربية أفضت من الناحية العملية إلى التعتيم على قيم ومفاهيم رئيسية أوجدتها ونمتها ثقافات رئيسية غير غربية. ولا يراعي هذا الزعم تأثير الثقافات والحضارات بعضها في بعض عبر القرون. لقد أثرت الحضارة العربية الإسلامية على سبيل المثال تأثيرا كبيرا في حياة الشعوب الأوروبية، مما أسهم في إيجاد الحضارة الغربية كما نعرفها اليوم. ويمكن لمفاهيم وقيم غير غربية أن تسهم في تغذية الثقافات الغربية وأن تكون من الأسس التي تقوم عليها الحضارة العالمية.
ومن منطلق مصلحة البشرية عموما من اللازم أن يكون عالمنا قائما على العدل والإنصاف، عالما فيه يختفي الظلم والقهر، وتعم المساواة ويتعزز الحس بالكرامة الإنسانية. وهذه مثل من الصعب تحقيقها، ولكن يمكن للبشر أن يسعوا إلى تحقيق أكبر قدر منها. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف بقبول مفاهيم وقيم رئيسية غربية فقط، ولكن أيضا بقبول قيم رئيسية غير غربية أيضا. فإذا كان الكلام عن مصلحة البشر ووحدة البشرية - ويبدو أن جهات غربية لها منطلقات أخرى - فيجب الاعتراف بتكامل القيم الرئيسية السامية التي تحتضنها شعوب كثيرة من الشرق والغرب والشمال والجنوب. وما الكلام عن مراعاة قيم حقوق الانسان دون مراعاة وجود قيم حقوق إنسان رئيسية في العالم غير الغربي سوى ضرب من التشدق وإضاعة الوقت وسعي لخدمة أغراض خاصة ضيقة الأفق.