القــــــــــارب " قصة قصيرة "

القارب الذي اشتراه جدي منذ زمن بعيد.. رفض أن يبيعه بعد أن كبر سنه.. وأضناه طول التعب وخوض غمار البحيرة..

كل الذين عرفوه.. أشاروا عليه بضرورة التقاعد واعتزال العمل.. فالبحيرة أضحى ماؤها ملوثا بعد أن صبت فيها المحافظات المجاورة مياه الصرف الصحي والزراعي ومخلفات المصانع.. (هكذا أكد أبي الذي يحمل شهادة عالية ويعمل موظفا في الحجر الصحي).

جدي أصر على أن يستمر في العمل.. وتجاهل رأي الجميع.. دعا الله ألا يميته إلا وهو يعمل.. قال قولة شهيرة ظلت تطن في أذني لفترة:

ـ أنا ولدت علي شاطئ البحيرة.. وأتمنى أن أموت بها..

قال الذين عارضوه:

- ولكنك في سن تحتاج إلى الراحة.

فرد ذراعيه ولم يتثاءب ، بل أعلن:

ـ لا راحة في الدنيا، أنا أكثركم شبابا وحيوية..

ونفخ في قبضتيه كبطل يستعد للمنازلة.

أري جدي في القارب عند طرف البحيرة الملاصق لجنوبي المدينة.. يعتني به يدهنه.. يرمم أخشابه.. "يقفلط" بينها.. يمسح على جوانبه بحنو بالغ كصديق يلاطفه .. يعيد بعض رسوم محتها المياه..

حين "يقلع" به مغادرا.. يشمر عن ساعديه.. ويدعوني لصحبته.. يوافق أبي على مضض.. يغريني بمزيد من النقود تساعدني على شراء تذكرة "بلكون" في سينما الأهلي بدلا من مقاعد "الترسو".. يغمز بطرف عينه.. أثِبُ مثل أرنب.. أرفع يدي مودعا.. وهم جميعا على الشاطئ يغادرونه عائدين إلى البيت..
يخلع جدي جلبابه ويلفه بهدوء ويدسه بين الأخشاب.. ثم يفك إسار قماش الصاري فيملؤه الريح الناعم.. ينطلق بعدها القارب يشق وجه الماء دون توقف.. يجذب طرف الحبل ويضم إلى صدره ذراع الدفة في حنو بالغ..

رغيف الخبز بالحلاوة الطحينية.. "حالة من الشبع المؤقت" يؤكد ذلك ويشير إلى وابور الجاز.. ومع أول رزق يسوقه الله إلى الشباك "ينشل" الأسماك من الماء.. يقوم بتنظيفها.. وغسل الأرز.. ووضع "الإدام".. وخرط البصل.. ودعكه بيد واحدة بالفلفل والكمون.. بعدها يتنهد.. ويرسل نظرة جهة طيور الخضيري والشرشير والغُر والحمراوي.. يتمنى صيدها.. أردد أمامه أن أبي سيشتري لي بندقية.. يقول في سخرية:

ـ منين يا ولداه؟ العبد وسيده على المحطة!

أحاول الفهم.. لكنه يتصنع الصمم ويشير إلى قرص الشمس.. ويطلب مني أن أعد السحب في السماء الصافية.. أدرك ساعتها تمام سخريته..

لا أحد في البحيرة يعرف أسرارها ومخابئ السمك فيها مثل جدي "العباسي".. يشير للجميع إلى مواضعه.. يقول في ثقة:

ـ ارموا الشباك.

يتكالب من بعده عشرات الصيادين الذين استغرقوا وقتا في البحث عن مواقع الأسماك.. يفعلون ما أشار عليهم به.. يفوزون بالرزق الوفير.. بعدها تلهج الصدور بالدعاء له ويثنون عليه..

جدي لا يستخدم المجداف أو "المدراة" إلا لمامًا.. ويعرف مواقع النجوم وزمن هبوب الرياح.. ومواعيد النوات.. ويعرف الساعة دون أن تكون في معصمه.. ويردد علي الدوام مواقيت الصلاة.. وينطلق صوت المؤذن..

شراع المركب من القماش الأبيض السميك.. كتب في أعلاه لفظ الجلالة بخط يده.. يفخر بأنه تعلمها وحده من دون أن يرسله أبوه إلى شيخ "الكتاب" الموكول إليه أمر تحفيظ القرآن ومبادئ الحساب.. أشير عليه بأن يشتري موتورا لقاربه.. ينظر إلي متعجبا.. يفحص ذراعيه مليا.. يرفعهما معا ليوازيا كتفيه مزهوا:

ـ عندك عضلات زي دي؟

ويقهقه فيملأ فضاء الكون من حولنا.. ويكمل:

ـ الموتور للناس الثانية.



*****

مات جدي على ظهر قاربه مثلما تمنى..

القارب وصل إلى طرف البحيرة وحده..

كان حبل الدفة مربوطا بيمينه..

وكانت طيور البحيرة كلها تحوم حول القارب.. تودع صاحبه وتحرسه.. مرشدة إياه إلى طرف البحيرة دون أن يرتطم بالجزيرة.. أو يسحبه تيار الماء إلى المجرى الملاحي.. أو يعيقه ورد النيل أو البشنين والهالوك أو أعواد الغاب..

كان منكفئا على الدفة.. كأنما يعض عليها بالنواجذ.. ولم يتحرك بعد ليربط قاربه في العمود الذي غرزه في الماء.. ولم يهتز مع اصطفاق الموج في جنبات القارب.
ـــــــــــــــــــ

محمد عبده العباسي

بورسعيد / مصر