*صفحتان من يوميات عبد الله بن أبي*
.................................................. ....

ا-الخروج من الحلبة:
* الليلُ الموغلُ في الأعماقِ يُلملمُ ثوباً فضفاضاً، ويصفِّقُ للأكوابِ المخمورةِ، إذْ تصطكُّ وتُفرَغُ في الجوفِ الظامئِ، تنتصِبُ الراياتُ الحمرُ على دورِ بغايا القومِ، ويصطرعُ السادةُ: "أعينُكمْ تلتهمُ المبغى، فلتعبث أيدينا في الشعرِ الذهبيِّ، وتُغرسُ في اللحمِ، لنرحلْ عبرَ الليلِ إلى مدنِ النشوةِ واللذةِ، نُبعدْ هذا الكابوسَ: الخوفَ من النارِ المشتعلةِ". في أعمدةِ الليلِ حكايا عن جنِّ الصحراءِ وهم يُلقون النباَ: سيعلو نخلُ الصحراءِ فتيا، وستشرقُ "يثربُ" شمساً تتربَّعُ في وسطِ نهارٍ لا يتأخَّرُ عن موعدِهِ، فانتظري أصفاها قلباً إذ يحرقُهُ الحبُّ، ويدفعُهُ طوفانُ الشفقةِ أن يأخذَكمْ في حضنيْهِ، وأن ينشر أجنحةُ تحميكمْ منْ شمسِ الخوفِ القائظةِ، وينصبُ في الصحراءِ الفردوسْ.
*"طلع البدرُ عليها !" .. فلتستقبلْ يثربُ ملكاً غيري ! "قالوا: خيرُ رجالِ الأرضِ"، فهذا رجلٌ شقَّ الحُجُبَ، وضَمَّ الغيْثَ إذِ الصدرُ النابضُ بالكلِمِ المُلْغِزِ، والغيْمُ سرابٌ يخدعُ في الصحراءِ، تعالتْ أصواتُ "الأوس" صراخاً: "ما دامت في الجسدِ بقيةُ رمقٍ سنحبُّكَ، نحتضنُ الكلماتِ الخضرِ ونحملُ سيفَكَ، وندافعُ عن كلماتكَ، ننشرُها شرقاً .. غرباً، في أرجاءِ الأرضِ سنرحلُ" .. والنوقُ الضامرةُ تُسافرُ راكضةً، والبلدُ الطيبُ (يا ويحي !!) يفتحُ كفيْهِ لضوءِ الشمسْ.
*هل مرَّ بخاطر زوجي أن الليل سيرحلُ، ونبوءةَ ولدي تتحقَّقُ ؟ هذي حباتُ النورِ تُداعبُ جفنيْهِ فيخطو نحو النبعِ، ويصهلُ في ذاكرةِ الأيامِ سؤالٌ مجنونٌ يتدفَّقُ من شفتيَّ: لماذا أُبصِـرُ في الساحةِ أقدامَ حُفاةِ الصحراءِ ـ عبيدِ القومِ ـ وقد رفعوا الرَّأسْ؟

2-آخر البكائيات:
*وحيداً تقاذفني الموجُ، والليلُ كانَ، وكنتُ أُغنِّي هزيمَ الرعودِ، وصوتَ الطيورِ، ويزأرُ فيَّ صهيلُ الرياحِ، انطلقنا معَ الليلِ، تعبقُ رائحةٌ: أين أنتِ، تعاليْ، فإني أعودُ مع الفجرِ نصفَ شعاعٍ على الأرضِ تنزفُ مني دمائي.
*وأنت تُغنَّين جسمُكِ يمنحني فيئه، وكفُّكِ … مالي أراكِ انتفضتِ؟ وبردٌ شديدٌ يرُجُّ ضلوعي .. أقولُ: تزمَّلتُ بالورقاتِ العِجافِ، تدثَّرْتُ بالخوفِ، يخذلُني الصَّحبُ، عشتُ جباناً أبيعُ الحروفَ، أمُدُّ يديَّ لسبطِ يهوذا اللعينِ، أُفتَّشُ في جمرةِ القلبِ عن بعضِ أعوادِ "خيبرَ" كيْ أتلظَّى بها في ليالي الشتاءِ
*عشقتُ بساتينكِ اللاهثاتِ من الجريِ خلفي، لماذا إذنْ أبعدتْني الخُطا إن طريقِكِ؟ إني أعودُ ليثربَ، للظلِّ والأُغنياتِ .. (تشرَّدَ عصفورُنا في زمانِ التراجُعِ والقهرِ والأغنياتِ البليدةِ) .. بيني وبينكِ عمرٌ من الحزنِ، لا تطرديني عن الصدرِ، إني أودُّ غناءً قديماً، وحنجرتي يتلبَّدُ فيها الكلامُ، لماذا نشرتَ على وجهِكَ الحلوِ ثوبَ البُكاءِ ؟
* أُغنِّي سكارى "قُريظةَ" .. هل يرجعون إلى الرشدِ ذات صباحٍ ؟، نسلُّ السيوفَ، ونطرُدُ ذاك الذي قدْ أتانا فمزَّقَنا في النهارِ، أتغضبُ مني الحبيبةُ حينَ تراني أغني لسبطِ "يهوذا" وأحفِرُ مقبرةَ النُّدماءْ؟

ديرب نجم 25/6/1981