قصة قصيرة " الرجل من عند المتوسط "

ضبب زجاج نظــارتيه ببخر من فمه ، مسحه بمنديل معه ، تـــرك أصـابعه تحك مؤخرة رأسه في أناة ، ثم سلم رجليه لطريــق الميناء ، ومضي نحوه يغذ الخطي نحوه .
كان قد أدى صـــــلاة الفجر في مسجد السلام المطل بمــــــآذنه السامقة علي ساحة الميدان ، استعذب لسانه كلمات التسبيح والحمد والتكبير ، تمتم بها .
ثمة دمعة خائنة فرت من عينه دون أن يدري ، تذكر " الولد " ممدوح الذي سافر منذ فترة إلي الكويت :
ــ سأغترب زمناً عسي أن يعوضنا الله عما راح .
ــ العوض من عند الله ..
ــ ونحقق حلماً طالما راودنا ، نمتلك مركباً غير التي راحت في الحرب ..
********
نثار من موج اصطخب ، خبط مقـــــــدمة القارب ، أوحي له بأن ثمة ثورة للرياح ، هو يعلم ميقات " نوة الُمِكنسَة 1" ويتفاداها ، يعرف أن البحر غدار وماكر.
أعد المجدافين في موقعهما،ربطهما جيداً في "الجالي 2 " ، شمر عن ساعدين نحيلتين ، أومأ برأسه لجندي السواحل في
" الكشك " الخشبي ، وانشغل قليلاً في رتق شباك الصيد لحين قدوم حليم وهنوس ، أقبلا علي مهل وهما يتسامران ، باغتهما صوته مثل رعد نزل فجأة :
ــ لم يعد هناك وقت ، لقد تأخرنا يا "بكوات " . قالها بشئ من السخرية ".
فزعا ، لم يعرفا أنه سيسبقهما ..
ــ سرقنا النوم يامولانا ..
عاد لسخريته منهما :
ــ ستائركما غامقة اللون .
بادلاه الضحكات وهما يلقيان علية التحية :
ــ معذرة يا شيخ العرب ..
وتوليا عملهما في التجديف ، يغادرون رصيف " السعدية 3 " إلي عرض البحر ، القارب ينطلق عابراً " القلعة4" لجهة بلاج بورفؤاد ..
السماء صحو بوجه عام ، والبحر رائق مستسلم لحركة المجدافين ، نوارس تحط علي وجه الماء وتعلو ، بانت صواري سفن ستعبر القناة ، بدت من بعيد كأنها لمبان لمدن عائمة ..
ثمة سفينة مرت بالقرب من القارب ترفع علم "بنما" أهاجت مشاعره ، ردته لزمن خلي سافر فيه ليعمل بحاراً علي السفن التي ترحل بين الموانئ ، لما أغلقت القناة بعد الحرب تاركاً من خلفه الصغار في حضن أمهم ..
أمه العجوز قالت له مودعة :
ــ إياك ونساء "الفرنجة " يا ولدي ..
ضاحكها :
ــ سآتي بواحدة منهن عند العودة ..
همست لنفسها :
ــ الولد مثل أبيه تماماً ، إنها دورة الزمن وميراث الحياة ..
" جاء حمدان من رحلته بالخارج متأبطاً في ذراعه إيطالية حسناء "..
أمه تحدت الجميع :
ــ أنا أجمل منها ..
أيقظها من شبه سبات :
ــ إلي أين يا أم البدوي ؟
ضحكت وهي تربت علي كتفه مودعة :
ــ تذكرت أبيك ، لا تنس امرأتك يا ولدي ، لا تنس عز وممدوح وهالة ..
شقت السفينة عباب البحر ولم يعد البدوي إلا قبيــــل حرب 1973 ..
أحبته كل النسوة في موانئ الغربة ، عشقــــــــن لون عينيه ، وجهه ، قوامه السمهري ..
ــ بطل أسطوري أنت يا بدوي ..
علي الفور أبدت " كلوديا " رغبتها في الزواج منه ، لكنه غادر مدينتها " باري " موغلاً في البحر ، تذكر مجيدة وعز وممدوح وهالة ..
ارتحل البدوي بين البلاد ، يجوب مرافئها ومدنها ، عابراً من بحر لمحيط ، من مضيق لخليج ، رأي الدموع في عيون النساء ، لكن طيف مجيدة لا يغادره.
*******
كل صبح عليه أن يــــــــــواجه شمساً مشرقة إلا هذا الصباح ، كالأنثي غابت الشمس في خــــــــدرها وسط سحب متناثرة ..
مثل أبطال الأساطير القديمة راح "البـــــدوي " يفرد ذراعيه ويطويهما ممسكاً بالمجدافين في مهـــــــــــارة والقارب ينطلق ، فكأنما يؤدي مراناً يومياً .
لما حل به التعب أوكل لرفيقيه في القارب مهمة التجديف ، وانشغل هو بصلاة الضحى ، عاد بعدهـــــا ليراجع " خروم 5" شباك الصيد في سرعة وثقة .
نصف قرن أو يزيد والبدوي لم ينقطع يوماً عــــــــن البحر ، يملأ ناظريه من زرقته حتى وهو في مخدعه ولما سدوا السبيل عليه بالبنيان لقوم زادت معـــــــــهم الأموال فجأة ، راح يرقبه من خلال فرجة صغيرة في النافذة ..
الآن خبا نور العينين قليلاً ، واعوج الساق علي أثر زلة عند رصيف الميناء ، لكن العناد أورثه صلابة .
ألقى في البحر بالشباك ، القارب ينزلق علي وجه الماء دون عناء أو تجديف مثل عروس تتهادي إلي شرفتها تنتظر الحبيب علي أحر من الجمر ..
سنة من النوم غافلت عيني البدوي ، كان مضطجعاً علي زنده ، رأي في نومه سمكة قرش ضخمة تنفث دخاناً أسود وما يشبه الدخان وتلتهم القارب .
ــ يا لطيف يارب ..
هب حليم وهنوس علي فزع ، مال القارب عن موضعه قليلاً ، قدم له أحدهما " قلة الماء 6" ونهض الآخر سريعاً يثب كنورس ، ربت علي كتفه بعد تجرعه الماء :
ــ خير يا عم البدوي ..
ــ لا شئ ، لا شئ ، الحمد لله .
وتناول طرف "الجوزة " يزدرد دخانها ويلفظه فيما تلظي فحمها تحت لفح الريح ، أشار :
ــ اسحبوا الشباك ..
سحبوها ، فإذا هي خطوط تعود بعد أن ابتلعها البحر ، وبدت كرات الفلين السابحة كعقد في جيد امرأة طاقة الحبال تلتف والقـــارب في مسعاه الهادئ يشق السطح
بسواعد الرجلين ..

مال البدوي عليهما وردد :
ــ عاشا .. " ودعا لهما بمزيد من العافية " .
راحوا ثلاثتهم يبتسمون لما أرسله الله لهم من رزق ، مال القارب قليلاً جهة المياه الضحلة عند "سمية القلس 7" وراح الرجال يقضمون من أرغفة الخبز يغمسونها من قطعة الجبن البيضاء ، ويلقمون أفواههم بثمار الطماطم ، رشفوا من أكواب الشاي " الحبر8" ، ونفثوا في الهواء دوائر الدخان .
أصاخ البدوي السمع لصـوت الشيخ محمد رفعت يؤذن لصلاة الظهــر ، عادوا ثلاثتهم مرة أخري يجرون الحبال حتي اقتربوا من أول الشباك ..
توقف حليم وهنوس ، نظرا لبعضهم البعض ،البدوي احتد علي رفيقيه :
ــ ماذا حدث ؟
حديثهم صار أشبه بالصراخ ، البدوي بنظرة مــــــن عينيه فهم ، رفع كفه قرب جبهته يظلل عينيــــــــه من الشمس ، حليم خلع عن بدنه إلا ما يستر العورة ، ألقي بنفسه في الماء مثل سهم خرج من كنانته ليغــــــوص بعمق ثلاثين " قامة 9 " غاب قليلاً مما أقلق البـــدوي ولام نفسه :
ــ ليتني غُصت بدلاً منه ..
قال هنوس :
ــ لا عليك ، رئتاك لا تحتملان الغوص ..
وأردف :
ــ حليم بطل في الغوص ، نال بذلك شهادة زمن التجنيد في القوات البحرية ..
ــ لكنه لم يتزوج منذ وفاة امرأته نظلة ..
فرك هنوس إبهامه في سبابته :
ــ لضيق ذات اليد يا عم البدوي ..
زاد خوفه ، تذكر الحوت ، بعد قليل طفا حليم :
ــ ماذا في يده ؟
قال البدوي وهو يتمتم بحمد الله ، حليم علي مبعدة يعوم بذراع واحدة والأخري يرفعها عالياً :
ــ هناك وادٍ منه عند القاع ..
تملاها البدوي :
ــ مخدرات ..
كان صدر حليم يعلو ويهبط :
ــ تل كبير ،انظر إنه يلمع تحت الماء ، إني أراه بعيني يتراقص في العمق ، وداعاً للفقر .. " وصـــــفق بيديه كطفل يلهو ".
ــ حد الله بيني وبينها ..
ــ هي بلا صاحب يا عماه ..
في صوت متحد قال حليم وهنوس ، انتفض البدوي
وألقي بما جاء به حليم بطول ذراعه في الماء ، عام علي السطح قليلاً ثم غطس ، وعاد لزجــــــرهما في عنف:
ــ هذا فراق بيني وبينكما ، ليبحث كـــــــل واحد عما ينقصه ، سأعود وحدي لصنع شباك جديدة ..
قال أحدهما :
ــ لنستفد بجزء قليل فقط .
ـ ولو ....
أشار هنوس للقطعة التي غطست مودعة وهي تلمع تحت ضوء الشمس ، حلم بها متوهــجة فـــــوق رأس "الجوزة " ، كما تخيلها ، قال حليم :
ــ بعد قليل يتجشأها البحر وتحرقها الشمس ..
قطع البدوي حبل الأماني ، قال :
ــ هيا للعودة قبل أن تحرقنا الشمس ..
الأخبار انتشرت في المدينة ، صرخ بعض النــــاس وصعقوا :
ــ البدوي فقد صوابه ، مجنون ، ركل الرزق القادم له بدون عناء ..
في الميناء احتشدت القوي بعد أن علمت الشــــــرطة بالخبر .
صباح اليوم التالي صدرت الصحف تحمل الخــــــبر مزداناً بصورة البدوي مع ضابط كبير يقدم له الشـــكر ويمنحه مكافأة ، وتحتها عنوان كبير ..
********
كانت الصحيفة معلقة داخل إطار من خشــــب الماهوجني في صدر البيت القديم ،لكن العبث الــــذي امتد ليلهو بالمدينة ، ألحق زلزاله الضرر وأدي إلي تصدع جدران البيت الكبير ، انشرخ زجاج الصورة ، ولم يعد سوي النزر القليل من الناس يذكر قصة " أبي " الذي يقبع في قبره بالقرب من شاطئ البحر الأبيض المتوسط ".
ـــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نوة المكنسة : نوة بحرية تهب علي موانئ البحر المتوسط .
2ـ الجالي : وتد من الخشب يثبت في منتصف القارب .
3ـ السعدية : مكان استخراج تصاريح الصيد للمراكب والقوارب .
4ـ القلعة : موقع عند نهاية طرف قناة السويس الشمالي عنده أول البحر المتوسط .
5ـ خروم الشباك : ثقوب تحدثها الأسماك في شباك الصيد وتمزقها .
6ـ قلة الماء : وعاء من الفخار يستخدم لتبريد المياه .
7ـ سمية القلس : مكان شرقي ساحل بورفؤاد .
8ـ الحبر : كناية عن اللون الأسود للشاي المستحب شربه .
9ـ قامة : مقياس يستخدم عند الصيادين وهو بطول قامة الرجل





بور سعيد - مصر