النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: جمالية المكان.. الوظيفة الدلالية للبحر في شعر حسن الأمراني (1)

  1. #1 جمالية المكان.. الوظيفة الدلالية للبحر في شعر حسن الأمراني (1) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    68
    معدل تقييم المستوى
    18
    جمالية المكان


    الوظيفة الدلالية للبحر
    قراءة في شعر الدكتور حسن الأمراني
    من: "مملكة الرماد"(*) إلى: "الزمان الجديد"(**)


    الأستاذ عبدالرزاق المساوي



    الغربة والبحر




    "عن عينيك البحريتين تغربتُ"


    (ز-ج.20)

    إن العلاقة الثابتة أو المثبتة في الذاكرة الجماعية بين البحر والغربة قديمة وقديمة جدا قدم وجود البحر ووجود الإنسان، فمن أول لقاء لهذا المخلوق المتميز بذلك الخلق العظيم الذي يتحرك باستمرار على مد البصر ولم يتوقف، ويتقلب على الدوام دونما كلل أو ملل، ويصيح في صخب وهرج، ويستولي على القسط الأوفر من مكان خلافة الإنسان ومملكته التي وهبها له الله تعالى..
    من أول لقاء للإنسان بذلك المخلوق العظيم بدأت الأسئلة تتدافع تترى في عالم عقله وفكره ووجدانه وحسه، وتتسع آفاقها في محيطه وبيئته وواقعه، وتؤثر على حالاته وانفعالاته وسلوكاته، كما بدأت تحيط بشساعة البحر ككائن حي مشارك في حياة الإنسان ومتفاعل معه بشكل من الأشكال، وكوجود متحرك ومستقل بذاته ومتفرد بكينونته ومتمتع بخصائصه ومميزاته، وكرمز دال مُبْرِزٍ تارة لعظمته وقوته وسلطانه وتعاليه، ومُبْرِزٍ تارة أخرى لحيويته وسخائه وجوده وكرمه، وأحيانا متميز بهدوئه وسكونه وصمته المشوب بالخوف والحذر..
    ولا أظن أننا نحتاج في رصد هذه العلاقة التي اتخذت أشكالا مختلفة ومتنوعة ومتباينة في اللحظة والتاريخ، واتضحت قسماتها من خلال مستويات عديدة، إلا إلى إطلالة بسيطة وسريعة على التاريخ البشري عامة، والتاريخ الأدبي على الخصوص، والشعري منه على الأخص..
    بل يمكن القول بأن البحر أشد ارتباطا وأكثر التصاقا بقضية لطالما رافقت الإنسان والتصقت به وعمرت معه منذ وجوده إحساسا وتفكيرا وواقعا وإبداعا، هذه القضية هي مسألة الغربة أو مسألة الاغتراب.. واتخذت هذه العلاقة أو هذا الارتباط بين المخلوقين العظيمين في الإبداع الفني عامة والأدبي خاصة مظاهر عديدة وأشكالا متنوعة، ولكل عمل إبداعي أدبي مميزاته وخصائصه ومقوماته وتجلياته وكذا خصوصياته، وتميز من بينها ذلك الفن العريق الذي أولاها الإنسان في كل الحضارات اهتماما خاصا، ألا وهو فن الشعر الذي تناول هذه العلاقة ورصدها في قديمه وحديثه وعلى مر تاريخه، وأخذت من خلاله صورا مختلفة ومعبرة حسب الطريقة التي طرحها فيه صاحبه أو تناولها به مبدعه..

    إلا أن هذه العلاقة بين البحر والغربة في شعر حسن الأمراني تكتسي صبغة خاصة نابعة من الطبيعة التكوينية والتربوية للشاعر الأمراني، وملتحفة ببعد جديد تبناه الشاعر بكل وضوح وجلاء، والذي ينبني على الرؤية الإسلامية لقضية الغربة ومفهوم الاغتراب وهذا ما سنحاول استجلاءه في هذه القراءة معتمدين على تحليل بعض المرسلات الشعرية المبثوثة في ثنايا تنغيم (12) الديوانين..
    يقول المشعر : (13)
    عن عينيك البحريتين تغربتُ
    فغنيت الحلم القادم من رحم البرق

    تخذت البحر صديقا
    هل كان البحر صديقي
    أم كان البحر المنفى ؟ .. (ز-ج 20 و 21 ).
    يخاطب المشعر في هذه المرسلة الأنثى من خلال التركيب الإضافي (عينيك)، عن طريق استعمال ضمير المخاطبة ( الكاف المجرورة ) المضافة إلى كلمة عينيـ.. والأنثى من طبعها أنها تستهوي، وتعلن ميلاد الأسئلة.. وتبعث في النفس حركية مستمرة تتجاوب وحركية الزمان واستمراريته، وحركية الواقع وتقلباته.. إلا أن هذه الأنثى ليست كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان.. فالمشعر لا يتغـزل، وأنى لـه ذلك وهو يتخبط في دائرة السؤال، ويقاد على خطوات الحيرة، ويتقلب في دروب الشك باحثا عن الحق المبين، ومنقبا عن الحقيقة واليقين.. إنه يخاطب الأنثى عن طريق رصد أجمل ما فيها، ووصفه بأجمل الأوصاف، ليفصح عن تغربه " عن عينيك البحريتين تغربت "..
    إنها أنثى ولكنها في شكل جديد أسماها المشعر " الفاكهة المحرمة "، ربما تحيل هذه التسمية عند بعضهم على مرجع تاريخي قديم جدا يمتح من عالم الأسطورة أو عالم التأويل، وهي الحكاية التي تجسد قصة " تفاحة آدم عليه السلام"- كما يروون- ولكن الحق أنها هنا تمثل رمزا لشيء يؤمن به المشعر، وتحيل – بالنسبة لـه - على الحقيقة وعلى العقيدة والإيمان والصلاة... إنها الحقيقة التي ينشدها، ويصبو إلى الوصول إليها، وبلوغ غايته منها على الرغم مما ينتابه بين الفينة والأخرى من مشاكل نفسية وهزات فكرية أو تقلبات اجتماعية وواقعية..
    هذه الأنثى التي يطغى صوتها على أكثر المرسلات الشعرية، أو هذه الفاكهة المحرمة - في زمان يقتل كل رغبة في البحث عن الحق- أو هذه الحقيقة المنشودة التي ترزح تحت الرغبة الملحاحة لطالبيها، تَغَرَّبَ المشعرُ عن عينيها البحريتين مع ما لهما من ميزات ومميزات وخصائص، ومع ما تتمتعان به من مقومات جمالية وتكوينية ووظيفية يفصح المشعرعـنها نعوتا وأوصافا في مرسلة أخرى يقول فيها:
    لم أعرف ما لون العينين الصاحيتين الممطرتين

    الشاردتين المورقتين كروما وعصافيرا
    وأعاصيرا (ز-ج27)

    إن الصيغة التي وردت بها المرسلة والتي تحمل شكل النفي الممزوج بالتساؤل الذي يبدو خفيا في قسماتها " لم أعرف ما لون العينين" عن اللون وشكله وحاله وطبيعته ومكوناته، ووجد الجواب في كلمة بليغة وصافة هي "البحريتين"، وهي على ما يبدو دالة على الزرقة الساحرة.. ومن هنا يجوز لنا أن نتساءل عن علاقة "العينين البحريتين" بـ "العينين الصاحيتين الممطرتين الشاردتين المورقتين.." فما هي يا ترى العلاقة المحتملة بين اللون الأزرق البحري وباقي الصفات الأخرى التي تحمل دلالة التيقظ والشرود والخصب والإوراق ؟.. وفي الأخير ما الذي يربط بين اللون الأزرق واللون الأخضر؟ بين لون البحر ولون نتائج المطر الذي هو للدلالة على الخصوبة والإوراق.. إن القاسم المشترك بين اللونين – على الرغم من تباعدهما على المستوى التكويني/البصري إلا أنهما متقاربان على المستوى الوظيفي/العلائقي كما أوضح المشعر– هو أنهما يورقان "كروما" نباتا وأكلا وحياة ومعيشة..، و"عصافيرا" حرية وطلاقة وغناء..، و"أعاصيرا" التي لها ارتباط بالفيضان وبالماء الذي هو أصل البحر وأصل الخصب، أصل الزرقة وأصل الخضرة، وعلى الرغم مما تحدثه هذه الأعاصير من فزع وخوف ومشاكل وأهوال..، فهي تؤول في آخر المطاف إلى تحقيق الخير والخصب على المدى القريب أو البعيد..
    من هنا نقول: هل تغربت عن عينيك البحريتين الصاحيتين الممطرتين..؟. تعني التغرب عن الخضب؟ وهذا يضطرنا إلى البحث عن مفهوم الغربة والتغرب في "الإسلامية" بصفة عامة وفي شعرها بصفة خاصة، وفي هذه المرسلة على الأخص، فما دام المشعر ينشد الحقيقة – وهي بداية الخصب ومنتهاه – ويصلي للفاكهة المحرمة فكيف يتغرب عن عينيها وهو القائل بعد " تغربت" " فغنيت الحلم القادم من رحم البرق"، ولكي تبقى فاعلية الغناء حاضرة وقائمة وذات مدلول واقعي وجب حضور المغني ووجوده لا غيابه وتغربه.. ولهذا فإن التغرب بالمفهوم الإسلامي الذي يتبناه حسن الأمراني يعتبر حضورا فعليا وواقعيا وحركيا وملموسا بجاهزيته للتدخل والتغيير وإصلاح ما قد يفسده الآخر سواء كان قريبا أو كان غريبا/بعيدا، وليس غيابا وتسترا وركونا إلى الصمت، وتقوقعا على النفس وتقهقرا وارتكاسا وترك الحال على ما هو عليه أو ترك المخلوق للخالق.. إنها الغربة التي تعني وتفيد الحركة والعمل والتقدم وهو الذي نفهمه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "... فطوبى للغرباء: الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي"(14).. فهي إذا غربة حضور وفاعلية وإصلاح وتغيير وحركية وسلوك ودأب وعمل واستمرارية.. وهي بهذا المعنى جاءت في المرسلة الشعرية إذ ارتبطت فيها بالبحر الذي يتصف بالحركية والمد والجزر والتقلب والتغير وعندما يقلب هذا الاسم "البحر" ليأخذ شكل الصفة "البحريتن" فإن المعاني التي يدل عليها الاسم "البحر" تزيد وضوحا وتتوسع دلالة وترتبط بموصوفها لغة وواقعا وبكل الأفعال التي تنسب إليها أو تقع عليها.. الخ.
    عن عينيك البحريتين تغربت

    فغنيت الحلم القادم من رحم البرق
    تخذت البحر صديقا..
    إن المسافة بين الفعل " تغربت" والفعل " تخذت المخفف أوله" المنسوبين للمتكلم والمرتبطين بالتاء المتحركة الدالة على الأنا، هي مسافة التغني بالحلم القادم من رحم البرق، ذلك التغني المنسوب هو الآخر إلى ضمير المتكلم، هي مسافة الحركية والتغيير والعمل الدؤوب، وفيها تضيع كل مقاييس المسافات الكائنة والممكنة والمتعارف عليها، إنها مسافة شعورية تطغى عليها الحركية والاستمرارية والقوى الطبيعية(رحم البرق)- والتعبير هنا يوحي بالقوى الولود - مما يجعل من " تغربت" و" تخذت" كأنهما فعل واحد، اشتركا واتحدا وتما دفعة واحدة في لحظة زمنية (برقية) على أنهما فعل واحد قرر قرارا واحدا " تغربت وتخذت" مارا بتغنيت للمستقبل في لحظة برقية، ولكنها ليست لحظة برقية بمعنى عابرة وسريعة ثم منقطعة،بل هي مستمرة استمرارا تناسليا لارتباطها بالرحم..

    إذن فاتخاذ البحر صديقا دليل على أن " تغربت" حضور فعلي ومشاركة حية في الحياة وفي الواقع المعيش.. وإلا فلا يعقل أن يكون التغرب بمعنى الإقصاء والركون صديقا للبحر للحركة والتقلب.. ومما يزيد هذا المعنى وضوحا وتوكيدا هو ذلك السؤال الذي فجرته الأنثى في المرسلة التالية:
    هل كان البحر صديقي

    أم كان البحر المنفى؟
    عندما كان القرار " تخذت البحر صديقا" انفجر السؤال معبرا عن حالة نفسية وشعورية تنتاب المشعر: "هل كان البحر صديقي أم كان البحر المنفى؟" فانبجست منه دلالات الرضى والتعاطف والمحبة والإرادة القوية والعزيمة، والسبب الرئيس في انبجاس هذه الدلالات هي الأنثى :
    تحملني عيناك إلى جزر النفي فأرضى.. (ز-ج27)
    وهنا تضيق بل تضيع وتتيه المسافة بين الفعل الأول "تحملني" والفعل الثاني "فأرضى" وتزول وتذوب لتترك المرسلة الشعرية تنمو في اتجاه نفسي محض لا علاقة له بخطوط الطول أو العرض لتصل إلى محطة رئيسة في الديوان وهي:
    (البحر المنفى

    والمنافي شعلة تهدي إلى النصر..) (ز-ج16)
    فبعد الإقرار والسؤال يأتي الإقرار والتعليل.. يجئ الإقرار بأن البحر منفى، وقد اتخذه المشعر صديقا، بل يتساءل: أهو صديق أم منفى؟.. فكان الجواب كما يتجلى للوهلة الأولى بعد تلك السكتة التي تظهر في السطر من خلال الفراغ الذي ترك بين لفظة "المنفى" ولفظة "المنافي" غامضا غير واضح، لكن إصرار المشعر على ملازمة "البحر" جعله يجمع بين الصداقة والنفي..

    وإذا كانت المنافي شعلة تهدي إلى النصر، والبحر منفى، والبحر صديق، فإن المنفى هو الصديق، ومن ثمة فالصديق هو الآخر يهدي إلى النصر، وهكذا تقوم علاقة منطقية/رياضية وطيدة على مستوى الإبداع الشعري المتنامي بين هذه الأطراف المكونة للصورة التي تشكلها مجموعة من الألوان الطيفية لتعبر بكل فنية وأدبية وشاعرية عن القضية الجوهرية التي تشكل بنية شعر "الإسلامية" بصفة عامة وهذه المرسلات الشعرية بصفة خاصة، وهي قضية الغربة / العودة أو الخفاء / التجلي..

    البحر = المنفى

    المنفى = الصديق

    البحر = الصديق


    البحر = المنفى =الصديق النصر


    البحر---------
    المنفى ------- الــنــصــر
    الصديق------------

    ونلحظ أخيرا أن هذه المرسلة:
    (البحر المنفى
    والمنافي شعلة تهدي إلى النصر)
    جاءت بين قوسين، فهل هذا للدلالة على أنها جملة اعتراضية تفسيرية تعبر عن مفهوم المشعر لـ"البحر المنفى" وجعلها بين قوسين لينبه إلى ذلك، أم أنها بين قوسين كأنه يهتف بها في صمت ويسترها ويفرغ عليها دلالة السر لما تتصف به من معاني مقتبسة من هدي الإسلام، تلك المعاني التي أصبحت في هذا الزمان فاكهة محرمة؟.. ثم يتسع البحر = المنفى = الصديق ليصبح مملكة ومعراجا إلى الزمن الجديد..
    والبحر كان صديقي، استودعته سري
    وكان البحر لي منفى ومملكه
    ومعراجا إلى الزمن الجديد (م.ر 59)
    وكان البحر معراجا للزمن الجديد بعد أن استحال مع الفجر أسراب طير:
    وكل البحار استحالت مع الفجر أسراب طير
    تغادر وحشتها وتسافر في الجرح
    في القلب، فوارة من دماء الغرابة.. (ز-ج149)
    وهكذا تغادر أسراب الطير وحشتها وتسافر في الجرح وتعرج على الصمت والسكون لتسافر جماعات من الغربة / الخفاء إلى العودة / التجلي مستمدة ذلك من دماء الغرابة نفسها.. وهنا ندخل منطقة أخرى يجتمع تحت ظلها الدم والغرابة، وسنخصص لها القراءة التالية بعد إنهاء قراءتنا:" البحر والغربة"، وذلك لنكشف عن الإيقاع الذي يشكل تنغيم حسن الأمراني ويؤطره، إنه إيقاع الغربة والنفي والسجن والموت والدم والتحدي والتصدي، - وكل هذا إيقاع موحد يدخل في إطار " بنية الغربة والعودة " تلك البنية التي تحكم الإبداع الشعري عند الشعراء الإسلاميين - لكن هذا الإيقاع عند الأمراني يتمثل في أعلى مستوياته وأزكاها حين يصبح صديقا ويهدي إلى النصر ويفتح طريقا إلى الفجر ويسافر في الجرح ويتزود للرحيل:
    حين أسلمك المرجفون إلى غيهب السجن
    ما علموا أنهم منحوك طريقا إلى الفجر.. (ز-ج66)

    هذه المرسلة الشعرية الأخيرة تحمل بنية دلالية مستوحاة من قصة يوسف صلى الله عليه وسلم حين ألقاه إخوته في اليم، كي يصل إلى مصر فيوضع في السجن وفيه تبدأ الدعوة إلى عبادة الله وهي الإرهاصات الأولى للنبوة والرسالة، ومنه أيضا يكسب الاحترام والتقدير والسيادة، وتيسر لـه الطريق إلى العزة، فيصبح سيد خزائن مصر وعزيزها، ثم تتحقق رؤياه التي حدث بها أباه في صغـره (..إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتم لي ساجدين )i(يوسف:4) ( ورفع أبويه على العرش وخروا لـه سجدا وقال يا أبتي هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكي) (يوسف:100) وهكذا انقلبت فتنة ومحنة يوسف عليه وعلى نبينا السلام فيما بعد منحة قيل لـه فيها: ".. تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين"(يوسف:91)..
    حين أسلمك المرجفون إلى غيهب السجن
    ما علموا أنهم منحوك طريقا إلى الفجر..
    إنه الإيقاع ذاته - وإن اختلفت تشكيلاته- الذي يسلك طريقا يؤدي في آخر المطاف إلى النصر، ويمنح طريقا إلى الفجر، ويهب مسلكا إلى النور والوضوح، وإلى الإشعاع والانتصار.. إنه الإيقاع الوحيد الذي يتبنى المفهوم الإسلامي للقتال ويحرض عليه:
    ألا إن كل إيقاع باطل
    إلا إيقاع الموت
    ألا إن كل طريق مسدود
    إلا طريق القتال.. (ز-ج72 – 73)

    يذكرنا هذا الأسلوب في هذه المرسلة بنغمة قديمة ووترة رنانة أصيلة تستمد عراقتها من صدق منطقها وسمو موضوعيتها وغنى فحواها وخصب معناها ورقي ما أحدثته في وقتها واستمرار مصداقيتها.. يذكرنا بأسلوب بيت هز كيان الرسول صلى الله عليه وسلم وحرك شعوره وأخذ عليه لبه حتى قال فيه قولته المشهورة: " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:ألا كل ما خلا الله باطل.." وفي رواية أخرى:"أشعركلمة تكلمت بها العرب.." (15)
    إن هذا المستوى من التناص يصور لنا مدى صدق المرسلة الشعرية ومدى فاعليتها داخل النسق الشعري عند حسن الأمراني في ديوانه "الزمان الجديد" المتناسل بشكل أو بآخر عن ديوانه " مملكة الرماد"، بل يمكن القول بأن هذه المرسلة تعتبر بمثابة بؤرة للديوان، وقد تمثلت بشكل صارخ في ذلك الإيقاع الحقيقي: إيقاع الغربة/العودة، إيقاع الموت/الحياة، إيقاع القتال/الإحياء.."ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون"(البقرة: 154) إنه الموت الذي يهب الحياة، إنه الإيقاع الذي “ يخرج الحي من الميت “ إنه القتال الذي يعطي الحياة للآخرين، ويعطي الخصب ويهب الأمن والأمان، ويذهب بالفتن "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله."(الأنفال:39)
    واحذرهم أن يفتنوك عن الطريق
    يا أيها السيف المجرد
    في كف شعبك، أيها السيف المشردْ
    كالنسر من منفى إلى منفى
    (البحر منفى
    والمنافي شعلة تهدي إلى النصر).. (ز-ج168)
    يبقى الإيقاع نفسه هو البارز والمسيطر على الصورة، بل هو الوحيد مع اختلاف في تشكيله وطرق التعبير عنه، إنه التواجد الفاعل والحضور الفعال، إنه القتال والجهاد بالمعنى الإسلامي الذي يزخر بالحياة، إنه السيف المجرد والمشرد، ولكن ليس المشرد صعلكة يضر ولا ينفع، ولكنه المشرد المتعالي عن صفات النقصان، كتعالي النسر، القوي كقوته، الحاضر المترقب كحضور النسر وترقبه، إنه السيف المجرد الذي شردوه ونفوه وأبعدوه، فهوالمشرد تحت الضغط، المتنقل من منفى إلى منفى، ومن غربة إلى غربة، ومن بحر إلى بحر، ومن ثمة من صديق إلى صديق، ومن نصر إلى نصر، ومن فجر إلى فجر، ومن تحقيق للوجود وحضور إلى تحقيق آخر وحضور جديد..
    إنه الإيقاع الذي يصدر عن الديوانين "مملكة الرماد" و"الزمان الجديد" بشكل واضح، ويتجلى أول ما يتجلى في العنوانين نفسيهما، فمن "مملكة الرماد" إلى "الزمان الجديد" مسافة خاضعة لبنية الغربة والعودة، وكل زمان جديد إلا وترتبط بدايته بالغربة/الرماد لتتطور به الأحداث فيخرج منها كما تخرج الجمار من تحت الرماد " بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء.." (16) هذه هي طبيعة هذا الزمان الجديد الذي سيرتبط بالبحر أيما ارتباط عن طريق آصرة الدم ورابطة القتال والجهاد متوسلا الصحبة:
    نحن لابد أن نبحر الآن
    لابد يا صاحبي
    أن نقدم من دمنا
    ثمنا للزمان الجديدْ.. (ز-ج8)

    هذه المرسلة التي تصور قمة الإصرار على الإبحار، تصور لنا أيضا قمة الفهم لنص الحديث الشريف: "...الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي.." ذلك الإصلاح الذي يحتاج إلى ثمن، ولن يكون هذا الثمن سوى الدم، سوى الموت الذي يهب الحياة لمن يرافق في الطريق ويصاحب، لذا وجب الحذر ولزم التنبه إلى أن تنتهي المهمة وتسلك الطريق بأكملها، طريق الجهاد والسيف المجرد والمسلول.. ونعود إلى المرسلة السابقة لنختم بها، وهي تطل علينا في تناص بديع مع الآية الكريمة:"واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"(المائدة:51)

    واحذرهم أن يفتنوك عن الطريق
    التعديل الأخير تم بواسطة المساوي ; 14/08/2007 الساعة 08:55 PM
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08/07/2010, 07:41 PM
  2. ظواهر جمالية
    بواسطة مصطفى البطران في المنتدى مجلة المربد
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 18/11/2009, 08:01 PM
  3. جمالية المكان 2 البحر والدم في شعر الأمراني
    بواسطة المساوي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 24/08/2007, 02:33 AM
  4. جمالية المكان في الإبداع الشعري.. مقاربة إسلامية مقترحة.. +1+
    بواسطة المساوي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 15/05/2007, 02:53 PM
  5. جمالية المكان: مقاربة إسلامية للمفهوم.. +2+
    بواسطة المساوي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04/05/2007, 12:39 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •